أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمر بن بوجليدة - من نحن كشهداء على العصرأو كيف نتخيّل كيفيّة وجود مغايرة؟















المزيد.....



من نحن كشهداء على العصرأو كيف نتخيّل كيفيّة وجود مغايرة؟


عمر بن بوجليدة

الحوار المتمدن-العدد: 3562 - 2011 / 11 / 30 - 08:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تقديم:
إذا كـان مـناط اهـتمامـنا تحـديد مفهوم الحداثة، فإنّه حـريّ بنا الـوقـوف عـنـد بـدايـات ظـهـورهـا و رصد عـلامات تـشكلـها، عنـدئذ نستبين أن الإرهـاصات الأولـى لتبلور مفـهوم الـحـداثـة لاحـتْ مـع فلاسفة عصر التنوير، بل قل منذ إسهامات مفكري القـرن السابع عشر، تلـك الإسهامات التـي كانت فيما بعد منطلق الحداثة من حيث هي قيمة و رؤية للعالم.
1- ظهور الحداثة و معناها:
لـقد جعـلنا "بـودريار" على وعي بـأن الحداثة لـفظ غامض، يضعـنا أمـام مـشكـلات مـتـنوعـة(1) فـهـي تـرفـض أو تـقبل فـي أسعد الحـالات، انفعاليا، و الحال انه لابد أن نتدبرها من جهة المفـهوم، لندقق دلالتـها.
و ليـس يمكـن التعـرف عـلـى هـذا اللفظ إلا بالـوقـوف عند المعنـى اللغوي: إذ نلاحـظ أن كلمة "حداثة" مشـتقة من نفـس الأصل اللاتيني لكـلمـة "حـديث"، ذلـك أن كـلمـة"حديث" فـي صياغـتها الـلاتينية modernus قـد استخدمت لأول مرة خلال القرن الخامس ميلادي، وهي كلمة مشتقة من ظرف حالي هوmodo الذي يعني "مؤخرا" أو ما كان"قريب العهد" وهـي ذاتها كلمة مشتقة من modus التي تعنـي "قياس"(2). فكـلمة modus قـد استخدمت
مـنـذ الـبدايـة لـلإشـارة إلـى ماهـو جـديد، كـما اسـتخـدم لـفـظ modernus حـيـنها " لتـمييز
الحـاضـر الـذي أصـبح مـسـيحـيـا عـن الـماضـي الـرومـانـي"(3) أي فـي حـقبة جـديدة غايتها التميز عـن السابق،القديم(4).
لـقـد بان مما فات أن نعت "حـديث" يتصل بالزمانية ، أي بتصور خطي للزمان وهـو ما يقابل التصور الأسطوري الـدائري ، و مـن ثـمة فـظهـور كلـمة modernus في القرون الوسـطـى إنما كـان بمـثابة الإعـلان عن بروز زمان خطي. إلا انه من الحري بـنا أن نوضح أن " الكسيس نوس Nouss" قـد رجح أن يكـون لفـظ Modernity قـد ظهـر داخـل الـلغـة الانـجـليـزية أولا خـلال الـقـرن السابـع عــشـر(5) . لـكن اللفظ لـم يكتسب مـعناه الـعـمـيق إلا مـع "تيـوفيل بودلـير" في كتابه " رسام الحـياة الحديثة"الـذي ألـفه سنـة 1859 وهـو ما يعني أن اللـفـظ قـد ظهـر أولا كلفظ جمالي: إننا إزاء "حداثـة فنية". و نجد النص المؤسـس لمعنـى الحداثة بالقسم الرابع من الكتاب،وهـو قسم يحمل عـنـوان" الحداثة" حيث نقرأ ما يلـي " هـذا الإنـسان يجري و يبحـث، فـعـم يبحث؟ (...) انـه يبحث عـن هذا الشيء الـذي استسـمحكم في تسميته الحداثة"(6).
و لـكـن مـن المـفيـد في القـصـد الـذي يعـنـيـنا أن نوضح أن الـوعــي بالحـداثـة رؤيـة للـعـالــم قـد سـبـق فـي الحـقـيقة ظهـورهـا لـفـظًا ، سـيـتـعـلـق الأمـر إذن بـإرجـاع الحـداثـة رؤيـة للـعـالـم إلـى عــصر الأنــوار أو إلـى الــقـرن الـسابـع عـــشـر إذ أن " اخـتـراعـات " غـالـيـلـي " تـدشـن إنـسانـية النـهــضة"(7) ولا جـدال فـي أن" ديـكـارت " هــو أبـرز وجـوه الحـداثة العلمية و الفلسفية، إلا انه و فــي مقـابل ذلـك اٍرتأى "هـابـرماس" أن يـكـون عـصر الأنوار هو عصر انبثاق "مشروع الحداثة".
ولعل أهم ما تولد عن اشتغال "هابرماس" بقضية الحداثة أطروحته القائلة:إن مشروع الـحـداثـة الـذي رسـمـت مـعالـمه مـع عـصر الأنـوار لـم يـنجـز بعد (8). لذلك يجتهد في نسج الـخـيـوط ، بالـرجوع إلـى الـلحـظتـيـن الـكانـطـية و الهـيغـلية و إلـى فـلسفة الأنوار بحثا عن الـضـمـانـات الــذاتـية للحـداثـة. و يـؤكـد "هـابـرماس" أنـه بـرغم تعـدد دلالات عبارة حديث modernus الـلاتـينية فإنها تعـبر عـن وعي مـرحلة تتحـدد بالقـياس إلـى ماض و يقـدم هذا الـوعـي نفسه بمثابة نتيجة انتقال من القديم إلى الحديث(9). و قد شكلت الحركة الفلسفية لعصر الأنـوار، في تقـدير"هابرماس"، نقطة تحول جوهرية في مسار الحداثة إذ أصبح العقل، الـنقد والـتقـدم، بـمثابـة الأسـس الضرورية للـفـكـر والمـمارسة، و أدخـلت هـذه الحـركة المسـتقـبل بـعــدا جــوهــريًا فـي الـحـياة الإنـسانية. و فـي سـياق سعـيه إلى الظـفـر بنحـو مـن التعـريف الأصيل و الصارم لمعنـى الحـداثـة يــذكـرنا " هـابرماس" أن "هيغل" يرى أن ماهية العالـم الحــديث تـتـركـز في فـلسفة كانط ، وأن عـصر الأنـوار الـذي جـعل مـن العـقـل صنما يعبد، ينعكس و يلمع في فلسفة كانط (10).
إلا أن"هـابـرمـاس" يعـود للتأكيد على أن "كانط" لم يعد اليوم رمزا سعيدا للحداثة،بل صار عـلامـة تـعـبـر عـنها دون أن تـفهـمـها بـما هـي كـذلـك أو لعـله لـم يكن قـادرا علـى أن يـسـتـخـرج مـفـهـوم الـحـداثـة كـما حـدد مـفـهـوم الـتـنـويـر(11) فالـسـمات الأساسـية للـعـصر الـحــديث تـنـعـكـس عـلـى الفـلـسفة الكـانطـية كـما لـو كـانـت مرآة(12). إنها مـرحلة مـخـاض الـحـداثـة باعـتـبـارهـا عـصرا كـان فـي طور الانفلات و قد انعـكست على الصرح الفلسفي الكانطي الذي سجلها دون أن يعيها.
وينمي "هـيغـل" كما يـوضح"هابـرماس"(13) مفهـوما للحداثة،فقد بدأت الحداثة تطرح عـلى نفسها مشكلـة العـثور في ذاتها على مشروعيتها الخاصة،أو أن تستمد بلغة "هابرماس" ضـمانـاتـها من ذاتها، لقـد كان لهيغل إذن فـضل استشفاف المعالم الأولى للتحولات التاريخية لإهـلال الـحـداثـة، مـستـشعـرا أن البشرية دخلت مع الأزمنة الجديدة عهدا جديدا أنجز قطيعة جذرية مع الماضي.
و لا شـك أن الـفـلسفـة إلـى جـانـب الـعـلـم أفـضت إلـى انـبـثاق الـحـداثـة و ذلـك فيـما تـضمنـته فـلسـفة "ديكارت" من تمثل للإنـسـان ككوجيطـو بمعنى إثـبات الإنـسان كذات، هي بـمثابة الأسـاس لكل شـيء وهـو ما يعبر عنه بالـذاتية(14)، إذ لا يستمد إنسان الحـداثة قوانـينه و قـيـمه لا مـن الـطبيـعة ولا مـن الإله بل يؤسسها بنفسه انطلاقا مـن وعـيه و إرادته، توكيدا لسيطرة عـلى الـعـالم تقنية مـضمـونها الـمعـقـولية القائمة على الحساب والتكميم و الترييض. فـمن" ديكارت" إلـى "كانط" إلى "هيغل" مثلت قيم الحـداثة تحـولات فـي رؤية العـالم طالت الـديـن و الأخـلاق و العـلـوم و الفـن، و هـي الإرهـاصات الـتي أفـضت إلـى ولادة الـمجتمع الحديث.
2- فوكو و إجبار الحداثة على أن تعي ذاتها كإشكال:
إلا أن"هـابـرماس" يـسـتنتج أن إسهام "هيغل" في فهم الحداثة بالرغم من قيمته ينتهي إلى إشكال كـما لـو أن الـحـداثة لم تعـثر على ضماناتها الخاصة. و تلك هي المعضلة، إلا أنه يسـتأنف التـفكير فـي البعد النـقـدي للحـداثة، و تعـود الروح للنـظـر الفلـسفي الـذي حكم عليه "هيغل" بالإغلاق والاكتمال، فهيغل يفهم الحداثة بما هي اكتمال العقل و بـما هـي مـصالحة العـقـل مـع ذاتـه. إلا أن عــدم التـناسب بـين انغـلاق بنية التاريخ ولا محدودية النظر الفلسفي - أي الـتـفلـسـف بـما هـو مهمة لا متناهية- يتطلب التحرر من إسار القراءات السائدة، و ذلك باستسلاك قراءة جديدة.
وهـذا ما يـجـعلـنا نـعـتـبر أن"فـوكو" و إن عـده"هابـرماس" مـن أولئك الـذين يسميهم "بـفـلاسفة مـا بعـد الـحـداثـة" "الـذين يـمـثلـون تيارا مناهضا للحداثة"(15) إنـما يجبر الحـداثة عـلـى أن تـعـي ذاتـها كـإشكال، ومـن ثـمة يـكون"فـوكو"حـداثـيا منذ أن نتـبـيـن أن ما يسمـى بـ "ما بعـد الحداثة" إنما هو امتداد نقـدي للحداثة(16) أي أن " ما بعد الحـداثة " لـيس الحـداثة فـي منتهاها، بـل في حالتها الوليدة وهي حالة مستمرة...(17)
وفـي تـقديـرنا أن انـبثاق الـحـداثة رؤية للعـالـم إنما استند إلـى أسس علـمية (= تصور العالم كآلة محكومة بقوانين صارمة) و فلسفـية تبلورت خلال القرن السادس عـشر و السابع عـشر، أما القرن الثامن عـشر فـقد وضـع الأسس السـياسـيـة للحـداثـة (= ظهور الديـمقراطية كمـراجعة لأسـس السلـطة) أما التطور التقـني و الـنمو العـقلاني و النسقي لوسائل الإنتاج فقد أفـضى خـلال الـقـرن الـتاسع عـشر إلـى تـصور الـحـداثـة باعـتـبارهـا عــصر الإنـتاجـية(18) و بالتـالـي يـجـوز الـقـول مـع "بـودريار" " لـم تظهر الحـداثة إلا فـي القـرن السادس عـشر، لكي تأخذ اطلاقيتها في القرن التاسع عشر"(19). و إن هـذا الأمـر ليفتـرض أن "الحـداثـة(...) هـي قبل كل شيء حـركة تاريخية، معـينـة، نتجت عــن مـسار فـكـري بـطـيء، هـذا المـسار قــد أحـدث انـساقا جـديـدة مـن التصورات على الصعـيد العلـمي و الإبداعي، فترتب عن ذلك انبثاق نمط جديد من المعقولية"(20).
و نحن نلمـس إذن أن سؤال الحداثة ليس مجرد سؤال، من بين عدة أسئلة، يتعين على الـفلسـفـة أن تـطرحـه عـلـى نـفسـها، بـل ربما كان هو السؤال المركزي، سؤال الأسئلة الذي يطرحه العصر على نفـسه من خلال الفلسفة ليفهم ذاته و يعـرف ماهيته ومعـناه و يسـتشرف مآله.هـاهـنا تجـلـى عـصر الأنــوار بوصـفه الصيـغـة الـكـبـرى لبـرنـامـج الحـداثـة ،كـزمن، فـما نسميه الـحداثة هـو فـي بنـيته ووظـيـفـتـه مـوقــف أكـثـر مـنـه عــصر أو فـتـرة زمـنـية،
وهـكــذا فـإن "كانـط" يـمـثـل - في نـظـر فوكو- عتبة حداثتنا، فـفي منتصف ثمانينات القـرن الـثامـن عـشر الألمانـي طـرحـت مجـلة ألـمانية عـلـى كـانـط الـسؤال الشهير: ما هو التنوير؟ (1784)(21)، أي خمس سـنوات قـبل الـثورة الفرنسية(22)، و يعتـبر هذا المـقال بمـثابة تدشين لنمط جديد من التفكير، يبدو أنه يجد فـي سؤال ما الحداثة؟ سياقه الخاص(23).
هذا النص" المدهـش و المثير معـا" يكتسب أهـمية كبرى بالنسـبة إلـى فـوكـو، و ذلـك مـن حـيث انـتماؤه إلى حيز الأحداث و التاريخ، فهو يحاول أن يفهم قيمة هذا الحدث و تأثيره عـلى اللاحـق مـن الأحـداث و بالتالـي فان هـذا الـمقال يعكس وعي الفيلسوف بالعـصر الـذي ينتمي إليه، و بالأحـداث التـي ستغـير وجـه، و وجـهـة الـتاريخ. فـما هـو الـحدث الذي نسميه الأنوار؟ الـذي يحدد بـطريقة ما من نكون.
للإبانة على ذلك اختار"فوكو" أن يؤكـد تعــريفـا كانطيا مفاده أن الأنوار هي الخروج من القصور و العجز، إلى القدرة و المسؤولية، ذلك أن الأنـوار إنما تعني قدرة الإنسانية على استعمال عقلهـا الخاص، دون الخـضوع لأية سلـطـة، هـاهـنا تـتـراءى أهـمية النقد و يتحاذى العقل و الأنوار و النـقـد، بـل ربما سيـكون بحسب فوكو نقطة انطلاق ما يسـمى الآن بالعـلوم الإنسانية التي أخضعت الـذات إلـى التـساؤل الموضوعي العلمي(24). غير أننا نـعثر هنا على علامة حاسمة تـؤكد تعلق الفـكر الفلسفـي بالـحاضر، انه تـحت هـدي هـذا النـحـو مـن النـظر يصـبح بينا أن" الحـاضر" جـدير بالتفكـير الفـلسفـي، لكن فـوكـو يرى أيضا أننا لا يمكـن أن نفصل سؤال التنوير عن سؤال الثورة(25) و إن كان ما يـهـم كانـط ليـس الثورة فـي حد ذاتها، بل الآثار المتبـقية فـي أذهـان الناس الـذين لـم يعيشوا مخاضها.
إن هـذين السؤالين - فـيما يرى فـوكـو- يفتـتحان الحداثة الفلسفية في الغرب، و أسـئلـة كـانـط إنـما تـصب في طريقة التفلسف التي تهتم باللحظة الراهنة (26) : ماذا يحدث اليوم؟ ماهو هذا الآن الـذي نحيا، و نعيش و نعبر في حقله؟
3- الحاضر جدير بالتفكير الفلسفي:
إنه هـنا بالـتحـديـد يبـدأ وجـه الاقتران بـين نـص كانط و" سؤال الحاضر" أي السؤال عـن الآنـية فـي التجـلـي: مـاذا يحدث الآن؟ ما هـو هـذا الآن؟(27) إن تساؤل كانط مكن فوكـو من تقديم تأويـل يـرى فـيه أن المسألة الأساس فـي الفلسفة هـي مسألة الحاضر(28). و من نكون نحن في هذا الحاضر؟
يـبدو أن سـؤال كـانـط يتعـلق بهـوية الـحاضر، بمـجال التاريـخ و الأحـداث، كأحـداث فلسفية ينتهـي إليـها الفيلسوف، كما يشير إلـى مشكلة الحـاضر و سـؤال الحـاضر الـذي يشير بـدوره إلـى الـ"نحن" أي مـن نـحـن كــشـهـداء عـلـى عـصر الأنـوار هـذا؟ فمـشكلة العصر الحـاضر هـي مشكـلة مـن نحـن؟ فـي هـذه اللحظة الدقيقة، ولا شك أن الهدف الرئيس اليوم ليـس أن نكـتشف، بل أن نرفـض مـن نحن(29) أي أن نتخيل كيفية وجـود مغايرة و سبلا بـها نـخـرج مـن تقـنيات السـلـطة الحديثة المتمـثـلـة فـي تانـي التـفـريد و التشـميل(...) احـتراما للفردية،وإصغاء لانتفاضة الشتات وتأكيدا لحق الاختلاف و إصرارا على انتهاك التماثل(30) . بـذلـك يستبين أن الفـلسفة مـن حـيث هـي مـمارسة تجـعـل من الآن و الراهن إشـكالا، نـشاطا فـكريا، مـولـدا لـلاخـتـلاف و المـغـايرة والشـذوذ، يـسعـى إلـى مـمارسة تـشخـيـصية للحاضر،يقول فـوكو" إذا وجــد الآن نـشـاط فـلسـفـي مـسـتـقـل، أي إذا كـانـت هـنـاك فلـسفة لا تكون نشـاطا نـظـريا داخـل الرياضيات أو علم اللسان أو داخل علم الاقتصاد السياسي، إذا كانت هـناك فلسفة حرة مستقلة عـن كـل هـذه الميـادين نسـتطـيـع أن نـحددها كـمـا يـلـي: هي نشاط تشخيصي"(31)، بفاعلية الحـس النـقـدي، و يسـتـأنـف فـوكـو " ما هي إذن الفلسفة الـيوم - و أعني النشاط الفلسفي- إذا لم تكن العـمل الـنـقـدي، - لنفكر بالفكـر- و إذا لـم ترتـكـز على عـملية مـعرفـة - كيف يمكن أن نفكر بوجه آخر و إلى أي حد، عـوض أن نشـرع ما نعـرفـه و نبرره"(32). و هـكذا نأتي على تميز الفلسفة خطابا للحـداثة أو خـطابا عن الحداثة(33).
يستفاد مـن ذلـك أن طـرح الـفلسفـة للراهـن، و الآن كإشكال، إنما يسمح لها بأن تكون خـطابا عـن الحـداثة. بيد أنه علينا أن ننتبه إلى أنه مع" كانط" ظهرت صيغة جديدة نابعة من " آنية المتـسائـل" عـن الخـطاب بـدءا مـن الآن أن يـضـع فـي الحـساب "آنيته"، لـكـي يـحدد فـيـها مجـال تواجـده الخاص، مـن جـهة، و يتلفـظ بمعناه مـن جهة ثانية ثم وفي نهاية التحليل كيف يميز الوظيفة التي يسـتطيع القـيام بها داخل هذه الآنية(34).
إنه فـي هـذا الـسياق تـكـون الـفلسفة الـتي تُعنـى بالحاضر موضوعا للمساءلة والتفكير فـلسفة نقدية تطرح سؤال " الآنية" و" المجال الحالي للتجارب الممكنة، حيث الأمر لا يتعلق بتحليل الحـقـيـقة بـل بـما يمكن أن نسـميه انطولوجيا الحاضر، أي انطولوجيا نحن ذاتنا"(35).
و لـكـن مـن أجـل أن مـطـلوبـنـا مـن " الحـاضر" أو" الآن " لـيـس مـجــموع الآليات الاجــتـمـاعية والاقـتـصادية وإنـمـا الـتـرابــط الـوثـيـق بـيـن المـعـيـش و اخـتـيارات النـاس وعــلاقــتـهـم بأنـفـسـهـم و المـؤسـسـات الـتـي تـحـيـط بـهـم حـيـث الأزمـات ، فـإنـنا نـؤكـد على أن " بعـد الحدث" في عملية التفكـير و المساءلة الفلسفية هـو نـقـطة الارتكـاز لتشخيص الـحاضر في فلسفة فوكو. ألم يؤكـد فوكو، أبدا أنه يـحلم "بالمثـقف هدّام الـقناعات و البداهات العـمومـية، بالـمـثقـف الـذي يسـتكـشـف فـي عـطـالـة الحـاضر و اكـراهـاتـه نقـاط الضـعـف والشـقوق وخـطوط الـقـوة، بالمثـقف الـذي يتحرك باستمرار،دون توقف ، غـيـر عـارف أين سيصبح غدا و لا بماذا سيفكر غدا، لأنه شديد الالتـصاق بالحاضر"(36).





















المراجع:

(1) Jean Baudrillard ,La modernité,Encyclopidia universalis. Corpus 15 p 552
« La modernité n’est pas un concept sociologique ni un concept politique, ni un concept historique : c’est un mode de civilisation caractéristique qui s’oppose au mode de la tradition c est-à-dire toutes les autres cultures antérieures ou traditionnelles »
"ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا أو مفهوما سياسيا أو مفهوما تاريخيا بحصر المعنى، و إنما هي صيغة مميزة للحضارة تعارض صيغة التقليد أي أنها تعارض جميع الثقافات السابقة أو التقليدية".
« Pourtant elle demeure une notion confuse qui con-note globalement toute une évolution historique et un changement de mentalité. »
"و مع ذلك تظل الحداثة موضوعا غامضا يتضمن في دلالته إجمالا الإشارة إلى تطور تاريخي بأكمله و إلى تبدل في الذهنية".
- أنظر: Encyclopidia universalis : La modernité : Corpus 12/ pp. 424-426
- أنظر: ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثالث، باب الحاء، مؤسسة التاريخ العربي ،لبنان، الطبعة الثانية 1993 ص75: نجد " الحديث نقيض القديم، و الحدوث نقيض القدمة و الحدوث كون شيء لم يكن و أحدثه الله، فحدث، و حدث أمر، أي وقع".

(2): W. Habermas, Modernity versus post modernity, New jerman, Critique n° 22, 1983 p 03,

(3) Alexis Nouss, La modernité, Paris, Grancher,1991, p 25
(4) Jean Marie Domenach, Approche de la modernité, Paris, Marketing,1986, p 14
(5) نور الدين الشابي، نيتشه و نقد الحداثة، دار المعرفة للنشر، طبعة أولى 2005، ص44.

(6) Baudlaire, Le peintre de la vie moderne : œuvres complètes, Paris, Gallimard, le pléiade 1986, p 1163
(7) J. Baudrillard, La modernité, Encyclopidia universalis, p 552
(8) هابرماس، الحداثة مشروع لم ينجز، ترجمة بسام بركة، الفكر العربي المعاصر، العدد 39/1986

(محاضرة قدمها سنة 1980 بمناسبة تسلمه جائزة ادورنوAdorno و ترجمت إلى الفرنسية من قبل G. Raulet في مجلة Critique العدد 413 السنة 1981)

إن ما لم يستنفد بعد من برنامج الحداثة هو طاقتها التحريرية، إن الحداثة ما تزال واعدة و أنها مشروع لم ينجزUn projet inachevé و من ثمة انبرى هابرماس إلى استئناف مشروع الحداثة و لكن من دون ميتافيزيقا الذات، و ذلك خروجا من براد يغم الذات إلى براد يغم اللغة حيث يكف الفيلسوف عن تصور العقل بوصفه أنا أفكر معزولا و يأخذ في فهمه بوصفه فعلا تواصلياAgir communicationnel

را: فتحي المسكيني، الهوية و الزمان، تأويلات فينومينولوجية لمسألة" النحن"، دار الطليعة بيروت، ط أولى2001.

(9) Habermas, Le moderne et le post moderne , Revue lettre internationale n°14 ,1987,p39

(10) ميشال فوكو، كانط و الثورة، مجلة الكرمل، العدد 12، 1984 ،ص ص70-71
(11) صالح مصباح، التنوير الكلاسيكي في تنوعه و تاريخيته: راديكاليا و معتدلا و مضادا، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد 38-39 ،2005، ص65.
يقول مصباح: و ينبغي أن نلاحظ هنا أن في نصوص كانط تصورا كاملا للحداثة العلمية على الأقل، نعني الذي قدمه في تصدير الطبعة الثانية لنقد العقل المحض الشهير، لا يتوقف عنده لا فوكو، الذي طرح سؤال الحداثة عند كانط من مقام البحث في أسس الفكر الغربي الحديث، و لا هابرماس الذي اهتم مثلا بدور كانط في الحداثة الاستيطيقية و وضع جانبا الحداثة العلمية ،ص 66 .
كما توضح أم الزين المسكيني:"... فان كان فيلسوف كونكسبرغ قد انشغل في نقد العقل الخالص(1781) بفحص شروط إمكان الحداثة العلمية، و إذ كان قد شرع في نقد العقل العلمي (1788) لمبادئ حداثة أخلاقية، و إن كان قد خصص نقد ملكة الحكم (1790) لرسم ملامح حداثة استيطيقية فهو يبدو لنا في كتاب 1793 عاكفا على تعيين الدرب الآمن نحو حداثة دينية في فهم و استعمال الدين "في حدود مجرد العقل" إذ يتعلق الأمر عنده بالخروج من فضاء الملة إلى أفق المواطنة الكونية.
أنظر: أم الزين المسكيني،" راهنية كانط: هل ثمة حداثة دينية ؟"، الفكر العربي المعاصر، العدد 130-131 ،2005 ،ص ص62-70.

(12) محمد سبيلا، كانط و العصور الحديثة، الفكر العربي المعاصر، العدد114-115،2000،ص ص29-34

(13) هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، تعريب فاطمة الجيوشي،منشورات وزارة الثقافة،دمشق 95 ،ص29 (و قد تضمن هذا الكتاب مجموعة المحاضرات و الدروس التي ألقاها بجامعة فرنكفورت و الكوليج دوفرانس لسنتي 83-1984).

(14) بالرغم من أن "نموذج المفكر لم يعد ديكارت الذي يبني حداثة تجد في ماهية الذات أساسها الميتافيزيقي:إن
ديكارت لئن صاغ سؤال من أكون؟ فانه تراجع عنه و استعاض عنه بسؤال آخر من جنس سؤال ماهو؟
الإغريقي، انه سؤال ماذا أكون؟ إن ديكارت عوض سؤال من؟ Le qui ? بسؤال ماذا؟ quoi ?.
راجع: فتحي المسكيني، الهوية و الزمان (=مرجع سبق ذكره) ص127

(15) فتحي التريكي ،" الحداثة و المعقول" (=مرجع سبق ذكره) ، ص26.

(16) فتحي التريكي ،" الحداثة و ما بعد الحداثة"، (=مرجع سبق ذكره) ، ص 216.
أيضًا رضوان زيادة، صدى الحداثة ، ما بعد الحداثة في زمنها القادم، (=مرجع سبق ذكره)، ص 28

(17) Lyotard, La condition post moderne, Minuit- Paris 1979 (Cères Edition. Tunis 1994), p 5 (=لاحظ ليوتار في كتابه" شرط ما بعد الحداثة" إن ما نسميه ما بعد الحداثة لا تعدو أن تكون الصيغة الأخيرة للحداثة التي تزعم أنها قد عوضتها)

(18) نور الدين الشابي، نيتشه و نقد الحداثة، دار المعرفة للنشر، طبعة أولى 2005، ص 47.

(19)J. Baudrillard, La modernité, Encyclopidia universalis, p552

(20) فتحي التريكي ،"الحداثة و المعقول" (=مرجع سبق ذكره) ، ص15.
(21) الترجمة العربية لهذا النص: ما هو التنوير؟ Was ist Aufklarung ? ، يوسف الصديق، الكرمل، العدد 12 لسنة 1984 ص ص 70-71
أيضا: حميد طاس، مجلة فكر و نقد، السنة الأولى العدد 5 ، كانون الثاني 1998
يوسف الصديق، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، العدد38 -39، ص ص 6-10.
Magazine littéraire n°309, Avril 1993, pp. 61-73 Foucault, Qu’est-ce que les lumières ? ,
Voir aussi le cours publié in Magazine littéraire n°207, Mai 1984, pp. 35-39 نقله S. Piobetta إلى الفرنسية سنة 1784Qu’est-ce que les lumières ? Kant, Was ist Aufklarung ?
- ورد في موسوعة لالاند: أن الأنوار Aufklarung حركة فلسفية في القرن الثامن عشر متميزة بفكرة التقدم و بتحدي التقليد و السلطة و بالإيمان بالعقل و بالآثار التهذيبية للتعليم و بالدعوة إلى التفكير و إلى الحكم ذاتيا على الأمور.
أنظر: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت- باريس، ط 1 ،1996 .

(22) صالح مصباح، التنوير الكلاسيكي، (=مرجع سبق ذكره) ، ص ص 64-95.

(23) فتحي المسكيني، الهوية و الزمان، (=مرجع سبق ذكره) ، ص39

(24) مخطوط لميشال فوكو حول انتروبولوجية كانط – السربون- باريس: الأطروحة الثانوية التي أشرف عليها جان هيبوليت .
(25) فوكو، كانط و الثورة، يوسف الصديق، المجلة التونسية للدراسات الفلسفية، ص ص 11-17 .

(26) في مقال يحمل عنوانا لافتا هو ريبورتاجات الأفكارLes reportages d’idées(= أنظر Dits et Ecrits,pp 706-707 ) وضح أنّه بدلا من مزاولة البحث الفلسفي بالمعنى التقليدي، يمكن الكتابة بواسطة" التحقيق الصحفي" ارتباطًا بالوضع الراهن: أنظر فتحي المسكيني، الهوية و الزمان، (= مرجع سبق ذكره)، ص 145
(27) M. Foucault, Dits et Ecrits (1954-1988) t 4, Gallimard, p 562.
(28)"إذا كان فوكو فيلسوفًا كبيرًا فلأنّه استعمل التاريخ لفائدة شيء آخر" « Si Foucault est un grand philosophe c’est parce qu’il s’est servi de l’histoire au profit d’autre chose » G.Deleuze, Foucault : histoire du présent le Magazine littéraire n° 257,Sept 1988/ texte extrait de
l’intervention de G.Deleuze au colloque M. Foucault philosophe, organisé du 9 à 11
janvier 1988.
(29) درايفوس+ رابينوف، م فوكو مسيرة فلسفية، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي(د-ت) (فصل بحثان حول الفرد و السلطة ص 193).
(30) عبد العزيز العيادي، المعرفة و السلطة،(= مرجع سبق ذكره)، ص 12

(31) M. Foucault, La quinzaine littéraire n°46, Mars 1968, pp. 20-22
(32) M. Foucault, L’usage de plaisir, Paris, Gallimard 1984

(33) M. Foucault, Dits et Ecrits (1954-1988) t 4, Gallimard, p 567

(34) Ibid, p 567 M. Foucault

(35) M. Foucault, Ibid , p 569

(36) انظر: مقابلة مع النوفيل أوبسارفاتورL



#عمر_بن_بوجليدة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الحاجة ال الحرية


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عمر بن بوجليدة - من نحن كشهداء على العصرأو كيف نتخيّل كيفيّة وجود مغايرة؟