|
«كيفك انت» :الرسالة التي تذكرها صاحبي
هاشم مطر
الحوار المتمدن-العدد: 3476 - 2011 / 9 / 3 - 23:28
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
حينما وصلته الرسالة بعد اكثر من ثلاثين عاماً، تذكر أنه صار شيخاً. عزى سبب خواء ذاكرته لتقادم عمره. ندب حظه بأن لم يكن هناك من يراسله خلال تلك الأعوام لكنه عندما تذكر كولونيل ماركيز. ابتسم وقال، «انا احسن منه على اية حال، فالكولونيل المسكين مات ولم يستلم الرسالة التي كان ينتظرها»!.
كان الرفيق القديم جداً غارقا بوحدته التي اضاف عليها ـ هدؤء اسكندنافيا ـ وحشة جعلت ايامه الأخيرة من دون ذكريات عدا ملامح، وومضات تشحذ ذاكرته لحظة تختفي فيحاول مسك ذيولها وهي تهرب لتتركه اسير وحدته الفارغة من اية صورة عدا ما يطبعه المنظر ـ الذي أمامه ـ في حدقتيه. وفي جو رعونته وهو يحاول ان يتذكر مرسلها خاف فطواها :ـ «ربما فيها ما لا يسرني.. ربما ماتت أمي .. او اخي .. او صديقي الذي فقدته على قمة جبل قد مات هو ايضاً»، وتذكر الكثير من الموتى الذين كان يوهم نفسه بانهم احياء. حار اين يخفي الرسالة التي تحتوي الخبر المشؤوم فأودعها جيب قميصه الأزرق الذي اهداه، او بالأحرى اعطاه إياه صديقه في الشام قبل ربع قرن تقريبا.. اندهش فالاحداث صار يقاربها بالقرون.. فكر.. كم هو عتيق اذن!.
قام من على كرسيه الذي اعتاد الجلوس عليه خلف شباك شقته المطل على شجرة قريبة هي الوحيدة التي تشعره بدورة الحياة. كانت على الأرجح شجرة تفاح، او هكذا كان يقدر نوعها، فهي لم تثمر في يوم من الأيام. لكنها كانت تضوي عن نفسها اوراقها فتسكن حيناً، ثم تصحو فجأة على ريح شفيفة يربكها شعاع شمس اعتادت بلدان الشماال على تخاتلها من بين غيوم كثيفة فتطلق اوراقها عرفانا منها ان الحياة تتذكرها بوقت محدد من كل عام. كان اشد ما يمتعه حينما يراقب شحوب أوراقها، وتسقط عنها كل ما يذكره بأنها تحيا، وتتنفس فيفرح لأنها أصبحت تشبهه.
ارتجفت الرسالة بعد لحظات وكأنها كتلة حية فتذكر انه كذلك ما زال حيا، وان له قلبا ينبض بعد كل تلك السنين. لكن ما أقلقه الآن ان شجرته لها براعم ذابلة، «كيف ستزهرين هذا العام»؟. ذلك ان موجة البرد الربيعة كانت قاسية هذا العام. وهو على هذا النحو من المقارنة بين هذا الربيع ونحوه في اعوام اخرى، جعلت ذاكرته تشغله، وتلح عليه ان يتابع لقطات ظن انها توارت الى الأبد. اول ما تذكره زوجته، طليقته، وابنه فهو لم يسمع عنه شيئا مذ غابت حافظة ذكرياته. «ربما منه». استل الرسالة على عجل فخاب ظنه حين قرأ على ظاهر المُغلف: (الرفيق.........). فأبنه لايعرف انه كان رفيقا في يوم من الأيام. أعادها الى دقات قلبه المتسارعة ففوجئ بالدفء العجيب الذي يلف صدره غير ان اطرافه كانت باردة فلبس جوربيه، وفرك يديه، وضغط على قلبه بيده، وقال بصمت: «اسكت يا ابن الكلب. كيف تتذكرني الآن وقد نسيت أمري ثلاثة عقود؟!». استجاب قلبه لطلبه فهو ليس ككل القلوب التي تضطرب، وتنبض بالحياة، وتتقطع لضرباتها الكلمات.
اهمل الرسالة، وقام ليصنع قهوته التي يحتاج في كل صباح. ولعلها الشيء الوحيد الذي يفتقده الآن. امسك بكونترول التلفزيون يقلب صفحاته التي كانت تتكرر كل يوم. خبر واحد اقلقه. ان (ربيعا) سيُطفأ في الطريق اليه او على الارجح لغيره كما براعم شجرته، ويطول سباته لكن الأمر لم يشغله كثيرا فقد اعتاد على الخيبات.
انتقل الى حاسوبه يقلب ما كتب عليه بينما ينفتح باحثه على صفحة ابل او الميكرو سوفت بما يزعج ذهنه فهو لا يعرف عن تلك العلوم المزدهرة شيئاً. تملكته الحسرة لانه لم يحزم أمره منذ كان شاباً لتكون العلوم بمتناوله الآن. اوجز الأمر بأن الحظ لم يحالفه «هذا يكفي»، فأهمل أكثر قليلا من مليون احتمال سقطت هكذا في حجره.
وبجو تندره على كل شيء، وهو الشيء الوحيد الذي يمتلك امره من دون تدخل، شُحذت ذاكرته على نحو ما فاختصرت له التاريخ بومضة عين. وضعته على خارطة هجرته.. يثبت شخصيته كيساري محترف (ضد كل اشكال الاضطهاد، وضد الامبريالية والصهيونية والرجعية، وما شاكلها من انظمة الإستبداد الكوني. كذلك مقاتلا مع حركة الشعوب من أجل تحررها وتقرير مصيرها) والقائمة تطول. قلب الرسالة فهو لا يملك اوراقا. حاول ان يكتب فتذكر انه لايملك حتى قلما. ثم ماذا سيفعل بالقلم والورقة فحياته في اسكندنافيا تسير حسب اللمس حتى باب السوبر ماركت تفتح له من دون شد او دفع، ولا يحتاج لتوقيع حينما يستلم راتبه الذي يصله على حساب مصرفي، وله بطاقة ائتمان انيقه يضعها بالحائط فتدلق له نقودا. لكن عينيه اللتان اعتادتا ان تتكئا بوهنٍ على اول منظر خطتا على ظهر الورقة خطوطا تشبه اسرارا كنسية قديمة. ربما يحتاج غيره الى ربع قرن آخر ليفك طلاسمها. ابتسم لتشابكها فلاحظ انه ابتسم كثيرا هذا اليوم وهو امر لم يعتد عليه.
اكتئب من بعضها فهي تذكره بأحلام طباشيرية تمتعه واقرانه برؤية الزهور، وشعور البنات المصففه بأناقة العصر ذاهبات الى جامعاتهن ومداراسهن. شباب منكفؤون على رواية رائعة او مهتمون بكتابة مادة صحفية لتزيين شارع او محلة او بأحسن حال نقد مشروع فاشل للدولة او تسويق فكرة حداثية تجعل بلدهم ـ الذي احبوه اكثر من غيرهم ـ على بعد أقل من ركب التحضر والمدنية. احدهم مبدعا اخرج مسرحية بانتومايم لان الكلام كان عصيا. كلهم ذهبوا بنقلة (كش مات) ومعهم الزمن الاثير.
ما أن وضعته تلك الخطوط على ساحل البحر الذي قصده وامواجه المتصاعدة تحت أزيز رصاص (الاخوة)، حتى تذكر خطوط يده تقرأها له جارتهم صديقة امه. فهم من تأتأتها ان خطوط يده تأخذه للمجهول، وان عليه ان يتحاشى الف كمين، والف صديق يركن بعدها لعزلة الف عام. ابتسم لذكر العزلة فهي تذكره بعزلة (ماركيز) ايضا فعلى ما يبدو ان ماركيز لن يغادره اليوم فهو مغرم بذوي الاقدار المجهولة.
لم يكن هناك ما يقلق وحدته كما رسالته الآن.. فتحها.. قرأ الدعوة: (الرفيق العزيز............. تسرنا دعوتك الى جلسة الاستئناس بالرأي بصدد وثيقتي الحزب......مع حقك االحذف والاضافة...). اعتدل بهيئته فهو عزيز وله رأي ويضيف. فكر ماذا يضيف فاستطرف الفكرة. ابتسم قليلاً لأنه خطر على باله مشهد مسرحي قديم، (الكل شاهده). لكن جو شقاءه جعله يتعقب رفاقه كمخبر يكشف عن اقدارهم ومصائرهم. تخيلهم يجتمعون، ويحكون صدأ ذاكرتهم، ويصوبوا (اكبر وثيقتين (لصاحبه) مرسلهما. هكذا قرر نعته (صاحبي)، «هذا افضل».
مسرورون ومحزونون واكثرهم غائب لكنهم لم يفكوا وقتها قماط مقتنياتهم. منهم من كان له وردة يطويها بدفتره لحد اللحظة. لم يصطحبوا معهم اهم الاشياء. «فأنا على سبيل المثال لم احمل معي حينها وثائق تخرجي، ولا اوراق اثبات شخصيتي سوى هوية زورها لي صديق». انتبه انه لحد الآن يحمل نفس الأسم، فدمدم «سأموت به حتما». لم يأسف على درجات تفوقه فنفاذه بجلده انذاك كان اهم من دمعوع ذرفتها بأثره أمه. «يمه وين رايح». لكن اباه لم ينهره لانه مات!؛ لا.. كان مشغولا بزوجته الثانية.. لا.. كان يسجي الوقت بلعب الدومينو مع اصحابه في المقهى. لكن صديقه ثابت كان ابوه شغيلا لا يعرف عن عمله سوى اجرة يومه. هجر مهنته كفلاح لأن زمن الفلاحة كان قد ولى مع اولى هجرات الريف الى المدينة التي اسكنتهم صرائف تقابلها القصور «عبرة شارع». لكنهم ظلوا يلهجون بهتاف واحد «عاش الزعيم». ففتح باب شقاءهم على مصراعيه، يزخر بفن الممكنات فيما بعد، بسوق مريدي والحواسم والبريكية وجهل المرجعيات. كان ابو كاطع «رحمه الله»، يسطر احلامهم بأجمل رثاء بينما كانت قراهم المتكئة على جداولها تحتار لخوائها من الطيور المهاجرة، ويجن القصب من وحشته حينما غادرتها هي الآخرى في زمن لاحق وقت جفاف الاهوار وركود الانهار. تذكر انه قرأ عنهم برواية صديق طفولته الانيقة، (عبد الله)، حتى تندر المثقفون عليهم وقالوا انهم «شوهوا المدنية». منهم الذي تلفّت فوجد نفسه مشردا بسبب انه لم يصطحب آلته الموسيقية، التي كانت غالية الثمن في المنفى. تيبست اصابعه فجعل يعزف بحنجرته حسب. ومنهم من اصطحب طفلا رضيعا مع حبيبة له. قالوا عنهم وقتها: ان الشيوعيين مشاعيين بلا قيمة. ومنهم من تأسف على اوراقٍ لو اصطحبها معه لكانت اجمل قصائد حب عرفها عصره.
لم يثره منظر الشمس تختفي خلف الصخرة التي تأملها مرات كما كان يتوقع حينما كان يقلب في بلده روزنامة احنبية ببحار، وشموس، ومساقط رائعة لمياه تمنى ان يغفو جفناه عليها كما تغفو فراشة على زهرة. تأكد فيما بعد ان شاعريته جفت فمشاهد الطبيعة الاسكندنافية لم تصبه هي الاخرى بأي ذهول. كان منظر رفاقه يشده اكثر. ينظر بعين الإعجاب الى قدرة رفاقه، «السحرة» وهم يغيرون مهنهم بومضة عين لسبب واحد انهم موهوبون أستبدلوا مشاريع ان يكونوا علماء وبناة فاصبحوا بين ليلة وضحاها مقاتلين يحملون سلاحا مع فصيل ما. اجيرون كعماال المسطر في بلدهم المتوثب بكل احاسيسه نحو (الأشتراكية السعيدة)، على وقع الجبهة الترنيم الأبوي للأخ الأكبر. لكن رفاقه وبأحسن أحوالهم كانوا يصففون ارشيف حركة او حزب بل اكثرهم وجد نفسه فجأة (سائحا)، يرشد اهل البلاد الى منطقة الربوة او محل في الفاكهاني يبيع الخمرة، او يدل احدهم الى مكتبة انطوان البيروتية. او كان يتيه بين مساكن برزة (ومسبقة الصنع) يبحث عن بيت صديق وعده بكأس عرق ليس مغشوشا كما في وطنه فهو من ماركة الفيحاء يطفئ لوعته، ويفيض بأشجانه. أسعفه الحظ انه لم يمت كما مات صديقه آدم حاتم، ولم يجن كـ حسين البدري الذي مات على بعد خطوتين منه.
قام من على كرسيه، وخطا نحو مكتبته برفيها المتواضعين فهو لا يملك من الكتب كثيرا كما من قبل. استوقفه كتاب الشعر لصديقه الذي أوقف عند حاجز لامراء الحرب. اخذوه ولم يرجع. تنهد، وتذكر موهبتة فعلى ما يبدو ان الشعراء هم «الغاوون». قال «لمن تكتب»؟. تذكر كيف كان يلهج بأعصار من قلبه حتى اكتشف بعد الحاجز وبعد فوات الآوان، مزحة عمره. «كم هي تافهة الاعمار»، كان يقصد الاقدار على الأرجح فلها يعود الفضل باختصار المسافات، وغياب الأثر. ولكن ما شأن التقرير بألاثر «الرافديني»!، بابل، واشور، وحمورابي، ومسلات مخرومة «كان طه باقر بارعاً بروف رموزها» عواء كلكامش على صديقه انكيدو. الثور المجنح المستعد لهجرة اهله. رجاه صديقه ان يكمل اخر قصيدة كتبها فاكملها وليد جمعة بوصفه «الغروب النحيف» يلهج برئتين منخوبتين من زمن التويثة فاستوقفه السهروردي، وفائق حسن، وبخوه لانه يذم ولا يمدح ويكتب الدارمي فهو هجاء وليس مشاء. ويهجو حتى جود وجوقد، وهما التجربتان اللتان تفتق عنهما عقل اليسار انذاك.
هكذا انفتحت ذاكرة مناضل (بالمناسبة فاتني ان اقول فعذرا لذلك اسم الرجل مناضل، وللمفارقة اسم زوجته نضال لانهما ولدا في تموز الثورة). تذكر رفيقه المستهتر قبل عقود ثلاثة. ابعد من خليته الحزبية لانه وصف الثورة بالانقلاب وثورة العشرين رجعية لانها وقفت مع اربعة قرون من الإستبداد التركي، وكانت سببا لمنع تدفق مياه الفرات ودجلة فيما بعد. لكن رفيقه أقفل على كآبته، وغادر الى كردستان، واختفى بجبالها وهو من كان يعنيه مناضل في بداية تفتق ذاكرته، ويخاف ان يسمع ان صديقه مات لكن رفيقه كان قد مات فعلا في بشت آشان على ايد حلفاء (صاحبه) المحترمين.
«لا شيء» قال، سوى ذاكرة موحشة كرهها خلعت صمته، فتذكر مثلا مصرياً (دخول الحمام مش زي خروجه). رفاق اطبق اطلس الجغرافيا بصفحاته عليهم، وترامت نسائم شواطئ شمال افريقيا ولضى صحاريها تلفح وجوههم. كل دفع حصته التموينية. منهم من كان يتنفس شقاء اليمن السعيد، لكنه سعد بطيبة اهله. ومنهم من بقي يسوح البلدان، يعد اعمدة الكهرباء، او يتيه بأرخبيلات تأخذ العقل، ويتشوق عشقاً لوجوه الحسان، وفي نفسه غصة ان يطيل تأمله بوجه منها، منهم من مات بها، فالزمن لم يمهله ان يختار من بين خلق الله حبيبة.
حاول الرجل، عفوا، اقصد مناضل ان يخمد لوعته بكأس غير انه لاحظ ان النهار ما زال بأوله، وتذكر انه غيّر عادته القديمة. فهو الآن ليس كما كان احبته يطلقون شجنهم باكرا في الاترنه او باب توما. ينقدون النادل الذي احبوه لانه (برولتاري رث) حسب لينين بخشيشا أكثر من سعر الزجاجة التي شربوها. يقف مندهشا فلهجتهم تسامت حتى صارت كلاما يفهمه بيسر لكنه لا يعرفه فحديثهم الآن يدور عن احد الاسفار، ولا بد ان تكون ثورتهم كقلب لوركا وخطابهم كما اراد له فوكو. وتذكر مناضل في احد المرات او اكثرها انه ردد معهم مع آخر ما في الكأس قصيدة لسعدي، «ليس الشيرازي» او بيتا للجواهري لكنه لم يعرف انذاك ان الاثنين كانا على بعد خطوتين من منزل هادي العلوي المتواضع. يصارع همومه ويستمع الى اغنية عشقها «حالة تعبانه يا ليلى حب مافيش، ده انتي غنيه يا ليلى واحنه دراويش». حتى مات هادي بلوعته وعاش الشاعر مبهورا بجواز سفره الانكليزي الجديد متنكرا لأصله. ومات الاكبر بعد ان عاش حياة بالعرض وبالطول دون أن يذكر التاريخ له دورا مهجريا. ارعبه ذكر هذين العلمين فتبعهما بحاشية انه لم يتقصد شاعرية احدا منهم فهو لم يكتب الشعر في يوم من الايام (انه يكذب) انما قصد من كان يفترض ان يكون «علماً ومعلماً» ذلك ان اصحابه المجتمعون على ذبح التقرير لا يروقهم مس احد الاعلام !.
حاول ان يتذكر تخصصه فلربما اودع ذخيرته رسالته الجوابية فليس من اللائق الا يجيب على رسالة اختصه بها (صاحبه) وصلته على اية حال بعد ثلاثين عاما، «ربما حملتها لي سلحفاة على ظهرها» تلك التي فك حروفها منتشيا امام المعلم كامل في القراءة الخلدونية فكف عن ضرب قفا يديه بمسطرته (گاز) ذالك اليوم». لكن هذه المدة هي تافهة بالمقياس الزمني للكون، وان حزبه القديم حزبا كونياً، وهنا تذكر انه فيزيائي لكنه لايعرف ما وصلت اليه فيزياء الكم (بالمناسبة انه ليس فيزيائيا). ضحك لأنه يكذب، وصاحبه لا يحب الكذب على الناس!. تذكر صديقه المهندس الذي انقطعت اخباره من زمن حصار بيروت، كان جريئا يلتقط صور خراب المدينة، ويعيد بناءها على ورقة فقال: «انه على الأرجح لا يعرف حسابات زهى حديد، ولا صديقه الطبيب الذي سافر الى كردستان يعالج رفاقه المصابين بنيران الأصدقاء قبل الأعداء، انه يعرف الخارطة الجينية تلك التي قرأ عنها مقالا في الانترنت فداخ وشك انه من نسل المخلوقات العاقلة. عاد فأنصفهم، واخبر المجتمعين ان «المواهب والاختصاصات تصدأ كما الحديد». غير ان ما أدهشه فعلا ان صحفيي القرن الواحد والعشرين مخلوقات فذة خصوصا على الانترنت. فهم ليسوا كأصدقائه ايام زمان يستمعون الى اغنية من شعر طلال حيدر توجز افكارهم فيرمون ما كتبوه في تلك الليلة دون ادنى حسرة. «خدني معك يا حب، شي مشوار وع السكت وشوشني، سرار سرار..»
اعتدل بهيئته على كرسيه الذي اعطاه له (الكومون) فهو مصاب بمرض الرماتيزم. اندفعت كلمة من بين اسنانه، (خراء). فجسده يؤلمه كثيراً حتى ان المهدئ الذي ارشده اليه احد اصدقائه فهو مريض مثله، واقترحه بدوره على طبيبه الذي اندهش لثقافته الطبية. كتب له الدواء من دون تأخير. كان علاج الـ (MOBIDIK) نافعا بأوله لكنه الآن لا يفعل فعله. قام وأخذ حبتين وهو يدمدم «من أين جاءني هذا المرض اللعين». تذكر اول مرة آلمته مفاصله، فتندر عليه آمر فصيله ونعته مع رفاق آخرين (بزر چكليت). ضحك معهم آنذاك وهم يجتازون الممر الثلجي بعرض 60 سنتمتراً لجبل في كردستان. انتبه الآن لنفسه لأنه يروي شيئاً من وحي خياله ربما!. غير ان صورة رفيقيه اللذين ماتا بعد ساعة، وسريتهم تجتاز منحدر الجبل الى الضفة الأخرى برصاص الربية العسكرية، وقصف متوقع جعلته الآن يتجمد، ويتحسس انحاء جسده لكن جروحه كانت قد اختفت، واطبق اللحم على تلك الشظايا التي اصابته وتوارت تحت الجلد، لكن ندبا منها لا تزال ظاهرة حتى الساعة ولزوجة ما تنز منها احيانا.
وقتها نقله رفيقه تحت شجرة اللوز القريبة. تذكر ان الآم مفاصله كانت تؤلمه اكثر من اصابته. ونواح رفاقه على رفيقيه اللذين سحباهما الى مقبرة اول قرية ودفنوهما تحت شجرة الجوز الكبيرة، اكثر ايلاما. وتذكر ان أحدا لم ينعيهما لحد اللحظة، ولم يتقدم (صاحبه) بمشروع للبرلمان الذي كان رئيسه عضوا فيه، لينصفهما على اقل تقدير!. وعلى أية حال فقد كانا ايضا مثله خريجين امتشقا سلاحاً لم يعرفا كيف يستخدماه دفاعا عن نفسيهما، روحيهما، حبيبتيهما ربما، لا «مروة حبيبة سالم، تكاتبني على الانترنت من وقت لآخر»، ولا زالت سادرة مع ذكراه وحزن شفيف يطغي على كلماتها، وقلب ملتاع تفضحه تنهيدة تتكرر. «من أين لك كل ذلك الوفاء يا مروة» قال. وقال كذلك لماذا ارسلتهم يا (صاحبي) ليتعلموا في يوم ما، وتدعوهم ليموتوا يوما آخر! قال «عجبي!» وهو يتذكر رباعيات الراحل ايضا صلاح جاهين (عجبي).
عجبي قال! كيف امكنهم ان يستبدلوا علومهم وثقافتهم بلمحة عين، BKC، عفاروف، 16 ملم، ربية، تقدم (يعني الجيش)، انسحاب، (يعني نفسه)، سرية، فصيل، فوج، قاطع. يضحك لانه تذكر ان رفاقه يطلقون على الجاجي (مخابرات) ...،اوضح: «انها اكلة الجبن القروي الملفوف بقطعة خبز». خاف ان يصف تلك التجربة بأكثر من خيبة امل، فربما يستهجنه (اصحابه) المجتمعين، ولأنه مريض بداء المفاصل وضغط الدم والسكري وأمراض اخرى قال بصوت خفيض لا يسمعه الا هو: انها تجربة مريضة على اية حال يا (صاحبي)، ومن مرض ومن لم يمرض اُورث كسوراً في روحه، ونفساً مبتورة.
وعلى ذكر البتر، التفت الى شجرته من شباك بيته. تأملها بهيئتها الثلجية فتذكر انه لم يشذبها لذلك لم تزهر العام الفائت. ولذلك ايضا ان براعمها تبدو مريضة فلا تورق!. تذكر الثلج الذي افقد رفاقه جزء من اجسادهم لعلها أرجلهم. «غانغرينا رفيق» قال الطبيب واكمل «سنبترها؛ هو الحل الوحيد». امتدت سواعد رفاق سريته تشل حركته. بترت رجل رفيقه بمنشار من دون مخدر. وفي مقر الفوج كان المسؤول المندس والذي اعدم كجاسوس فيما بعد يقول: «تجربة جيفارية رفاق، نتحمل كل شيىء!». ابتسم مناضل لأن البغل الذي كان يحمل اثقالاً ويجتاز ممرات الجبل قد انتحر. وعندما ادلى رفيقه بصوت مسموع في اجتماع خليته، «ان الأرض ليست ارضنا والكلام ليس كلامنا وكردستان بعيدة عن بغداد بما يكفي كي تكون صالحة لكفاح من هذا النوع. واردف، «نحن طعما سهلا للأعداء»، وفاته ان يقول حتى (للأصدقاء). نهره رفيقه المسؤول، فأصبح منشقا. انتبه مناضل انه يسرد قصصا وليس رداً على رسالة أو يصوب تقريرا (لصاحبه). لكن ذاكرته كانت قد غادرت به الى عواصم ومدن تركت في اصدقاءه آخر رثاء لانفسهم. ذكره السلاح الكيمياوي الذي استخدم ضد رفاقه بمبيد الحشرات (فلايكل) زمن صباه. وذكره اسم الشام بنشيد طفولته (بلاد العرب اوطان من الشام لبغدان)، وغياب رفاقه في بش آشان كان يذكره بان (طعنة صديق امضى من طعنة عدو!). همس بمرارة لنفسه فـ(صاحبه) لم يذكر عنها شيئا لحد اللحظة. سكت فلربما هناك من سيكتب عنها أفضل منه.
وعندما اتكأ مناضل على حائط مقهى الروضة يسأل عن رفاق مروا قبله تذكر صديقا له فذكر اسمه. انزعج ابو شامل لان (المختار) الرائع ابا حالوب كان لماحا اكثر منه. كان صديقه من حسن الحظ يتكئ هو الآخر على عمود كهرباء في كوجه مروي. يشم رائحة الكباب والكص العراقي الذي لا يملك ثمنا للقمة منه. «عجبي» قال، فان ابا حالوب يعرف اخبار رفاقه أكثر من (صاحبه). بل اكثر من ذلك دفع عنه ثمن الشاي واقرضه بعض الليرات. لم يردها له الا بعد ان اشتغل عامل بناء في (الحصوة). كانت خيبته اكثر فأينما اتجه ولأية حركة (ستسقط نظام البعث بعد دقيقتين)، تطلب منه ان يكون رفيقا فيها. عجبي قال ولم تزل لوثة صلاح جاهين تلازمه.
لاحظ ان ما يكتبه يتقطع بذلك النسق الذي لا يختاره بنفسه «ذلك يشبهني على اية حال». ذاكرته تبسط الاحداث بطريقة تجعله على الارجح في مقام ندمه ويأسه. يتلمس كسور روحه وجسده «كثيرة» وتابع «هذا جسمي؛ فما بال جسمك (صاحبي)»؟!. فطور تشبه اكواخ الطين، وكسور تشبه جذوع النخل من دون رؤوس، وفجوات تشبه كهوف كردستان، وضياع يشبه ضياع ابناء بلدك المغلوبين على أمرهم.
وعندما كان يجالس رفاقه، المجتمعين على ذبح (ابو نؤاس)، وهو قنينة العرق الرائجة لرخصها وحجمها المعدل بأكثر من لتر على طاولة بثلاثة ارجل واخرى ترقص، او على ارض بشرشف مزخرف بكلمات الآمس من مقالات جريدة، انتبه، ان الخلافات تعدت كل الأسباب، والاسماء تتطاير منها». واحد يمتطي بغلته عائدا لانه غير مرغوب فيه «لا اظن به سوءًا». واحد سرق اموال الحزب، «اشك بذلك، لكنه ثري ذو موهبة» واحد يضع طعنته فيختار الموضع بدقة جراح ماهر فيصبح ذو تخصصين (مهندس وطبيب) مع انه من دون شهادة مهندسا للجبهة الوطنية وطبيب الحزب المعالج فينشق «صحيح». واحد شوهد يصبغ حذاءه في لندن ولا يرد التحية على احد «نادم لان حل الحزب بالاتحاد الاشتراكي لم يكتب له النجاح». واحد يكتب اخر سطرا للتاريخ قبل مماته في السويد «موثوق، لا شك بروايته، لكنه خائب». كبيرهم لم يزل عزيزا يلبس البشتين ويشد على رأسه الجمداني.«ذو اصل، يعود الى اصله ريفيا». اخر يثقف في كردستان باقتصاد الدولة ويحمل كتبه بغلا «افندي من طراز نادر يركب اية موجة» وصغيرهم يتأهب، وهو مغرم لليوم بمداراة الغرباء قبل الأهل، «اكثر من صح»
صيادون اخرون يصطادون ليس بماء عكر كما احببت ان تقول يا (صاحبي) انما بماء عذب. هم رفاقك الذين تركت، ومصيرهم الذي لم يستحق منك نظرة عين هجروك، وهجروا الجسم قبل الأرض. كل على ليلاه يغني. اما اغنية كوكب حمزة طيور الطايرة، فلا مغني يغنيها سواه.. كان وقتها في كردستان. نعتوه ورفاقه تندرا واستهزاءً بـ «فصيل تحت البطانية». كذلك سالم المرزوق كان صاحب لحنه الأنيق طالب غالي حائرا بالوتر الذي يبعث النشاز، وكاتبها سعدي كان يحتسي فنجان قهوة في لارنكا مع محمود دروبش. عذرا لهذا الإستطراد، فأعود؛ توزع رفاقك بين مؤيد لهذا ومعارض لذاك، فاختاروا الحل الأمثل: الهجرة.
داهمهم صوت انهيار الجدار، اقصد جدار برلين يا (صاحبي). سقط الجدار، (والحزب باق رغم الطغاة). وتناغمتَ مع انغام البروستويكا، فاطلقت لحن الديمقرطية، لمن؟ لا ارض، لاشعب، لا رفاق!. عجبي، قال مناضل وامتدت يده تلامس ورقة بيضاء اخرى فخطوط طلاسمه عمت عينيه فالاسماء كثيرة والاحداث وفيرة وسوادها اكثر من سواد نخيل بلاده، فتذكر بيتا للمعري (شربنا ماء دجلة خير ماء وزرنا سيد الشجر النخيلا).
كتب مناضل كلمة واحدة (هجرة) فأهل البلاد هجروا سيد الشجر السواد، وارتضو بسيد الثلج البياض. اختفت وجوههم خلف القناني التي افروغوها في حناجرهم حتى بحت. غير انهم كانوا سلوى بعضهم، فهم (الموحدون) ببلاء بلاد النخيل، فتقاسموا قميصا واحدا وماكنة حلاقة صدئة. حتى كان الغرب اللعين، الفتنة التي فتنتهم، زوروا وثائق سفرهم، وتركوا صحن الفته للشاميين ودعاء كميل للإيرانيين وغادروا. كل حبيس المه وهو يطبع رسم اصابعه على ورق المحقق، فهم على الأرجح لا ينجون من التحقيق اينما هربوا. لكن خيالهم بقي يقضاً بانتظار حبيب مغامر يطرق بابهم. «هجر الرفاق صمتهم يا (صاحبي)، هجروا حتى زوجاتهم كما انا لا اعرف كيف ومتى ولماذا واين فيبقى بياني منقوصا. لكني اذكر اني تركت ابني ببطنها قلت لي وقتها هما امانة برقبتك»، فتعلقت بها أرامل وزوجات لم يجدن بازواجهن نفس الرائحة حينما عادوا!. «وهذا معروف تجزيه لي لاني عرفت الآن لماذا تركت زوجتي او تركتني ولو بعد سنين طويلة، فهل عرفت يا صاحبي الان لماذا هجرك الرفاق!».
اعادت صفارة الانذار له رشده فاليوم هو الثاني من سبتمبر اعلان انتهاء الحرب بانتصار الحلفاء. انتفض ككلب سمع صوتا، وجعل يعوي مثله. ربما ليثبت لنفسه انه يكرهها. تذكر ان له بلدا كانت الحرب تقطعه وتأكل وابناءه. اشلاء تمتلئ بها الكونتينرات يقصد الحاويات المتروكة للكلاب السائبة والقطط، (لا! قطة اسم جميل يبعث على الراحة)، وتذكر اهزوجة طفولته (قطتي صغيرة واسمها نميرة)، فجعل يغنيها، بينما ينحت صيغة جموع للهر فجمعه على نحو هرره او أهرار فهي الأنسب. اخفى بضربة هر يشبه نمرا كل معدات الطبابة الصدئة فالجراحون لا يحتاجون بعد الآن لمقطع تشريح او صورة اشعة ليبتروا هذه الرجل وتلك اليد. كما لا يحتاج الدفانون بعد الآن اسماء اصحابها فالشاحنات تختصر الأمر، وتدلق في جوفها نفايات الأعضاء وتختفي.
سكت مناضل فالحرب كانت قد اتت على كل نخيل بلاده وزهورها، ورفاقه تبخروا في وبالها وفوضاها. في بارودها فهم قتلاها. من نجى منها هو معتوه او مقعد، ومن بقي هو (بعثي وان لم ينتم). اكل الناس الجراد وحصى الشوارع. الحرب يا (صاحبي) غيرت كل شيء! كل شيء ان خطر لك ببال وان لم يخطر. اجيال لا تعرفك تناقلوا اسماء مدنهم حتى استقرت على اسم القائد، وانتحلت فيما بعد اسم المرجع بقدرة قادر. لا احد يعرف اثر اقدامك فيها ولا احد يذكر اغانيها، لكن الكل يا (صاحبي) يعرف كيف يتهجى، وانت بعيد عنها، مآسيها. لا احملك ذنباً فالاجرام والاستبداد لحنا أعرفه، ومعزوفة مكرورة او (مشروخه) بأحسن حال كما يقول الشعبيون ولكن الا يستوقفك كل ذلك يا (صاحبي)؟! عجبي!.
كان الغثيان الذي اصابه جعله يترك ورقته المملوءة بشخابيط ترضي جنونه، فهو يراجع طبيبا نفسيا منذ وجوده لكنه اخفى عنه امرا واحدا انه يتوق عشقا لوجه حبيبته ورؤية ابنه (بالمناسبة لم يكن له ابن، اما يكذب او يتخيل) لكنه صدقاً له حبيبته ويكتب لها سرا بعض الأشعار، ويعلمها ان رائحته بدأت تتغيير وهو سعيد لذلك. حتى انه راسلها مرة على الانترنت لكنه لم يستلم ردا فأعتبره بادرة حسنة كما قالت له امه يوم خطبتها «السكوت من الرضا». لكن انتظاره تأخر، ربما كان عليه ان يخطو خطوة اخرى، لكنه كان قد نسي كيف يخطو العاشق فزمن الحب بالنسبة له رسماً تاه فاصبح يبعد عنه سنيناً ضوئية.
بدأ يدلق قيح عصارته الصفراء فتقيأ كل الآمه وحسراته: اجرام صدام ومآسي نظامه. الجبهة الوطنية وحل التنظيمات. والهجرة والمهجرون. وجود وجوقد والموجوقدين لدولارات العقيد الذي اصبح مهزوما هذه اللحظة على التلفاز. وانقسامات الحزب، والمقابر الجماعية، والحروب، وكردستان، والانفال، والحرب الباردة، وسقوط الجدار. تجاوز كل تبريرات (صاحبه)، ما معناه، (ان المشكلة ليست بالحزب ذاته انما بالوضع). صحيح. الاوضاع امرها صعب للغاية. تلبس غير لبوسها. واحيانا تشحذ. حتى ان مناضل شاهدها تعبر باتجاه الكعبة، وباتجاه ازادي، ونهر الوند، وارتميس، وتمثال زيوس، وحقول الأموين. وفي آخر مرة شاهدها عن بعد تبحر باتجاه ميناء مبارك فاكمل مناضل «..حتى وصلت ربما حيثما يقيم صديقي في استراليا وعلى وجه التحديد مدينة (.......) مع عائلته يحاور عدة كناغر تسكن ضيعته..». هنا اراد مناضل الاسترسال لكنه توقف، فعليه استشارة صديقه الهارب الى اقصى الكون بجلده «ربما لايرغب!». كما انه لم يتواصل معه منذ زمن طويل جداً. كان يعرف انه يكذب. هاتفه يوم أمس وفتح له سلة اوهامه فرشقه صديقه بكومة اوهام افضل منها. «صحح لي مسارات نصوصي. فعلى الاغلب ان صديقي الهارب من جشع الجغرافيا، وخطوط الطول مسكونا هو الآخر بالوحشة. «لكنك يا (صاحبي) لم تشهد تبدل الاوضاع في علاوي الحلة، واسواق الصدرية او البتاوين. لا شرقا ولا غربا. وستكمل لي انت: شمالا وجنوبا -احسنت- غير ان ما تبذره من الأمنيات لاتسد غلتهً، رمقا، ونسيئها لا يغني محتاج كما لم تفي النتائج التي عبّرت عن (صحة رؤياك) في كل مرة بأدنى عبرة».
لم يرق خيال (صاحبه) ليسبر تلك المتاهه التي كان يرسمها مناضل، فمع كل تشابكها كان الخيط الذي يفصلها عن بعض، ولو شاء مناضل ان يرجع فيها لأمحاها بنفس الدقة التي يرسمها. لكنك يا (صاحبي) لا تعرف عقدتها الأولى ولن تتذكر، ان الامريكان دخلوا ومعهم حلولا جاهزة، وان النظام سقط. «لِمَ تصر على اثبات فشلك يا (صاحبي) في كل مرة على احسن ما يكون واكمل وجه» . عجبي
كانت تزحف على بطونها، جحافل «مفردها جحفل وهو الجيش الكثير العدد حسب محرك گوگل» يقول مناضل. هو الآن لا يكذب، وهو فيزيائي منتحل ولأنه كذلك فهو مولع بظاهر العلوم ساع الى تطبيقها فأدعه يكمل: «جحافل تزحف لاتمام حكمة المرجعيات (ياسيدي)...» - استبدل هنا مناضل كلمة (صاحبي) بكلمة (سيدي) لأول مرة، لان الفكرة تدور عن المطلق- اكمل: «...وتطلق الهتافات لغير من يمثلها ويحميها من اية شرور. وحينما كانت جموع اخرى تهيم في الشوارع بحثا عن من يصوغ لها شعارا، كنت (يا صاحبي)... -استدرك هنا- ...مشغولاً بمصالحة من اختلف على منصب، ويصوّب بحكمةٍ إلاهيةٍ منتقاة قانون البلاد الذي تنغّل جنينه في بطن قضاءه. وفي اللحظة التي كان الصدريون يجمعون حطام الانهيار الكبير، كنت تعد الغائب والحاضر في مجلس النواب الموقر جدا، الذي تأخرت جلساته بسبب العمرة وزعل فلان على فلان ويرسل رسائل تهديد مفخخة ليكملوا له حصته من الكعكة». انتبه مناضل لخشونته فأراد تلطيف الجو فقال: «هل ذقت طعم الكعكة يا صاحبي؟». اكملَ «انا لم أذقها مثلا».
وقف يتأمل فضاءً رحباً من نصف نافذة غرفته العليا، وكانه يتصل بالغيب، سأل كمن يسأل ولا ينتظر جوابا، «هل مازالت الأمبريالية عدوة الشعوب؟ ام ان الوقت تغير فلا اغدو اميز الصح من.الـ.. » اختلط عليه الخطأ من الغلط، قال «الأمر واحد سوى ان كان خطيئة ام غيّره بنفسه». «لكنك لاتختلف معي يا صاحبي ان دخول الأجنبي امر مقيت، اتفق معك انه ليس كل ما قيل صحيح لكني اختلف معك بأن ماحصل أمر رهيب».
كان يتابع اثراً فيفقد توازنه ويميد. اين يضع بطاقة الانتخاب التي ارسلها له الكومون وقتها. فقدها؛ كان رأسه ينز عرقا تلك الليلة. قلب مخدته فعثر عليها وجه الفجر «وللفجر عيون» يقول جبران. واخذ يغني لفيروز.. فتذكر حبيبته وتمايل بعطفيه «فتعالي يا إبنة الحقل نزور كرمة العشاق..». ورمى ببطاقة الانتخاب في فضاء الغرفة.
في اول انتخابات كان مناضل قد اسلم ارادته للمحتل، وثانيها اسلم امره لغير ارادته، وثالثها شطب على ارادته على مضض وقبل التحدي. «كما كنت تقول يا (صاحبي). صفقة خاسرة راهنت عليها، ليش» سقطت الكلمة، «يقال ان اصلها سومري»، فقانون الانتخابات ذكره بأول قانون على الأرض، لكنه «سلبك حتى اصوات محبيك بل جعلها في سلة مناوئيك، وجعلك مثار تندر. عجب مناضل لتاجر يروج لبضاعة خاسرة سلفاً، فيفقد آخر ما عنده. وعندما تعرضت مقرات صاحبه لهجوم يعرف ولا يعرف مصدره، واحكم اقفالها صرخ مناضل اول صرخة لكنه لا يتذكرها الآن فربما كانت على شكل دموع او صرخة على شكل طيور مهاجرة تطرد فتذهب ولا تعود.
وعندما قتل محسن وابو ولاء وكامل واخرون كثيرون، كان (صاحبه) قد تناسى حكمة قديمة: «ان (السن بالسن والعين بالعين) امضى من حكمة راكدة». ومع الخطوط التي كانت ترسمها عينا مناضل وعندما كانت توصل بدايتها بنهايتها وتكشف سر الاحجية وضع مناضل اول كأس على طاولته، وقبل ان يرتشف منها قال «ان تجربة ثمانية عقود لم «تعلمك يا صاحبي ان لا أحد يحب الضعيف، فمتى تعلم!».
اعتدل بهيئته ولم يخلع مناضل بنطاله ولا سترته، بل قلب دفتر تلفوناته القديم، وجعل ينظم اوراقه واختار من بين الاسماء مع (سبق الاصرار) اسم حبيبته، زوجته ليسمع صوتا رائعا عرفه بعد ثلاثين عاما يحييه، كما فيروز (كيفك انت). فابتسم وقال (كيفك انتي).
اقفل مناضل على خطوطه ورعونته والمه وذكرى احبابه بنفس المغلف ونظر الى شجرته، وتمنى من كل قلبه ان يكون صاحبه بوضع يمكنه من فك الشفرة، وان تصله بوقت مناسب قبل عقد مؤتمره فيؤجله ان لم يلغيه.. لبس على عجل بنطاله وسترته. خرج واودع رسالته الصندوق الأحمر القريب من شقته. ندم لانه لم يضمنها اخر ملحوظة. عاد، غير انه بقي قلقا ومسكونا بالحالة. ارعبته فكرته التي اختمرت الآن في ذهنه فكيف لا ترعب (صاحبه) لكنه قرر كتابتها. هرع الى الصندوق يحاول اخراج رسالته ليضمنها ما فكر به غير ان عامل البريد كان قد افرغ الصندوق. رجاه ان يرد له رسالته فقال له العامل «لا احد يملك ما في الصندوق فرسائله ملك عناوينها. ابتسم له وغادر.
#هاشم_مطر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجزرة النرويج وفكرة المواطنة لجيلنا الثاني
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
-
في نقد الحاجة الى ماركس
/ دكتور سالم حميش
المزيد.....
|