|
الجزء الثاني: من الحرية الى القانون (الكرامة تؤسس كل حرية)
حسين خزام
الحوار المتمدن-العدد: 3535 - 2011 / 11 / 3 - 07:03
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
للننطلق من الحرية. أن تكون حرا، هو أن تفعل ما تشاء. أما إن فعلت ما يشاؤه السيد أو الملك أو الرئيس أو القوي أو الكبير أو الآخر (بالقوة)، فأنت لست حراً، بل عبد. أن تكون حرا هو ان أفعالك مستقلة عن أي شيء.
مثلا: إن كنت مسلما و فعلت كل الأشياء التي يفعلها المسلمون،ستكون أفعالك كلها متعلقة بـ (و غير مستقلة عن) كل "تلك الأشياء" التي تحدد ما هو المسلم ، أو مثلا لأنكِ امرأة فعليكِ أن تتصرفي كما تتصرف النساء، و أن تتعلق أفعالك بجميع تلك المحددات الذكورية و الأبوية و نزعات السيطرة المرسومة للمرأة و تصرفاتها، فالمرأة مكانها البيت و عليها أن تبقى عذراء حتى الزواج و عليها أن تفعل هذا و ترتدع عن فعل ذاك ... الخ. لستَ حُراً، ان تَبِعْتَ الدور الذي قُرِرَ لك في الحياة، فالطبيب يمارس الطب فقط، و الممرض التمريض فقط، و المدرس التدريس فقط، و المرأة الأنوثة فقط، و الرجل الرجولة فقط، و المسلم الإسلام فقط....
أن تفعل ما تشاء، قد يبدو على علاقة بالحرية، لكنها علاقة خاطئة، فيكفي أن ندقق النظر في حياة "العُصابي" مثلا، و هو ما نحدده بعبدٍ لدوافعه و رغباته، .... عدوه الأول هو رغباته (حبيس بنائه السيكولوجي) ، و العُصاب هو شكل من أشكال الديكتاتورية الخاصة أو الفردية .. فهل كل ما يشاء العصابي هو حريته؟ في العمق، من منا ليس عصابيا بدرجة ما ؟ ما هي أطباعنا الشخصية إن لم تكن نوعا من أنواع العصاب المخفف و القابل ليُعاش؟ أنا حر، فقط عندما أفعل ما أقرر و ليس عندما أطيع ما تدفعني اليه رغباتي.
لنضرب مثلا أن مجموعة من النازيين و العنصريين يقومون بالإعتداء على أحد السود في الشارع، و انني مررت بجانب هذا المشهد، فماذا علي أن أفعل؟ كيف يجب ان أتصرف لأحافظ على "كرامتي" ؟ هل يجب ان اتدخل أو أن اتصل بالشرطة، ام أن علي متابعة طريقي و كأن شيئا لم يكن ... يجب أن أقرر، و قراري هذا لا يجب أن يتعلق بأي شيء، طبعا عندما أفعل ، سأقوم بذلك آخذا بعين الإعتبار دوافعي و رغباتي و اني مثلا رجل أبيض و من الطبقة الإجتماعية تلك .. لكن "الأخذ بعين الإعتبار" مختلف جدا عن أن أتصرف "انطلاقا" من كل هذه المحددات. النزوع الى عدم تعلق افعالي بأي شي من المحددات السابقة الذكر ، هو النزوع لأن اكون حرا ، وفق الصيغة التالية: فعلت هذا، و انا رجل أبيض ، لكن لو لم أكن كذلك و كنت امرأة مسلمة سمراء لكنت فعلت نفس الشيء، تماماً كما أفعل في درس الرياضيات عندما أستنتج مبرهنة فيثاغورس، فأنا لا أبرهن تلك النظرية انطلاقا من كوني رجل أو امرأة، أبيض أو سود، سوري أو مصري، غني أو فقير، عربي أو كردي ، .... بل كوني فرد عقلاني، انسان مجرد عن اي محددات اخرى ، غير الجوهر الإنساني الأصيل في ذاته أي العقل، فما فعلته لم يتعلق بكوني هذا و ذاك. فعلته لأنه كان من "الضروري" ان يكون بهذا الشكل. الفعل الضروري، هو "القانون"، فأنا عند رؤيتي لمجموعة العنصريين تعتدي على الرجل الأسود سأفعل "ما يجب فعله" بالمطلق، سأقوم بـ"ما عليّ القيام به" ، سأقوم بـ"ما على كل شخص القيام به"، سأفعل "ما كان سيفعله أي أحد آخر". من يتصرف بحرية عليه أن يتصرف وفق "القانون"، و من يجسد القانون عليه أن يتصرف كحر، و يلتقي المفهومان، الحرية و القانون.
عندما نقول أن أي "احد" آخر كان فعل نفس الذي فعلته في هذا الموقف، فكأننا نقول أن أي "كائن عقلاني" لن يستطيع ان يفعل شيء آخر ان كان في نفس هذا الموقف، اذا اراد الحفاظ على "كرامته". طبعا من الممكن ، أن لا تتصرف كذلك ، لكن ان شئت أن تحافظ على "كرامتك" فعليك ان تتصرف كما سيتصرف اي احد آخر، أي أن تتدخل لصالح الضحية التي يتم الإعتداء عليها من قبل العنصريين. كل كائن عقلاني (بغض النظر عن اي محددات أخرى: رجل، امرأة، غني ، فقير، سوري، مصري، مسلم، مسيحي، مؤمن ، ملحد، لا ديني، زرادشتي، سيرياني، كردي، اسماعيلي، علوي، ماروني، أمازيغي، أسود، أبيض، ... الخ)، مجبر، حتى يحافظ على كرامته، أن يفعل ما سيفعله أي أحد آخر. كل كائن عقلاني عليه أن يتدخل و أن يحاول أن يمنع عملية الإعتداء على شخص ضعيف و غير قادر على الدفاع عن نفسه. في كل "قرار" هناك دائما "قانون"، و "الحرية" هي منطلق كل "قانون"، أي أن لدينا قوانين لأننا أحرار. فلو كنا في هذا العالم ، فقط رجال، أو نساء، أو فقط سوريون، أو مسلمون، أو مسيحيون، أو ... ، لما كان عندنا قوانين، بل "أعراف" و "عادات" و "تقاليد" ، لكن ما يحصل هو ، اننا ابتداءا من اللحظة التي نعي فيها أننا "كائنات عقلانية" بالإضافة لكوننا رجال أو نساء أو أكراد أو مسلمون أو ...، فإنه هناك قوانين أعلى من عاداتنا و اعرافنا علينا اطاعتها، تلك القوانين اعلى من أي تقليد أو عرف أو ثقافة أو لغة أو ملك أو رئيس أو شيخ أو قسيس أو اي ملامح و طبائع شخصية ذات رغبات و دوافع ... الخ.
لكن أليس هناك تناقض عندما نقول أننا أحرار عندما نخضع لقانون ؟ ألا نتحول بهذه الطريقة الى عبيد مرة أخرى ؟ لا، ما يحصل هو العكس، فنحن نتحدث عن قانون يقول لنا على الدوام، انه ليس علينا أن نخضع و نطيع بدون اي "تفكير" لما يسمى "قوانين" الدولة، أو السلطة أو الدين، أو الدوافع و الرغبات، أو الوضع الإجتماعي ، أو الإقتصادي أو الإثني أو ... الخ. لا يجب أن نخلط بين هذين المستويين، مستوى "القانون" و مستوى "الأعراف" التي تتخذ صيغة "شبه القانون".
لنعود للمحددات التي تكلمنا عنها سابقا، فان كنت طبيبا و فعلت فقط ما على الطبيب فعله، اي تبعت القوانين التي على الطبيب ان يطيعها ليكون طبيبا ، أوكنت رجلا و تبعت القوانين التي على الرجال ان يطيعوها، أو امرأة، أو فلاحا أو.... الخ، فإنك ستكون عبدا لتلك "القوانين"التي هي في نهاية التحليل "اعراف و تقاليد"، و لن تفعل في اي حالة من هذه الحالات "ما يجب على كل انسان ان يفعله" بالمطلق. فلو فعل السوريون ما يجب على السوريين فقط ان يفعلوه، و المصريون فقط ما على المصريين ان يفعلوه، و المسلمون ما على المسلمين أن يفعلوه، و الأكراد ما على الأكراد ان يفعلوه... الخ، لما خرجو من فضاء الأعراف و التقاليد الى فضاء القانون الذي يطيعونه ليس ككونهم سوريون أو مصريون أو مسلمون أو كرد، بل كونهم ذلك الكائن العقلاني المجرد ،أي كونهم "الانسان".
لنفكر بعرف أو عادة ما، وصلت الينا كـ"قانون".... كعادة ختان الفتيات في السودان مثلا ، فمن الواضح ان اطاعتنا لهذا "القانون" لا تجعلنا أحرارا، أو لنضع مثال كانط الشهير عن الملك الطاغية الذي يجبرني على "شهادة الزور"، باسم "القانون" الذي يسنه نفس الملك و الذي ينص على أن (عليّ ان اشهد زورا)، فهل هذا "القانون" هو ما يتوجب على كل كائن عقلاني القيام به؟
في كثير من الحالات، ما نسميه "قوانين" ليس في الحقيقة الا "أشباه قوانين"، أو"عادات" أو "أعراف" ، أو "رغبات" احد الملوك أو الأديان أو الطغاة.
تحافظ على "كرامتك" و "تحترم نفسك"، فقط عندما "تفعل ما يجب عليك حقيقةً ان تفعله"، و لو كان يخالف كل آراء المجتمع ، و قوانين الملوك ، و سلطات الديكتاتوريات. الكرامة هي عَرَضْ الحرية. الأفعال الكريمة(من الكرامة) و الحرة تؤسس لإحترامنا لذواتنا، لأننا نجد فيها ما هو أعلى من كل اعراف و عادات و تقاليد أو ما نسميه خاطئين "قوانين" . ففي عمق الإختيار الحر يجثم القانون.أي: من الضرورة لأن يكون هذا الفعل بهذا الشكل و ليس ذاك، أي ان يكون الفعل الذي على كل" أحد" ان يفعله في هذا الموقف بغض النظر عن اي محددات أخرى غير المحدد الأول و الأعلى: الإنسان كائن عقلاني. هناك أشياء لا نستطيع فعلها بدون أن نضيع احترامنا لأنفسنا، مثلا: أن نخون صديق،أو ان نخنث عهدا قطعناه. هناك بوصلة ترشدنا كيف نكون مسلمين جيدين، فرنسيين جيدين، أكراد جيدين، مسيحيين جيدين، رجال جيدين، نساء جيدات، ... الخ، لكن هل هناك بوصلة ترشدني كيف أكون كائن عقلاني جيد، أو "إنسان" جيد؟ أن أكون كائن عقلاني، لا يتعارض مع أن اكون مسلم أو فرنسي أو كردي أو امرأة أو رجل أو .... الخ، لكنه يتناقض و في العمق مع "خيانة صديق" أو "الخنوث بعهد قطعته". لكن كيف نعرف أنه لا يجب أن نخون صديقاً، بغض النظر عن اي محددات و اعتبارات اخرى ؟ كيف نعرف أن الصداقة مثلا لا يجب ان تقاس بالنفع المادي الذي تقدمه لنا و انه من المبرر خيانة الصديق عندما لا تكون صفقة مربحة الحفاظ على صداقته ؟ و لنصغ السؤال بطريقة أخرى، أي : ما هو "ذلك الشيء" الذي نقف امامه صاغرين و "خجلين من أنفسنا"(من هي هذه الأنفسنا؟) عندما نقدم حسابا للصداقة من النوع السابق (أي النفع المادي الذي أجزيه)؟ انها "الكرامة"،التي يعلو صوتها على اي صوت اخر من الأصوات الكثيرة داخلنا. صوت الكرامة الذي ينبع من "مكان غامض" داخلنا، غير قابل للخطأ أو التفسير بطريقة اخرى. احيانا نخلط بين "الكرامة" و بين: "الشرف" أو "السمعة" أو "القبول الإجتماعي" أو "عدم تخطي الحدود"، لكن عندما يجب على الإنسان الإختيار بين هذه الأحكام المسبقة و الكرامة ، فإنه يعرف جيدا ما عليه ان يفعله (قلنا يعرف، و لم نقل أنه يفعله)،كما لو كان لدينا كلنا "ذاتٌ ما"* في داخلنا تدفعنا لمعرفة نفس الشيء، وأنه يجب أن نضع حريتنا فوق كل اعتبار. غالبية الناس ستختار أن تضع محدداتها الأخرى و عاداتها و تقاليدها فوق تلك الذات "و اختيارها الضروري= الكرامة، الحرية"، لكنهم سيفعلون ذلك و هم يعرفون أنهم باتوا بلا كرامة و بلا حرية.
------------------------ * العقل
#حسين_خزام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في فلسفة الدولة المدنية - الجزء الأول: من القانون الى الحرية
المزيد.....
-
الجيش اللبناني يعلن تسلمه 3 معسكرات تابعة لفصائل فلسطينية لب
...
-
منظر مذهل في تركيا.. تجمد جزئي لبحيرة في فان يخلق لوحة طبيعي
...
-
إندونيسيا تحيي الذكرى العشرين لكارثة تسونامي المأساوية التي
...
-
ألمانيا تكشف هوية منفذ هجوم سوق الميلاد في ماغديبورغ، وتتوعد
...
-
إصابات في إسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ حوثي
-
شولتس يتفقد مكان اعتداء الدهس في ماغديبورغ (فيديو+ صور)
-
السفارة السورية في الأردن تمنح السوريين تذكرة عودة مجانية إل
...
-
الدفاع المدني بغزة: القوات الإسرائيلية تعمد إلى قتل المدنيين
...
-
الجيش الروسي يدمر مدرعة عربية الصنع
-
-حماس- و-الجهاد- و-الشعبية- تبحث في القاهرة الحرب على غزة وت
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|