الفراق بين الديني والسياسي؟


أمير خليل علي
2011 / 8 / 15 - 00:24     

كانت صدمة بالنسبة لي أن أجد ثلاثة على الأقل من المترشحين لمنصب رئاسة الجمهورية هم من المحسوبين ضمن رجال الدين الإسلامي في مصر .. ما يعني أنهم بهذا الترشح إنما يغادرون بذلك مواقعهم الدينية الدعوية ليلتحقوا بمواقع أخرى مدنية سياسية.

وينبع جزء من صدمتي من تحطم مصداقية جماعة الإخوان المسلمين أمامي عيني بفعل تحركاتها السياسية المتقلبة.

فقد زعمت – بل أكدت - جماعة الإخوان المسلمين في البداية إنها لن ترشح أي مرشح منهم لمنصب رئيس الجمهورية لأنهم يريدون الحفاظ على الطابع الدعوي لجماعتهم الدينية .. ثم وجدناها ترشح حوالي 3 محسوبين عليها (مع طرد أحدهم) ..

ومن الثابت أن الجماعة تتميز بسلطة مركزية تدير القرارات .. ما يعني أن هذه الترشيحات تم الموافقة عليها .. ولم تأت هكذا مصادفة أو بمبادرات فردية.

ثم كان أن أصدرت الجماعة تصريحات تقرر فيها أنها لن تخلط بين الدعوي الديني وبين السياسي الحزبي من خلال تأسيس حزب سياسي بديلا عن جماعة الإخوان المسلمين أسموه حزب الحرية و العدالة

فقد زعموا قبل تأسيس هذا الحزب أنه سيكون حزب سياسي منفصل تماما عن جماعة الإخوان المسلمين ذات الطابع الدعوي ..

وافترضنا المصداقية وحسن النية وراء كافة هذه التصريحات التي أطلقتها جماعة الإخوان المسلمون .. لكن من المحزن أنه مع مرور الزمن بدأت الجماعة تتفلت من هذا الفصل الذي أوهمونا بأنهم أقاموه بين الدعوي وبين السياسي في بداية دخولهم المجال السياسي بصفة حزبية ..

فقد بدأوا مؤخرا في التلميح إلى أنهم ما قصدوا الفصل التام بين الدعوي وبين السياسي .. ما يعني أنهم إنما كانوا يقصدون التمييز "النظري" فقط وليس الفصل أو التمييز "العملي" ..

هذا التفلت رآه البعض دليلا على أن أغلب التصريحات التي صدرت عن الإخوان المسلمين بصدد الفصل إنما كان هدفها هو المداورة والمناورة دون أي نية صادقة لتطبيق ما ورد فيها

لكني سأخاطر بما يلي:

أنا أفترض حسن النية لدى الجماعة .. لماذا؟

لأني أظن بحق أن الجماعة "لا تفهم" بوضوح ما هو الفرق بين الدعوي الديني وبين السياسي الحزبي .. ولا تفهم ضرورة الفراق بين الديني والسياسي.

بل أظن أن قطاعات عريضة في المجتمع المصري لا تفهم هذا الفرق ولا ترى أي ضرورة للفراق بين السياسي وبين الديني .. وذلك بناء على الاستجابات والتعليقات التي حصلت عليها في مقالي السابق.

لذا وفيما يلي سأحاول أن أجتهد في تنوير هذا الفرق للجميع .. وأجري على الله!

من المتوقع في الظروف العادية أن من يصبح رئيساً للجمهورية فإنه حتما سينشغل بالعمل السياسي .. بحيث أنه لن يجد الوقت أو الجهد لممارسة ما كان يمارسه قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية.

فالمفترض أن موقع رئيس دولة كمصر يجب أن يجعل شاغله عاجز عن التفلت من المهام السياسية ليلتفت إلى أي مهام دينية أو دعوية. بل حتى مهام الإفساد التي كان يمارسها النظام السابق كان أسمها إفساد "سياسي".

لكن مع تضاؤل الهامش الذي يقيمه الإخوان المسلمون بين الدعوي وبين السياسي يوما بعد يوم .. فإن الأمور أصبحت غامضة وبحاجة لطرح أسئلة حول مدى فهم الإخوان المسلمون - وأغلب الإسلاميين - للفرق الحقيقي بين الدعوي وبين السياسي.

وهنا أعود إلى تحليلي السابق لحوار المرشح الإسلامي حازم صلاح أبوإسماعيل

فقد أصر هذا المرشح أن يخوض في مسألة: كيف أن الحاكم يمكن أن الفرائض الدينية ومنها الحجاب على النساء في الدولة باعتباره الحاكم

ومن هنا بدأ يتأكد عندي أن الإسلاميين لا يفهمون بوضوح الفرق بين الدعوي وبين السياسي.

فيبدو أن المرشح الإسلامي – مثل حازم أبوإسماعيل على الأقل بصفته مرشح إسلامي – لا يفهم بالمرة أن مهام رئيس الجمهورية السياسية تختلف تماما عن مهام خطيب المسجد أو زعيم الجماعة الدعوية أو مأذون القرية.

فالدعوة إلى فرض الحجاب أو منع الخمر أو - ما وصفه أبوإسماعيل – بالحفاظ على "طهارة" المجال الاجتماعي من "إفساده وتلويثه" بواسطة الكفار والعاصيين غير المطيعين لدين الله .. أقول أن كل هذه الأمور تؤكد أن المرشح الإسلامي لا يفقه الفرق بين الدعوي وبين السياسي .. بحيث أن ما فهمته من حوار المرشح هو أنه لو وصل إلى المنصب السياسي، فإنه إنما سينفق جل وقته وجهده في ممارسة نفس النشاط الدعوي الديني الواعظ في مسائل الفضائل الأخلاقية والدينية .. وذلك عوضا عن متابعة الشئون السياسية للدولة.

قد يعترض معترض علي – وهو ما حدث في التعليقات على مقالي – ويقول لي:

ولكن لماذا تكره أن يعظنا الشيخ في فضائل الأخلاق؟

وإجابتي هي:

أني لا أعترض على ممارسة الشيخ للوعظ .. فهذه مهمة دينية جليلة ومطلوبة

لكني أعترض على أن يمارس هذا الوعظ بصفته رئيس الجمهورية .. وليس بصفته شيخ مسجد.

لأن هنا بالضبط يختلط السياسي بالديني .. وهنا يكمن الخطر الذي اعترض عليه.


فما علاقة الوعظ بصدد كون الحجاب (أو غيره) فريضة أو ليس فريضة بممارسة السياسة في الدولة؟؟

فمثلا بعد أن تفتق ذهن السيد حازم أبوإسماعيل عن الحكم الفذ باعتبار غير المحجبة "عاصية" – رغم كونه حكم يعود إلى ألف سنة من العمر ربما من أيام واصل إبن عطاء – أقول أنه بعد هذا الحكم العبقري .. فما هي قيمته في مجال السياسة ؟؟ وكيف سيطبق هذا الحكم القديم على المجتمع السياسي المصري؟

فالمسألة لا تمكن في القيام بعنتريات إصدار أحكام أو مسميات دينية ترجع بنا إلى العصر الوسطوي ثم الاكتفاء بهذا ثم إلقاء الحمل .. "ويا دار ما دخلك شر" .. لا !!

بل المسألة هي كيف سيطبق هذا الحكم من موقعه المترشح كرئيس للجمهورية.

وإلا فإن كافة المسلمين يعرفون أن "تاركة" كذا (الحجاب – البسملة – ليلة القدر ..) هي عاصية .. وتارك كذا هو عاص .. فلا عبقرية في إصدار هكذا حكم .. إنما العبقرية هي في طريقة التطبيق وطريقة تنزيل هذا الحكم على الواقع .. داخل المنظومة السياسية للمجتمع.

وإلا فإن أي شخص – حتى ولو بائع متجول - يصلح لأن يصبح رئيس جمهورية ويكتفي بإصدار أحكام وسطوية عنترية وحجرية على الناس ويترك للمطوعين – كما في السعودية – مهمة تنفيذها.

لكني لا أظن أن السياسة في مصر تحتمل هكذا ممارسة.

فالسؤال هو:

هل ما يقصده أبوإسماعيل مثلا هو أن غير المحجبة هي عاصية .. ما يعني مثلا أنه سيعتبر أن المواطنة المحجبة هي مواطنة سوبر تتمتع بكل حقوق المواطنة .. بينما سيعتبر المواطنة غير المحجبة هي مواطنة درجة ثانية .. بحيث يجب أن تتعرض لغرامات مثلا أو ما شابه لكونها عاصية؟؟

وهنا يتضح أن المسألة لا تقف عند مجرد استخراج - أو تلفيق - حكم بلغة شرعية .. بل المسألة تتعلق بتنزيل هذا الحكم من المجال الديني إلى المجال السياسي .. وإقناع الناس بتطبيقه.

وهنا بالضبط تكمن نقطة ضعف السيد حازم أبوإسماعيل ومثله أغلب المرشحين الإسلاميين.

فهناك خطورة في الظن بأن الحكم الديني والشرعي – رغم تلفيقيته عن أبوإسماعيل - أقول هناك خطورة في الظن بأن مجرد الوصول إلى حكم ديني وشرعي – وإيهام الناس بذلك – هو في حد ذاته يمثل كل المطلوب في المجال السياسي.

وهنا مكمن الخطأ والخطر.

فالإشكالية السياسية تتخطى الإشكالية الدينية عند هذه العتبة تحديداً

فالإشكالية السياسية هي طريقة تنفيذ الأحكام وتطبيق الرؤى في الواقع وتسييره.

أما الإشكالية الدينية والشرعية .. فإنها تقف بالضبط عند حد إصدار هذا الأحكام وبلورة قيم وغايات ومسميات لها طابع نظري قيمي .. دون أن يكون لها لها طابع عملي تنفيذي.

ولهذا ا لسبب تحديدا .. تجدنا جميعا – أو أغلبنا - نعرف ونعي بالضبط ما هي الأخلاق وما هو الدين .. لكننا رغم ذلك كثيرا ما نخطيء ونفشل في تنفيذ وتسيير حياتنا وفق هذه الرؤية الأخلاقية والدينية ..

فالمسألة لا تتم من خلال الإصرار الحماسي أو الأعمى على وضع القيم الدينية والأخلاقية موضع التنفيذ مهما كلف الأمر .. فهكذا إصرار إنما يمثل تهديدا خطيرا للمجتمع السياسي .. وهذا بالتحديد هو خط رجال الدين.

أما رؤية السياسيين فهي لا تدور حول التنفيذ الحماسي أو الأعمى للمبادئ والغايات والقيم الأخلاقية والدينية .. بل إن الرؤية السياسية معنية بفتح مسارات جديدة مبتكرة تحقق مقاصد هذه القيم دون أن تسقط في حرفية (حروفية) هذه القيم.

وهنا بالضبط حيث يتفارق السياسي مع الديني

وهنا بالضبط مغزى القصة القرآنية الرائعة لفراق سيدنا الخضر لسيدنا موسى في القرآن، عندما قال الخضر لموسى:

"قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا" (الكهف)


هنا بالضبط يكمن الفرق بين السياسي وبين رجل الدين؟

فالنبي موسى هنا يمثل رجل الدين المتمسك بالقيم الأخلاقية والدينية بكل حماسة مهما كلفه الأمر ودون أن يمارس التأويل السياسي.

أما الخضر .. فقد غادر المجال الديني .. ليمارس تأويل القيم الدينية والأخلاقية النظرية وتحويلها وإحالتها إلى قيم سياسية وعملية قابلة للتنفيذ والتطبيق على أرض الواقع.

فرجل الدين في حماسته للقيم والأحكام القطعية الدينية "لا يستطع صبرا" مع رجل السياسة .. لأن مجالهما مختلف وأسلوب عملهما وأسلوب تفكيرهما مختلف .. بل لدرجة التضارب.

لذا فلابد من الفراق بين رجل السياسة وبين رجل الدين .. وإلا سيقيد رجل الدين رجل السياسة وسيحبط كافة خططه.

هذه هي حكمة الفصل بين السياسة وبين الدين مستخرجة من القرآن نفسه الذي صورها بدقة وإعجاز رائع في سورة الكهف الآيات 69 إلى 82

فرجل الدين يتلهف على دخول مجال السياسة ليتعلم منها ويتعهد للسياسي بقوله: "سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً" (الكهف/69) .. وهذا رغم تحذير رجل السياسة لرجل الدين بالقول: "إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً" (الكهف/72)

إلا أن رجل الدين يعاند ويعاند حتى يفشل

المشكلة في منصب رئيس دولة مصر في حالتنا الراهنة هي أن فشل رجل الدين في هذا المنصب سيعني فشل دولة بحالها، في ظروف لا أظننا نحتمل فيها مثل هذا الفشل.

لذا أرجو من رجال الدين أن يفطنوا لمغزى سورة الكهف وأن يتعلموا من قصة موسى والخضر .. قبل أن يتسببوا في فشلنا جميعا.