|
الفرانكفونية: منفى اللغة وصراع الثقافات
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 3394 - 2011 / 6 / 12 - 22:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفرانكفونية ظاهرة ثقافية ـ سياسية مركّبة تتجذر في سياق تاريخ فرنسا الاستعماري. وهي، بمعنى ما، تمثل العصارة الثقافية لذلك التاريخ بتعقيداته، ووجوهه الدراماتيكية المتباينة، ومآسيه، وإفرازاته كافة. وفي إطار مفهومها تندرج مسائل اللغة والسياسة والثقافة والترجمة والتعليم، وأيضاً مشكلات الهجرة والمنفى والاغتراب والانتماء والهوية. وقد سعت فرنسا، في الفترة الماضية إلى ابتكار إطار لاستقطاب المعنيين باللغة والثقافة الفرنسيتين، والمشتغلين بها من أبناء المستعمرات القديمة، لاسيما في الفنون الإبداعية، وهذا الإطار أُطلق عليه تسمية الفرانكفونية. لكي نستوعب مفهوماً إشكالياً مثل الفرانكفونية لابد من محاورة المشتغلين في فلكها، وهم الكتّاب ( من العالم المستعمر/ بفتح الميم ) الذين لم يكتفوا بمغادرة أرض مولدهم وأجدادهم والسكن في المتروبول الاستعماري فقط، بل غادروا لغتهم كذلك ( طائعين أو مرغمين )، ليسكنوا لغة المستعمر، وهي، هنا، اللغة الفرنسية. وهذا ما فعله الكاتب والصحافي العراقي شاكر نوري وهو يلاحق ثلاثين كاتباً فرانكفونياً بأسئلة حادة، بعضها مباشر وبعضها لا يخلو من المكر، ستعطي أجوبتهم عليها صورة بانورامية مجسّمة عمّا عليه الفرانكفونية، وذلك في كتاب ( منفى اللغة ـ حوارات مع الأدباء الفرانكفونيين/ كتاب دبي الثقافية/ 48 إبريل 2011 ). قبل عقود قال الكاتب الجزائري/ الفرانكفوني كاتب ياسين ( اللغة الفرنسية منفاي ) ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه الكلمات الثلاث الخلاصة المعبِّرة عن تلك الظاهرة التي ولّدت نتاجاً أدبياً راقياً أغنت، لا المجال الثقافي الفرنسي وحده، بل الثقافة الإنسانية برمتها. منذ البدء يكشف شاكر نوري عن نواياه وإستراتيجيته من وراء إجراء هذه الحوارات ومن ثم جمعها بين دفتي كتاب مطبوع. وتلك النوايا ترتبط بهاجس التعرّف على موجهات كتّاب الفرانكفون وأفكارهم ورؤاهم إلى ذواتهم في علاقتها بالوطن الأم واللغة الأم والمهجر واللغة الأخرى التي امتلكوا ناصيتها فامتلكتهم لتلوِّن بدرورها تلك الأفكار والرؤى وتمنحها وجهة خاصة، وحيث يستحيل هاجس المعرفة إلى أسئلة وخواطر تشغل الحقل الثقافي. والأسئلة المحورية التي سيركز عليها المؤلف هي من قبيل: "هل الأدب الذي يبدعه الكتّاب والأدباء العرب بالفرنسية يشكل إضافة إلى الثقافة العربية أم يساهم في خلخلة الهوية؟... هل تلعب الرواية المغربية الفرانكفونية دوراً مهماً في تشكيل وعي الناس وتجاربهم؟... وهل تفتح الكتابة بالفرنسية المجال أمام الكتّاب المغاربة لتناول المحرمات التي لا يمكن للكاتب العربي الاقتراب منها بالعربية؟". إن الاحتلال الاستعماري ينتج وضعاً نفسياً وثقافياً وتاريخياً مأزوماً في البلد المستعمر ( بفتح الميم ) تستمر آثاره في حياة أجيال متعاقبة لاحقة. ولعل التأثير الأكبر يحدث في مجال اللغة لكونها الوعاء الذي يتضمن التاريخ والثقافة، فضلاً عن بعدها النفسي والاجتماعي، وهي تتجسد في نصوص. ويتنبه شاعر فرانكفوني كبير مثل صلاح ستيتيه، وهو من أصل لبناني، إلى هذا الأمر بوعي واضح. فأن تكتب بلغة أخرى لا يعني، في الأحوال كلها، أنك تقطع، وإلى الأبد، مع لغتك التي تشربتها مع حليب الأم. يقول؛ "فنحن لسنا أبناء هذا البلد أو ذاك بل أبناء الكلمة التي ولدنا بها، وأثرت فينا، لذلك أسعى إلى دراسة النصوص الأساسية التي كونتنا من أجل أن أفهم مخيلتي، ولكي أفهم من أنا اليوم، ومن أنا غداً، ومن أنا في الأنطولوجيا، في التكوين العالمي الكائن". ومن أهم هذه النصوص الأساسية، كما يذكر، القرآن الكريم. والشاعر ستيتيه عاش في فترة الانتداب الفرنسي وتعلم اللغة الفرنسية ولم يقترب من العربية إلا في فترة متأخرة، لكن العربية بتراثها ومنجزها الأدبي والمعرفي بقيت حاضرة في خلفية وعيه وثقافته. لذا لم يكتب أدباً بالفرنسية التي يعرفها الفرنسيون، لم يرد أن يضيف الماء إلى الماء، على حد تعبيره، بل كان عليه البحث عن شيء آخر يضيف حساً مختلفاً على لغة النص الذي يكتبه، وهو ما يمكن أن يغترفه من منابع لا وعيه. وهنا يكمن سر نجاح، لا صلاح ستيتيه وحده، وإنما سر نجاح كثر من الكتّاب الفرانكفونيين. الفرانكفونية وصراع الثقافات التحق جوزيف كونراد ( 1857 ـ 1924 ) البولندي/ الأوكراني الأصل بالأسطول البريطاني وهو في الحادية والعشرين من عمره، ولم يكن يتقن، يومها، شيئاً من الإنجليزية، غير أنه أصبح فيما بعد واحداً من أشهر كتّاب الرواية الإنجليز بعد أن ضخ دماً جديداً في أوردة اللغة الإنجليزية.. لقد جاء من بيئة أخرى وكانت له رؤيته وتاريخه ومخيلته المختلفة، وهذه كلها، ناهيك عن تجربته الجديدة مع الأسطول البريطاني المتنقل في البحار البعيدة بين مستعمرات الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ستفعم أسلوبه في السرد بسمات خاصة، وتكسبه قدرة مميزة على التوغل في أعماق شخصياته، وتصوير الجانب المرعب من السياسة الاستعمارية البريطانية، في أفريقيا، وفي غيرها. لم يكن كونراد ابن مستعمرة بريطانية، لكن بعد هذا التاريخ ستستقبل بريطانيا كثراً من الكتّاب الأصلانيين/ المتحدرين من المستعمرات الذين سيكون لهم تأثيرهم الواضح في قاموس اللغة الإنجليزية وآدابها. ويمكن أن نستذكر أسماء نايبول وأونداتشي وسلمان رشدي وأنيتا ديساي وعشرات غيرهم. وهؤلاء جميعاً سيمهدون لنحت اصطلاح/ مفهوم ( ما بعد الكولونيالية ) كما تحدث عنه مفكرون قادمون، هم أيضاً، من المستعمرات السابقة، مثل هومي بابا وإدوارد سعيد، الذين وجدوا لهم موضعاً في مدار الثقافة الأنجلوفونية. ويناظر مفهوم ما بعد الكولونيالية مفهوم الفرانكفونية الذي هو تخريج صادر من المؤسسة الثقافية الفرنسية، وهي التي ارادت توصيف أولئك الذين قدموا من المستعمرات وأخذوا يكتبون أدباً بالفرنسية بعد أن حرموا من إتقان لغاتهم الأم وتعلموا في المدارس الاستعمارية، ومنهم ألبير قصيري والطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي وأمين معلوف وصلاح ستيتيه وعشرات غيرهم. وهذا التخريج أو التوصيف لا ينطبق على الأوربيين الذين جاؤوا إلى فرنسا وراحوا يكتبون بالفرنسية مثل نابوكوف وسيوران ويونسكو وبيكيت وكونديرا. إذن ثمة محمول سياسي ثقيل في مفهوم الفرانكفونية. وربما كان ذلك المحمول مشرباً بشيء، ولو ضئيل، من العنصرية. لكن اختلاقه يعد موقفاً استراتيجياً واعياً من الدولة الفرنسية نفسها، بمؤسساتها الثقافية العريقة والتي دعت إلى مؤتمر واسع للفرانكفونية لتعزيز فاعلية الثقافة الفرنسية، في مواجهة غريمتها ( الأمريكية/ الأنجلو سكسونية ) والحيلولة دون تعرّض اللغة الفرنسية للانحسار والجفاف. فالكتّاب الفرانكفونيين العرب، كما يقول شاكر نوري في مقدمة كتابه ( منفى اللغة )؛ "يتمثلون ـ وهم يكتبون بالفرنسية ـ الفكر الفرنسي والمجتمع الفرنسي أكثر مما يتمثلون مجتمعهم العربي، لأن اللغة لها أثر في الفن، كما أن لها أثراً في الفكر". جرى النظر، لمدة طويلة إلى مفهوم الفرانكفونية، عندنا، بارتياب، لاسيما من قبل من وظّفوا أنفسهم حرّاساً للهويات الفرعية الضيقة والمنعزلة، وجعلوا من نظرية المؤامرة منطلقهم في النظر إلى الآخر. وهذا، لا شك، من تداعيات المرحلة الاستعمارية بمساوئها وأهوالها، وبوجهها الثقافي العنصري. وفرنسا مثلما نعلم كان لها مثل هذه الوجهة. وهي ما تزال تمنح الشأن الثقافي أهمية كبيرة. وقد سعت مؤسساتها الثقافية، من أجل الحفاظ على حيوية اللغة الفرنسية عبر حقنها لا بمفردات جديدة وصياغات جديدة ( مستعارة من لغة وثقافة المستعمرات والشعوب الأخرى ) فحسب، وإنما بنكهة جديدة وروح جديدة وأفق أكثر انفتاحاً. وجد الكتّاب الفراكفونيين حيّزاً خصباً، وملائماً للانتشار ولإيصال أصواتهم إلى النخب الثقافية الغربية، والتعريف بأدبهم هناك. حيث مساحة المتعلمين والقراء والمهتمين أوسع بكثير من مساحتها في بلدانهم. تقول أندريه شديد وهي كاتبة من أصول مصرية؛ "إن اللغة الفرنسية لغة منفتحة، وهي اللغة التي نستطيع ان نصب فيها هويتنا الخاصة. على سبيل المثال لا يضيرني أن اتحدث عن مصر باللغة الفرنسية، هي نوع من المصفاة..". من جهة ثانية كانت لكتابات بعض أولئك الفرانكفونيين دوراً لا يستهان به في تنبيه الرأي العام الفرنسي إلى واقع الاستعمار المؤلم. ونتيجة ذلك انبرى كتّاب ومثقفون وسياسيون فرنسيون بالمناداة لإنهاء السيطرة الاستعمارية وإعطاء البلدان المستعمرة استقلالها، كما حدث مع القضية الجزائرية والتي استقطبت لصالحها أقلام كتّاب عظام، لعل من أبرزهم جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سخط
-
بإهمالنا القصة القصيرة نُحدث ثلمة مؤسية في جدار ثقافتنا
-
-السرد والكتاب-: السيرة النظرية لمحمد خضير
-
آليات الكتابة السردية
-
الغبش
-
سيرة ظل
-
ثورة الشباب العربي: حول أدوار المثقفين
-
الثقافة التحتية ومثقفو الهوامش
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 9 وجهتا نظر عربيتان
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 8 غودولييه.. جوناثان ري.. وآ
...
-
ثورة الشباب العربي: الدخول في عصر ما بعد الحداثة
-
موسم سقوط الثقافة السياسية الفاشية عربياً
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 7 كاسترياديس.. جون مولينو
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 6 ألتوسير.. ريجيس دوبريه
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 5 سارتر والماركسية
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 4 مدرسة فرانكفورت ونقد أسس ا
...
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 3 غرامشي.. لوكاش
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية 2 من كاوتسكي ولينين إلى الست
...
-
ما بعد ماركس.. ما بعد الماركسية: 1 مدخل
-
مأزق النقد
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|