جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3436 - 2011 / 7 / 24 - 21:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن محاولة الإجابة على هذا السؤال لا تنطق من حاجات البحث التاريخي أو الأكاديمي المجرد, وإنما هي ذات علاقة أساسية بما يجري الآن من صراعات قد تكون لها ذات الأسس البنيوية رغم اختلاف قواها ومناهجها وأدواتها الفكرية. إن الفكر التكفيري كما أحسبه ليس محصورا بالإسلام الأصولي السلفي وإنما أيضا بالفكر الأيديولوجي الشمولي الذي يعمل بنظام الحتميات التاريخية والذي لا يرى الآخر إلا بعين المقت والكراهية ولا يتوقع أبدا أن يكون الآخر طيبا إلا إذا كان ميتا.
لذلك.. فكلما قرأت أو سمعت من رجال الأيديولوجيات الشمولية كلاما هجوميا أو نقديا ضد الحركات السلفية التكفيرية فإني أستعين بالضحك للهروب من الغثيان, ليس حبا بتلك الحركات التي تحول الله الرحيم إلى شرطي في مديرية أمنها العام, بل كرها بكل من يهاجم غيره وهو ينسى إن ما يهاجمه في خصمه هو فيه, وإن الفرق بينهما قد يكون بأي شيء إلا منهجيات الأفكار.
في محاولة الإجابة على سؤال من سبق من في عنف نهاية الخمسينات من القرن العشرين لن يفيدنا مطلقا الاعتماد على تواريخ الصراع الشيوعي البعثي, للاستدلال من خلال تراتبيته, على أن الشيوعيين كان من بدأه, أو أن استجابة البعثيين كانت بمثابة ردة فعل. ذلك أن نظرية البعث أيضا لم تكن تملك أية فرصه للتطور خارج دائرة السياق الاستبدالي العنفي, أو أن تعدل ولو بعضا من معتقداتها الأيديولوجية. ولنا أن نعرف, أن ذهاب عبد الكريم قاسم في تحالفه مع الشيوعيين إلى ما ذهب إليه كان بحد ذاته نتيجة لنهج القوميين المعادي له, ولتصريفهم كل ما هو وطني من باب الانحراف القطري الذي لا يجوز التعاون مع مرتكبيه, حيث كان يجري تبويبهم في خانة الانحراف إن لم يكن في خانة الخيانة والخروج على الأمة وهدفها الوحدوي المقدس. وبدون الوحدة الفورية مع عبد الناصر لم يكن البعثيون على استعداد لإقامة علاقات ودية مع أي فصيل خارج ميدان ذلك الشعار.
وإلا كيف يمكن لنا أن نقترب من شعار(عاش جمال العراق عبدالكريم قاسم ) الذي كان ردده البعثيون يوميا من غير أن نفهم أن البعثيين لم يكونوا ينظرون للآخرين أو يصفقون لهم إلا إذا كانوا نسخة طبق الأصل مما يريدوه.
وهكذا جري تعويم الخصوصيات الوطنية لصالح الأفكار القومية, ولو كان تم تعديل أو تحوير للأفكار لأمكن تلافي الكثير من المحن وخاصة في تلك الفترة الدامية التي فتحت الأبواب لصراع أشد تدميرا. ومما يمكن أن نقف عنده أيضا هو طريقة الغاء الزمان والمكان الوطني بجرة قلم قومية كما كشفه شعار ( نريد الوحدة باجر باجر " غدا غدا" – من هل الأسمر عبدالناصر )
لكن القول إن البعثيين هم من مهد الطريق إلى العنف وذلك من خلال إسراعهم لفرض حتميتهم القومية التاريخية لا يلغي مسؤولية الشيوعيين الكبيرة أيضا, فما إن أخطأ البعثيون حينما وضعوا أنفسهم موضع النقيض للحكم الوطني من خلال أحلام قومية عجولة حتى تلقفهم الشيوعيون وكأنهم كانوا بانتظار الخطأ البعثي لغرض الانقضاض على حليف الأمس والتخلص منه.
كان الشيوعيون قد احتلوا تماما الشارع السياسي ورغم إن الزعيم لم يكن يحبذ مشاركتهم في الحكم بشكل مباشر لأسباب التخوف من الحساسيات الغربية فإنه شجعهم ومنحهم بركته لاحتلال الشارع والهيمنة على المنظمات الجماهيرية جميعها. وإذ لم يكن قاسم شيوعيا إلا أن حسابه للمسافة التي كانت تقفها القوى من نظامه قد دفعه لأن يعتمد على الشيوعيين لحسم صراعه مع الأطراف القومية, وقد ظهر واضحا بعد أحداث كركوك الدامية كيف أن الزعيم انقلب على الشيوعيين وهاجمهم في خطابه ناعتا إياهم بالفوضوية لاعتقاد منه إنهم تجاوزوا الخط الأحمر وإن مذابح كركوك والموصل ومنظر الجثث المعلقة على أعمدة الكهرباء أو تلك التي سحلت بالحبال قد بدأ يثير حفيظة الرأي العام العالمي ضد الجمهورية ويجعل زعامته في موقع ضعف.
من ناحية فكرية, وعلى الرغم من إن الشيوعيين كانوا كما البعثيين أصحاب نظرية عنف أيضا, وهم من علم البعثيين "كاراتيه" المركزية الديمقراطية, التي تشكل مع الفكر الأيديولوجي الشمولي بعض الحواضن الأساسية للعنف السياسي إلا أنهم لم يدخلوا في صراع النقيض مع عبدالكريم قاسم, وذلك لسببين أساسيين, أولهما سياسي وثانيهما اجتماعي.
سياسيا يمكن استعادة أن موسكو لم يكن في واردها التناقض مع ثورة الرابع عشر من تموز العراقية لأنها كانت خرجت من تلك الثورة بمكاسب سياسية كثيرة وكبيرة لذلك كان متوقعا أن يأتمر الشيوعيون العراقيون بذلك التوجه وأن يضعوا كل طاقاتهم من أجل دعمه والتخلي عن أية أفكار تجعلهم في صراع مع سلطة قاسم....
وبهذا بات علينا أن نفهم إن تحالف أو تآلف أو اقتراب قاسم من الشيوعيين لم يكن ليقوم لوجود اهتمامات شيوعية قاسمية سابقة أو لتشبع قاسم بثقافة ماركسية, وإنما لأن الشيوعيين لم يكونوا يشكلون خطرا على حكمه كذلك الذي بدأ يشكله البعثيون والقوميون. ولو أن البعثيين لم تكن لهم أحلاما قومية عجولة لكان بالإمكان تهدئة اللعبة بعض الشيء, والاتفاق مع الزعيم على سياسات مشتركة, خاصة وإنهم كانوا يتمثلون في مجلس الوزراء برئيسهم آنذاك فؤاد الركابي, رغم أن تنظيمهم, عمرا وعددا, لم يكن يمثل سوى نسبة صغيرة بالمقارنة مع الشيوعيين, ومن الأكيد أن لتحالفهم مع عبدالسلام عارف الذي أدى جنوحه وطموحه الشخصي لأن يطلق إشارة بدء الصراع, أثرا على تحديد تلك الإصطفافات.
غير أن ذلك لم يكن وحده هو الدافع الوحيد لميل الشوعيين الحقيقي للتحالف مع عبدالكريم قاسم, فبالإضافة إلى البرنامج السياسي الخاضع لخط الشيوعية السوفيتية فان البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للشيوعيين كان يتوافق مع برامج قائد الجمهورية ومؤسسها عبدالكريم قاسم, فلقد كان هناك تاريخ شيوعي طويل ضد الإقطاع وتحالفه مع برجوازية المدن وبما جعل البرامج الوطنية لقائد الثورة برامج متشابهة في البعض ومتقاربة في البعض الآخر.
لقد كان الحزب الشيوعي, وفيما يخص علاقته بسلطة الزعيم, وبرغم عقيدته الأيديولوجية الشمولية أقدر من البعثيين على تطبيق سياسة المراحل بما جعله أكثر قدرة على ما أسميه هنا التوافقية المرحلية التي تتجلى بوضوح في محورة القوى السياسية حول برامج مرحلية ومهمات وطنية قد تمتد لسنوات. أما البعثيون والقوميون فلم يتمكنوا على الخروج من الفكر التاريخي الخطابي ذا الطابع التعويمي الذي غيب كل قدرة لديهم على التمرحل السياسي الإستراتيجي المطلوب, وبما وضعهم على تناقض خطير مع المرحلة الوطنية التي كان يعيشها العراق آنذاك.
إن دفاع الشيوعيين عن نظام ثورة الرابع عشر من تموز كان له أسبابا مهمة أخرى وفي المقدمة منها معرفتهم بأن الإندفاعة البعثية والقومية باتجاه الوحدة مع عبدالناصركانت ستجعلهم في مواجهة أخطار كبيرة, فلقد كان الحزب الشيوعي مرشحا لأن يسير على درب أخيه في مصر بعد أن حله عبدا لناصر ودعاه لأن يصبح جزء من تنظيم الإتحاد القومي الذي تحول بعد قيام وحدة مصر وسوريا إلى الإتحاد الاشتراكي .
ومع أن بالإمكان الإتفاق على أن الإستعجال القومي بشأن إتمام الوحدة الفورية مع مصر كان سببا أساسيا لإنطلاق الصراع الذي كان إستخدمه الضباط القوميون, تقدمهم عبدالسلام عارف, وذلك لحسم صراعاتهم الذاتية مع عبدالكريم قاسم والضباط المحيطين به, لكن من الحق القول أن الشيوعيين كانوا انتهزوا هذه الفرصة للقضاء على غريم هو البعثيون والتيار القومي, والأبعد من ذلك إنهم عملوا بديلا لأجهزة الشرطة والأمن ووضعوا أنفسهم في موقع السلطة, وفي الكثير من حملاتهم القمعية تلك تبين أنهم كانوا يعملون لصالحهم أكثر مما كانوا في وارد الدفاع عن خط الزعيم, وأن إندفاعتهم تلك أسست لطلاق حتمي من حليفهم البعثي السابق الذي كان ضمتهما معا جبهة الإتحاد الوطني التي كانت تأسست قبل سنة من انهيار النظام الملكي.
ولقد بلغت خسائر القوميين والبعثيين وطرق التنكيل الشيوعي بهم إلى تشغيل دورة العنف القادم وإلى تراجع قيمة الإجابة على تساؤل من نوع من كان البادئ في الصراع, إذ حينما بدأ الصراع يشكل دوائر مغلقة فإن العثور على خط البداية يصبح صعبا, كما ويصبح العثور على ذلك الخط غير مهم أيضا إذا كان الهدف منه تحميل طرف من الأطراف المسؤولية الجنائية, لأن ذلك على رغم أهميته سوف يتقاطع مع الأهم, أي مع أهمية تشخيص المسؤولية السياسية والفكرية التي تطلق العنان لجرائم العنف والتي ترشحها للتكرار.
وتماما كما برر الشيوعيون قمعهم للتيار القومي بعد الرابع عشر من تموز بحجة الدفاع عن الثورة وحراسة الجمهورية فإن البعثيين لم تنقصهم الحجة ذاتها حينما توجهوا لقمع الشيوعيين بشدة بعد شباط من عام1963, إذ لم يكن صعبا عليهم أن يعلنوا أيضا أن ذلك كان ضروريا لحماية الثورة, وقاموا من جهتهم لتجديد تجربة المقاومة الشعبية من خلال الحرس القومي.
ولعل كل ما أقوله هنا ليس من باب تبرئة هذا أو ذاك عن فترة الاضطراب الدامية تلك وانما من باب البحث عن الحقيقة التائهة وترتيب حجوم الأخطاء والتعرف على الأسباب الحقيقية ألتى أدت إليها, ولحتى تكون لدينا قدرة التعرف على مواقع الخطأ لتجاوزه, ومن أجل كتابة عادلة للتاريخ السياسي للعراق في تلك الحقبة, مؤمنا أن قدرة بقاء الحزب السياسي تتوقف إلى حد كبير على إستعداده لنقد تاريخه ومسيرتهز
ومن هذا أقول, أن السبب الرئيسي لتلك المعارك التي احتدمت بين الحزبين بعد الرابع عشر من تموز هو راجع لطبيعة مدرسة المتصارعين الأيديولوجية الشمولية المشتركة التي تعتقد بملكيتها للتاريخ وبعدم أحقية الآخرين لأن يكون لهم نصيبا من هذه الملكية. لكن هذا التصور العام لأساس الصراع لا يلغي خصوصية بعض العوامل التي تحدد البادئ فيه.
وأقول أيضا, أن التاريخ يعيد نفسه على مستوى المبادئ العامة وإن عبرت تلك المبادئ عن نفسها بتفاصيل مختلفة, فإن كان للعنف السياسي عوامله المركزية التي تتواجد في كلتا النظريتين الشموليتين, البعثية والشيوعية, فإن الأحزاب الدينية مرشحة لأن تقوم بنفس الدور, وإن اختلفت التفاصيل, وذلك من واقع تفكيرها الشمولي, وهو عنصر تتشارك فيه هذه العقائد الثلاث.
وليس هناك ضمانة حقيقة للقضاء على حواضن هذا العنف السياسي لدى تلك العقائد إن لم تتخلى عن حتمياتها التاريخية ونظرياتها الشمولية بإتجاه تعزيز الإيمان بالديمقراطية سواء داخل الحزب وخارجه.
دون ذلك فإن بإمكان التاريخ أن يعيد نفسه.. وإن تم ذلك من خلال تفاصيل مختلفة.
و أن بإمكان الشيطان أن يتحرك في التفاصيل أيضا.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟