سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3536 - 2011 / 11 / 4 - 19:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تناولت فى هذه السلسلة من " تديين الساسة أم تسييس الدين " العلاقة الجدلية بين الدين والسياسة لنقوض فى الطريق الفكرة الشائعة عن أن الساسة يقفزون على الدين ويسخرونه لترويج مصالحهم والدين منهم براء .. لا ننفى بالطبع حدوث هذا على مدار التاريخ ولكننا معنيون بقضية أن الدين ذاته جاء من فعل السياسى ( النبى أو الملك) الذى رسم الإله وحدد مساره ومداراته ونسج النص وحاكه ليخدم ويروج لرؤى ومشاريع سياسية , فهو يرى أن رؤيته حينما تتلحف بالمقدس ستحظى بالقوة والدعم فى نفوس مريديه كونها جاءت من السماء .
الدين هوية إجتماعية لجماعة بشرية وجدت أن فكرة الإله والطقس تحدد ملامح هويتها وتخلق تميزها فهكذا كانت تتحدد هويات الجماعات البشرية فى العصور القديمة, ولكن لا توجد فكرة بالوجود هائمة فى الهواء بل كل جذورها جاءت من الارض تبحث عن تحقيق غايات وإحتياجات ورغبات تفوز بها النخب المهيمنة التى تمتلك القوة لتمرر مصالحها من خلال العباءة المقدسة .
هناك مصالح ورؤى ومشاريع بدئية أرادت أن تكرس وجودها فسخرت فكرة الإله لصالح مشروعها ويظهر هذا الأمر جلياً فى التراث العبرانى والإسلامى على وجه الخصوص , فلن ترهقنا أى قراءة متعجلة بأننا أمام مشاريع ومشاهد سياسية صاغت النص الذى يعالج الحدث .
سنتناول فى هذه الجزئية مشهد مُشبع بالرؤية السياسية البرجماتية يعلن عن نفسه بكل وضوح ليؤكد نظريتنا فى أن السياسى ( النبى ) يحيك النص حسب ما يحتاجه الظرف السياسى غافلاً عن أن إلصاق رؤيته ورغباته بوحى من السماء ستنال من فكرة إله السماء ذاتها وتقوض أركانها .
* المؤلفة قلوبهم كفعل وأداء سياسى .
نحن أمام جماعة المؤلفة قلوبهم والذى أمر الله الإسلامى أن يمنحوا نصيباً من أموال الزكاة .. هم قوم تم التفاوض معهم للدخول فى الإسلام نظير إغراقهم بأموال ومزايا فالغاية أن يكونوا بمثابة الدعم للمشروع الإسلامى لما لهم من عزوة ومكانة إجتماعية متميزة فى مجتمعهم القرشى فيصبحوا إضافة للإسلام بوجود زمرة من أشراف قريش ووجهائه ليتم منحهم المال حتى يُضمن ولائهم ودعمهم بالرغم من عدم وجود حالة إيمانية تعتريهم .
{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } سورة التوبة { 60 }
الآية واضحة ولا تحتمل التفسير كما يعتاد المسلمون دائماً تفسير نصوصهم المقدسة فهاهم المؤلفة قلوبهم فصيل من الفصائل التى تقتسم الزكاة مع الفقراء والمساكين , ولكن لا بأس أن نستعين بتفسير السعدى فهو يقول عن المؤلفة قلوبهم : هم قوم يتم جزل العطاء لهم رغم فساد معتقدهم أو كفرهم طمعًا في إسلامهم أو لمكانتهم في قومهم الذين يرجى إسلامهم و هم السادة المطاعين في قومهم ، ممن يرجى إسلامهم ، أو يخشى شرهم أو يرجى بعطيتهم . فيعطوا للتأليف والمصلحة .!
ويقول القرطبى : وأما المؤلفة قلوبهم من يعطى ليسلم, كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين, وقد كان شهدها مشركاً - قال: فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي - كما قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي أنبأنا ابن المبارك, عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي, فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي!! -رواه مسلم والترمذي من حديث يونس عن الزهري .
ألا يمكن أن نعتبر شراء ذمم البشر مسلك غير جيد يتسم بالزيف والغش والإنتهازية كما يَنتهك الفكرة الإيمانية تماماً التى تقوم على الإخلاص فى النيه والتوجه لله بقلب صاف ليحل مكانها الزيف والبرجماتية , فالمال سينتج المداهنة والمراوغة والمرتزقة ويبتعد عن أى مفهوم للفعل الروحى - ألا يعتبر هذا عملا يتسم بالنفاق يتم تمريره وتكريسه - وما معنى كلمة إيمان هنا وكيف يتم قبوله .؟!
إذا كنا بصدد الحديث عن النفاق فالإسلام تعامل مع قضية المنافقين لتتخذ مستويات متباينة حسب الظرف السياسى فعندما كان الإسلام ناشئا إتخذ موقفا ً لينا ً من المنافقين فالتصادم لن يكون مفيدا ً - (وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذّبُهُم مّرّتَيْنِ ثُمّ يُرَدّونَ إِلَىَ عَذَابٍ عَظِيمٍ"
و لكن هذا الموقف تغير بعد أن استتب الأمر للمسلمين و قويت شوكتهم -"يَأَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" -"فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوَاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتّمُوهُمْ وَلاَ تَتّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً"
إذن موقف الإسلام واضح من المنافقين ولكنه تعامل معهم وفقا للوضعية السياسية التى تعترى الإسلام , و يبقى موقف المؤلفة قلوبهم مثيراً غامضاً فأليسوا هم منافقون أيضا ً ؟!!.. فلماذا تعامل معهم الإسلام بالتدليل بدلا أن يلعنهم ويجاهدهم ويغلظ عليهم ويتوعدهم بعذاب أليم بل قام بإغراقهم بأموال الزكاة و إحتلوا أيضا ً مراكز متقدمة - بالطبع هذا الموقف واضح ولن يرهقنا عندما نضعه فى إطاره السياسى فالمؤلفة قلوبهم هم من عزوة القوم ولهم مكانتهم الإجتماعية وسيكون لهم تأثير سلبى على الدولة الناشئة إذا لم يتم إستمالتهم , كما لا يجب أن نغفل الرموز القرشية فى المشهد .. لذا لايجب أن يحدثنا أحد عن نص إلهى فالمسألة لا هى معتقد ولا يحزنون وإنما فكر سياسى تعلم جيدا أن إرساء قواعد مشروعه مع هؤلاء البشر لن يتم إلا بإغراقهم بالأموال والمزايا , ولتتلحف هذه البرجماتية بنصوص يبدعها السياسى ( النبى ) ويدعى أنها سقطت عليه من السماء
لو تعاملنا مع مشروع المؤلفة قلوبهم كنص ورؤية إلهية فسيقع النص والرؤية فى مأزق حرج بل سيُصدر معنى وسلوك غير جيد فى التعامل والنهج .. فقولنا أن الله يُصرح بشراء ذمم البشر ذوى المكانة ليدخلوا فى الإسلام ويقبل هكذا وضع بلا إيمان ولا قناعة بل من باب المنفعة الإنتهازية فهذا سينال من ألوهيته بالضرورة , وسيهين عظمته وجلاله عندما يرضى بإنتزاع جزء من زكاة الفقراء والمساكين لتقدم لهؤلاء الشرذمة من المنافقين المتلونين لشراء إيمانهم وحظوتهم !! - كما سيتم النيل من فكرة الله القادر على تدعيم المؤمنين وحفظ رسالته المحمدية دون الحاجة إلى الإتكاء على بشر نفعيون مزيفون للإنضمام إلى دينه الحنيف .
ولكن مانريد إظهاره هو بشرية النص فهو يتعامل مع الحالة السياسية ويهيأ لها النص الذى يناسبها وهذا سينال بالضرورة من فكرة النص الإلهى , فإذا كان هناك موقف من النفاق والمنافقين تم إعلانه بقوة حيناً وتوارى فى أحيان أخرى وفقا لظرف سياسى فهذا لا يستدعى على الإطلاق إذا كنا أمام نهج إلهى أن يقدم الله بنفسه الرشوة للمنافقين ويقيم معهم علاقة نفعية مؤسسة على نص مقدس !!.. وتزداد الأمور سوءاً أن إستحقاق المؤلفة قلوبهم يأتى من أموال الزكاة بجوار الفقراء والمساكين فلم يتخذ النص الوضعية المؤقتة , ولم يواكبه فى مرحلة لاحقة نص ينسخ هذا الحكم وينزع عنهم هذه المنفعة كما إعتدنا فى قضية الناسخ والمنسوخ بل بقى الحكم والتشريع كما هو , وهذا ما دعى معاوية بن ابى سفيان وهو من ضمن جماعة المؤلفة قلوبهم أن يحتج على الخليفة عمر بن الخطاب عندما رفض أن يمنحه المال وإستدل بوجود نص يمنحه هذا الحق .
الأخطر من كل هذا هو المعنى الذى يتسلل فى ذهنية ونفسية المؤمن لتكون مداميك ثقافته ووعيه فهاهو الإله يبيح أن نغدق على المنافقين والإنتهازيين وأصحاب الجاه بالمال حتى ننال دعمهم ورضاهم فتتكون من هنا اللبنات الأولى فى النهج السلوكى والثقافى البرجماتى وطرق التعاطى مع الزيف والنفاق والإنتهازية لتمتد المشاهد بالضرورة لتصبح منهجية حياة تسقط على صور حياتية عديدة .
موقف عمر بن الخطاب فى رفضه إستمرار تقديم الدعم المالى لأصحاب المؤلفة قلوبهم هو موقف سياسى واضح لم يخفيه بل أعلن عنه بشكل حاد بقوله : "إن رسول الله أعطاكم والإسلام ضعيف وكان يخشى انقلابكم ، واليوم أعز الله الإسلام وقويت دولته، وحين تفكرون بشق عصا الطاعة والتآمر على الأمة فليس لكم عندي إلا حدّ السيف" ..هو أعلنها بلا مواربة حتى لا يعيش المتشبثين بأسدال المقدس أوهامهم وأحلامهم المثالية فهو يقولها صريحة : عندما كان الإسلام ضعيفاً تم منحكم المال ولكن بعد أن قويت شوكته فلم يعد عندى لكم شيئا فقد إنتهت الوليمة واللغمة .. وأعتقد أن نبى الإسلام لو كان حاضراً لوضعية إستقواء شوكة الإسلام كان قد ذكر نفس كلام عمر ولكن بعد أن يُسرب آية أخرى تنسخ أيه القلوب المؤلفة ولا بأس من لعنهم .
بالرغم من تفهمنا وإستحساننا لتعطيل عمر بن الخطاب لدفع جزء من أموال الزكاة للمؤلفة قلوبهم كفعل سياسى واضح الملامح إلا أن هذا يعطى إشكاليات كبيرة من منظور أننا أمام منهج دينى ورسالة يقال أنها جاءت من السماء , فهاهو صحابى جليل يعطل حكم وإرادة إلهية , فهنا نسأل إذا كنا أمام نصوص إلهية ذات صفة تشريعية كتبت فى اللوح المحفوظ فلا سبيل هنا للعبث بها أو تعطيلها فكيف لعمر بن الخطاب أن يلغيها هكذا بدون أن يتكأ على نص , بل النص الوحيد الذى بحوذته ويتناول توزيع الزكاة هو ماورد فى سورة التوبة -آية 60 والتى تعطى الحق للمؤلفة قلوبهم .. وطالما هو نص قرآنى فهل لنا أن نستدعى رخصة شراء إيمان البشر ليكونوا مسلمين فى عصرنا هذا أو فى أى عصر آخر فالآية تشريع إلهى صالح لكل زمان ومكان ويحدد بوضوح مناحى التصرف فى الزكاة فهو ليس موجهاً للمسلمين الأوائل فحسب بل لكل المسلمين كشريعة على مدار الزمان والمكان , لذا ليس لعمر أو غيره أن يلغيها هكذا بجرة قلم .!
نسأل هنا لو مارس المسلمون إغراء الغير المؤمنين بالمال لينضموا إلى الإسلام فهل يعتبر هذا أمرا جيدا ومحترما ؟!! .. الحقيقة أنه لا يزال يُمارس فى بعض الدول الإسلامية والخليجية منها على وجه الخصوص حيث يتم إغراق المغتربين بالأموال للدخول فى الإسلام , ونتابع بين الحين والآخر في خيام الدعوة بالخليج أموالاً كبيرة تُنفق على المهتدين الجدد تحت عنوان المؤلّفة قلوبهم وتأخذ فى بعض الأحيان صور حداثية بإغراق الفنانات الشهيرات بالمال نظير إرتدائهن الحجاب .!
الغريب أن المسلمين يثير إستيائهم وإنزعاجهم تقديم البعثات التبشيرية المسيحية معونات طبية وتعليمية وخدمية لمواطنين من إفريقيا وآسيا تمهيداً لجذبهم إلى المسيحية , وإذا كانت هذه البعثات تُمارس تقديم الخدمات لإنضمام الأفارقة والآسيويين إلى المسيحية فسلوكها هنا يعتبر إنتهازيا وهكذا تكون سياستها وأدائها والذى من حقنا أن نستنكره ولكن فى الإسلام تتم شراء الغير مؤمنين وإغرائهم بالمال من خلال نص مؤسس وممنهج .
نحن أمام فعل سياسى واضح الملامح يمكن تفهمه فى إطاره فهو تكتيك سياسى مارسه نبى الإسلام فى خضم مشروعه لتحقيق الدولة الوليدة لذا لم يتوانى أن يرسل النص الذى يبيح ويترجم خطواته وفقا لحالة النشوء والتكوين .. كما يعتبر إلغاء عمر بن الخطاب للنص وإهماله هو موقف سياسي إستقوائى وجد نفسه فى وضعية تجعله فى حل عن تقديم هذه المنحة , لذا فلا تقل نصوص جاءت من السماء نقلها ملاك بأجنحة من ريش بل أنتجتها الأرض بظرفها السياسى الموضوعى .
فى الختام طُرفة تُضحك وتُدمى تعرضت لها بالتحليل فى مقال " من البشع " وهى أن المتعصبين والمتزمتين الذين يصلوا بتطرفهم حد الهوس والعنف سنجد بالتأكيد أن شرائح منهم تنحدر من أجداد إما مؤلفة قلوبهم أو لم يستطيعوا دفع الجزية .!!
دمتم بخير وعيد سعيد.
- "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟