|
رسالة من الجحيم : إنْ لمْ تهُبّوا فهِبُوا
ليندا كبرييل
الحوار المتمدن-العدد: 3340 - 2011 / 4 / 18 - 20:35
المحور:
الادب والفن
بعد الزلزال الرهيب الذي ضرب اليابان في 11 آذار _ مارس الماضي ، أصبحت الحالة في هذا البلد المشرق أقرب إلى صورة مأساوية بالأبيض والأسود . تقطّعت كل سبل الحياة بالإنسان . الإشعاع النووي خيّم على المزروعات والمراعي ، فلا استهلاك داخلي ولا تصدير خارجي . الأمواج ابتلعت البشر ، وانقطاع الكهرباء والماء والغاز الطويل جمّد كل جهد لدفع العجلة للأمام . شلل في الأيام الأولى لسائر المواصلات ، ولما بدؤوا بتسيير نصف طاقة القطارات والباصات بعد أيام قليلة من وقوع الزلزال ، قررتُ أن أذهب إلى عرين الديناصور ، حيث " مياغي " تئنّ من جراحها ، لأعيش أياماً في ظلال الزلزال . أردتُ أن ألتقط لها خيطاً من مليارات خيوط الشمس التي تقطّعتْ ، لأساهم في ربط الشعاع بأمّه لتعود كما كانتْ تتكلم بلغة الشمس المشرقة . ولتجنّب المرور بمحافظة " فوكوشيما " المنكوبة بالإشعاع النووي سيلتفّ الباص بنا حول المحافظات الغربية للوصول إلى محافظة " مياغي " وعلى الطريق العادي بسرعة 40 ك / سا . أمامي ما لا يقلّ عن اثنتيْ عشرة ساعة لأصل هدفي . انطلقنا من العاصمة " توكيو " في السادسة صباحاً . الطبيعة كما عرفتها : منفعلة أبداً بالخضار . مزاد علني مدهش ، كل مشهد يزايد على سابقه جمالاً ورونقاً . لكَ أيها السائح أن تتجه أقصى الشمال ولك اختيار أقصى الجنوب الياباني ، وسوف تهتف تلقائياً : هذه هي الجنة !! " سينداي " ما هي إلا أودة من الجنة ! تركتُ العنان لذكرياتي ترعى في الجبال الخضراء . وراء كل شجرة ذكرى . شريط الماضي يستنطقه مرأى الجبال في ( ناسو ) . هل تتذكرين هذا المكان ؟ سقى الله تلك الأيام .. إيه ~ أتذكّر .. { يوم اشتركتُ منذ ستة عشر عاماً في رحلة لزيارة مدرسة للمعاقين .. خرجتُ بعدها وقد سجّلتُ انتسابي للعمل التطوعيّ لوجه ضميري . كان مدهشاً لي أن أرى معاقاً قادراً على العمل الشريف وتأمين حياته . المعاق في المجتمع العربي مادة دسمة للسخرية وعالة على المجتمع تدعو إلى الخجل ومحاولة إخفائها . ها هم يثبتون بكل جدارة أحقيتهم بالحياة الكريمة جنباً إلى جنب مع الأصحاء . كان العمل معهم طريفاً وممتعاً ويعطيني سعادة داخلية .. وبسْ ! حتى كان ذلك اليوم الذي انتسب للمركز شاب معاق بلا رجلين أصيب في حادث موتوسيكل . كنتُ أنظر إليه بتقدير وهو يتنقّل بمهارة فائقة من الكرسي العالي إلى الطاولة ليتناول حاجة ما فأسارع لأقدّمها له ، فيرجوني بكل أدب أن أتركه يتصرّف لوحده حتى يشعر أن أعضاءه الباقية ذات قيمة ، ولا تنعدم لمجرد أن عضواً في جسمه مصاب . كنتُ أظن أن الإنسان يتعلم من الأصحاء فإذ بي أرى في محنة هؤلاء أكبر الحكم . استطاع " جون " أن يقهر محنته وينتصر عليها بالحلم المبتسم . وما كان له الرجاء والأمل لو لم يجد المحبين حوله . _ كنتُ من السرسرية .. شقياً ، أعشق الخروج على القانون ، سُجِنتُ مرتين ، قالها ضاحكاً ، ولم أتربّ إلا عندما لقنتني الحياة درسها الغالي الذي لا تقدمه للسادرين في المجون الخالي من الأعباء حتى .. يدفعوا الضريبة الباهظة ! وكان الحادث الرهيب الذي خرجتُ بعده معاقاً . تمنيتُ أول سنتين الموت ، وأصابني الاكتئاب ، لكن وقوف حبيبتي التي لم تتخلّ عني ، وتشجيع أهلي جعلني أرتقي على مصابي . تزوجتُ العام الماضي والآن عندي طفلة رائعة ، أنا فنان ، عرضتُ لوحاتي في معرضيْن . أنا بيكاسو .. إيه نعم ! بسْ .. على حالي هاهاهاها .. وينطلق ضاحكاً . كان جون ورفاقه بوابتي لأنطلق في عالم التطوع الذي وجدتُ فيه أن تحسين حياة الناس يزيد من استمتاعي بيومي ، فأصبحتُ أجد سعادتي مرتبطة ومشروطة بسعادة الآخرين وتحسين ظروفهم ، واعتبرتُ سعيي إلى بهجة هؤلاء المعاقين نوعاً من الجهاد الجميل إلى الحياة } . ما زلنا في طريقنا إلى " سينداي " . ياااه .. الطريق ما زال طويلاً . لكن مبادرة جارتي في دعوتي لمشاركتها في طعامها كسر الصمت والملل ، فوجدتها تدور على الركاب بالضيافة فيتبادل الجميع مما معهم . أقْدِمي يا ابنة العرب بمدّ يدك على الأطايب بدون دلال أو تردد ! وإلا .. راحتْ عليكِ ! لم أكن أحمل شيئاً للتقديم ، إلا أني رفعتُ الخجل وانطلقتُ بابتسامة شاكرة مشرقة أوزعها على الحضور ، وبيدٍ واثقة تعرف جيداً بطعم فمها ، لا تمتدّ عبثاً لتتناول أول ما تقع عليه العين .. لأ ! وإنما عين خبيرة تجيد الاختيار وتعرف من أين تؤكل الأطايب ! هذه فرصة لتذوّق _ بالجملة _ ما صنعته اليد اليابانية الماهرة ، لكني والحمد والشكر أني كنتُ حاملة لإبنة جيراننا الطفلة بنت ثلاث سنوات هدية ، عبارة عن علبة بونبون صغير ملوّن ، فطنّشتُ وأخذتُ أدور عليهم لأقدّم بونبوناية عالماشي . بعضهم .. امتدّتْ يده وبلعها فوراً ، وبعضهم امتنع بأدب ، رغم إلحاحي .. ! فأعدتُ الدور على منْ امتدتْ يده فجبر بخاطري ولم يكررها . خلال دقائق كانت الأحاديث تدور وأصبحنا كأسرة واحدة ، واحدنا يحكي للآخر همه مع الزلزال . حكتْ لي جارتي فقالت : بيتنا في مدينة إيشينوماكي ، كان مشهوراً بوسعه وجمال حديقته التي تحوي أروع أشجار ال ( بونْسايْ ) القزمة التي يتراوح طولها بين متر كحد أعلى وخمسة عشر سم كحدّ أدنى . هل تعرفين أن البونسايْ يعود تاريخه إلى القرن الثالث في الصين وإلى القرن الثاني عشر في اليابان ؟ وقد ورثنا تربيته أباً عن جد . البونسايْ يرمز إلى الخلود ، فطالما أن الأشجار مورقة ومزهرة على مدار السنة فهذا يعني أن مربّيها على اتصال دائم بالحياة . تتوقف جارتي قليلاً ثم تقول بحماس : لا يعرف الهرم الروحي منْ عاش مع البونسايْ . إنه انعكاس للتناغم بين فكرة الأعلى المقدّس والطبيعة بكل جلالها والإنسان المبدع ! تتابع جارتي بحزن : كان في حديقتي خمسة وسبعون حوضاً من مختلف أشجار الصنوبر والتفاح البري والسرو وغيرها وبمختلف الأشكال الفنية ، وبعضها يعود إلى قرن وأكثر من الزمن . هزّتْ رأسها بأسف قائلة : يا ليتني أهديْتُ المركز الثقافي حوضاً تميّز بروعة شجرته وغرابتها . طلبوه مني هدية .. لكني رفضتُ لعشقي الشديد لتلك الشجرة ، عمرها مئة وخمسون سنة ، كنتُ على الأقل أنقذتها من الإعدام . لا دواء للحماقة .. اجتاح التسونامي بيتي الجميل بما فيه بينما كنتُ في زيارة لبنتي في " توكيو " . ظننتُ أني أخفّف عنها وأنا أقول : يجب أن تسعدي لسلامة عائلتك . لكنها قالتْ بألم واستنكار : فقدتُ خمساً وسبعين روحاً ، هذه ليست عائلة بل قبيلة بحالها ! نزلنا نحن ركاب الباص في محطة للاستراحة . كان هناك شخص يخطب في الحاضرين دون اتفاق ، وهو ممسك بمكبر صوت يدوي . انقطاع الحبال الكهربائية لا يعني انقطاع الحبال الصوتية أيضاً . أخذنا نستمع له باهتمام . " كان يطلب من الجموع أن يهُبّوا للتطوع ، فمنْ كان غير قادر فإنه بسلوكه الشخصي داخل بيته قادر على فعل الكثير . تابع بتأثر : ثلاث صواعق في آن واحد ، زلزال وتسونامي ودمار المجمع النووي ، وكلها جاءت معاً في طقس بارد مثلج ليزيد من المصائب ويعيق أعمال الإغاثة . يجب أن نسعى للتخفيف من المصاب الأليم . فلْنهِبْ بعضاً من المال أو الغذاء أو الملبس ، هذا واجب علينا جميعاً تجاه أهل الوطن ، وأدعوكم للاقتصاد والتفكير في استعمال الطاقة الكهربائية والبترولية ، لنوفّرها لمصانعنا التي توقفتْ وستلحق الكساد باقتصادنا والبطالة بأولادنا ، ولنوفرها للاجئين القابعين في البرد والظلام ولسيارات النقل التي تمدهم بالمعونات . كذلك الماء .. لا ضير علينا أن نستغني مؤقتاً في حماماتنا عن استعمال البانيو اليومي واللجوء إلى طشت أرضي ، وعلموا أولادكم أن يكون الماء النازل من الحنفية بسماكة قلم رصاص . المأساة فوق توقعنا والخسائر رهيبة . الوطن يناديكم .. هبّوا إليه . نحن لن نسأل البلاد الأخرى المعونة إلا إذا تطوّعوا بها من أنفسهم ، ولن نذكّر أحداً بفضل اليابان وأبنائها عليهم يوم احتاجونا . نحن نستطيع بالاعتماد على أنفسنا أن نفعل الكثير دون أن نمدّ أيادينا للآخرين . الوطن الذي قدّمنا له في الماضي فبادلنا العطاء لا بدّ أن ينهض ثانية ، بادروا إلى التقدمة من أنفسكم حتى يكون مستعداً لرد جميلنا بالجميل . ارتقوا على أحزانكم فالحاضر موجود والمفقود لن يعود " . يا لروعة هذا الشعب ! قدَرهم أن يلدوا في زمن اللهب المقدس ، مطهّر النفوس من أدرانها ومعافي العقول من عللها ! فاتت اللحظة المناسبة للتصفيق ، لكني قررتُ أن ألقّن الحضور الصامت درساً في تقدير الكلام الموزون وذلك بانتهاز بارقة أخرى لاستحسان أبدؤه أنا فيشاركني الجميع ، ومنْ غيري قادر على اختطاف اللحظات الحماسية ؟ أليابانيون ؟ هه ! وهل تعلموا وتدربوا في مدارسهم ومظاهراتهم وبرلماناتهم وخطابات رؤسائهم أن يقرعوا الأكف المفتوحة اللاهبة بصوت جلل كما نفعل ؟ لكن .. للأسف ، قطع سائق الباص عليّ الطريق عندما نادانا للعودة لمتابعة السفر ، فحرمني استعادة لحظات من هواية ماضية طالما مارستها أيام المدرسة . العرب .. يديرون خطوبهم بالخطابات ، والشعر والشعارات ، والتصفيق الصفيق ! الياباني إذا تكلّم .. فلإسماع منْ به صمم ، والياباني إذا سكت .. فلِرفْع ما منه سقط ، وإن اعتراه الألم فاعلمْ أن أوان العمل قد حلّ للحلم الآجل والعاجل . كل دقيقة لها ثمنها ، إن فتح فمه أو أغلقه . لا مفرّ من الذكرى .. العبارة الأخيرة شدّتني إلى ماضٍ وجدتُ نفسي بلحظة أمسك بخيوط تربطني بأحداث مفعمة بالحيوية ما زلتُ أبتسم لها كلما تذكرتُ أبطالها . { يوم دعتني ( هادية ) إلى تناول الفطور .. لا لا .. ليس في بيتها .. بل في عملها .. في عرين مكتبها بالشركة ! معليش ؟؟ !! يييي ~~ ولا يهمّك .. إحنا نجتمع بهاليوم على جاط تسقية وبيوم آخر على جاط حمص وفول مدمس وتالت على مناقيش بزعتر وجبنة ... يللا ~~ حطّي بالخرج .. مين سائل ؟ كيف بتحبي التسقية ؟ بسمنة ولاّ بالزيت ؟؟ زيت ، وكتري لي الكمّونات والحمص ! وذهبتُ .. واستقبلوني بالأهْلا والسهلا .. وبدأنا ، كلنا شعب واحد هدف واحد ، في عملية كرّ وفرّ على الفطور ، تلاه لتعديل المزاج قهوة ملوكية ، بعد أن طرقتْ الشلّة بطناً ، ودقة عالخشب قلنا لكل الأرغفة مرحباً ، وما تركنا صحن مقبلات علينا عاتباً ، وقششنا حتى آخر لقمة في الجاط قشاً ، وقطعنا أمل ( أم خالد ) الخادمة بمطبخ الشركة أن تنتقي الباقي من صحوننا ليكون عشاءها ، بعد أن لحسنا الصحون لحساً وقضينا فوق الكل على القطايف والبقلاوة قضاءً مبرماً لا قيامة بعده ! هذه الوليمة اليومية مدعو لها الغريب قبل القريب . أما الغريب فإنه يصبح من أهل الخوش بوش بعد أن يقسم يمين الولاء لهذه السفرة الموحّدة الجامعة الرسولية لكل أطياف وملل ونحل الوطن ، إذ ليس هناك ما يؤلف قلوب العرب كبطونهم ! وهناك طرق ووسائل للدخول في هذه الزفة : إما بالدعوة المباشرة كما فعلوا معي ، أو غير المباشرة كأم خالد الخادمة . فهي تروح وتجي على قولة : محل ما يسري يمري إلهي . ولما ترى أن الأفواه الرشيقة مشغولة ببطونها والفرصة تكاد تفوتها تعلي صوتها صائحة : إلهي يخللي هالحلوات ويبعت لهن عرسان على هوا قلوبهن . وهنا .. تتعالى أصوات العصافير لدعوتها ، فتسحب ابنها خالد وينزلان معاً ومعنا في مدّ الأيادي للطعام وجزرها للأفواه لنسف الطاولة عن بكرة أبيها } . طيب .. وهل تذكرين ؟ ولا أظنكِ قد نسيتِ .. { يوم اتصلتِ بابنكِ في عمله بالشركة اليابانية قبل انتهاء وقت العمل بربع ساعة لتسأليه فقط : حتاكل برا ولاّ عاوز سمك تازة ؟ فعاتبك ابنكِ هذا أنه ليس وقت السؤال هذا ، والاتصال للشركة للسؤال خارج العمل ممنوع ، ولم يعطكِ الجواب ولم .. حتى أقلب شفتي استهجاناً من ( هذا ) البلد الذي لا يعرف أين ومتى يأكل التسقية والمناقيش } ! ليس غريباً بعد سفرة المؤلفة قلوبهم أن نسمع أن العربي لا يعمل إلا ستاً وعشرين دقيقة باليوم ! العرب فرع من شجرة الإنسان لكنهم كالعرجون : جذع يابس خالٍ من الماء والحياة ، يريدون اجتياح العالم بعقلية عنترة أبو الشوارب وأخيه علي بابا والحرامية . كلما اقتربنا من محافظة " مياغي " زاد الطريق هبوطاً والتواءاته حدة . فجأة أوقفتنا سيارة الشرطة وغرّموا سائق الباص لتجاوزه السرعة المحددة 50 كم / سا ، قالوا إنه كان يسير بسرعة 60 كم ! الإبليس .. كاد يودينا في الهاوية .. لعله ظنّ نفسه يقود طيارة ! وأخيراً .. وصلنا . ها أنذا أتوجّه إلى البيت مشياً على الأقدام في شوارع " سينداي " التي تركتها قبل يومين من حصول الزلزال وأعود إليها الآن بعد أيام منه . هي هي ، لم تتغيّر . هل حقاً مرّ الموت من هنا ؟ كان الليل قد بدأ يخيّم على المدينة ، والظلام ينبسط على كل أبنيتها ، فالكهرباء مقطوعة إلا من بعض الأعمدة المنيرة لزوايا الطرقات . لفت نظري وقوف الجامعيين المتطوعين من فتيات وشبان عند تقاطع الطرق منعاً للحوادث في ظلّ انقطاع إشارات المرور . أما موظفو الأماكن التجارية فقد انتقلت ساعات عملهم داخل المحلات المظلمة إلى خارجها وبيدهم فوانيس مضاءة بالشموع حماية للمشاة ، معتبرين هذا التطوع بدل أوقات عملهم الرسمي ، كما تناوب بعض الشبان في الوقوف حتى الصباح عند مداخل ومخارج جسور المشاة . وصلتُ إلى البيت مرهقة . كان ابني ينتظرني والفانوس بيده عند أول الدرج . تأمّلتُ وجهه الحبيب مبتسمة فشعرتُ رغم الظلمة بقسماته تضطرب ، ثم اقترب مني وعانقني وألقى برأسه باكياً على كتفي قائلاً بصوت مخنوق : " تاكيشي " مات يا أمي ! دفعته عني مصدومة بالخبر : تاكيشي .. تاكيشي ؟؟ هزّ رأسه بحزن شديد ، فأحطتُ ظهره بيدي وأسندتُ رأسي إلى كتفه فأسند رأسه على رأسي ودخلنا البيت . لم يأكل شيئاً ، ولم يكن أمامنا إلا النوم في هذه الظلمة الحالكة . وضعتُ رأسي على المخدة ورغبتي في النوم شديدة لكني سمعتُ نحيبه من الغرفة المجاورة على صديقه الذي تدرّج معه في الفصول المدرسية ثم تابع مع أبيه في صيد الأسماك على مركب ابتلعته الأمواج مع منْ فيه في يوم الموت الأكبر . مات صديق أبنائنا ، صديق طفولتهم وشبابهم . كان أول ما فعلته صباح اليوم التالي أن بدأتُ أتفقّد معارفي . نبدأ بالخبر الأهم ، قولوا يا كريم : عائلة جارتي في البناء بأفرادها الثمانية أنقذتها طائرة الهيليكوبتر وهم متعلّقون بأغصان شجرة ، بينما التسونامي تحتهم يطيح بالبيوت ، بالسيارات ، بالأبنية ، لكنه لم يطِحْ بتلك الشجرة . شكراً يا شجرة ، شكراً يا الأغصان العظيمة ، شكراً يا هيليكوبتر ! شكراً للعقول التي ركنتْ للعلم فاخترعتْ الهيليكوبتر وحافظتْ على الشجرة . كان عرساً وزّع الناس ( الناس وليس أصحاب الحادثة ) الطعام والشراب على اللاجئين في المدرسة القريبة احتفالاً بعودة أصحابهم سالمين . قلْ لي أيها التسونامي ، ما حيلتك والشجر لا يلد إلا الحياة ؟؟ أنت الهابط المنبطح على أنفاس الكون وهو المثمر الصاعد بها !! اتصلتُ بمركز رعاية المعاقين للسؤال عنهم .. لا أحد يرد . طيب .. صديقاتي ؟ بخير .. " يوكو " فقط لم يُعرف عنها وعن عائلتها شيء حتى الآن وأمرها مقلق . ذهبتُ إلى مركز التطوع لأقدم خدماتي . الجميع أصدقائي . منذ خمسة عشر عاماً ونحن نعمل في التطوع معاً . النسبة الكبرى من المتطوعين من الرجال الذين تجاوزوا سن التقاعد ومن السيدات . ثقافة عمل الخير راسخة باذخة في هذا المجتمع . الجانح للدعة والراحة إنسان مرذول . أتاح لي اختلاطي مع شعوب آسيا الشرقية والجنوبية أن أتلمّس بوضوح واحدة من أهم النواقص الخطيرة التي تحيط بالمجتمع العربي ، وهي : انعدام ثقافة التكافل والتراحم مع أننا نصدع الرؤوس يومياً بهاتين الكلمتَين بالذات ، إلا أنهما ظلّتا بلا روح ، تصلحان للزخرفة والدعاية التلفزيونية لا أكثر ! يكاد الاستثمار الإيجابي في الإنسان ينعدم في مجتمعنا للأسف . فرزوني لمدرسة قريبة من البيت . كان العمل في مجموعتي أن نضع علب طعام جاهزة في صناديق تنقلها سيارة إلى الملاجئ . ورغم بساطة العمل فهو متعب ، لكننا اعتبرناه بمثابة رياضة وعوناً لنا على الأجسام المربربة . كذلك توفيراً للمياه ، كنت أبلّ مناشف قطنية 25 × 25 سم في سطل ماء وأعصرها عصراً خفيفاً لاستعمالها في مسح الوجه واليدين . منذ لجوء السلطات المسؤولة لتبريد المفاعل النووي في فوكوشيما المجاورة والمياه شبه مقطوعة . تقشّف اليابانيين في استعمال موارد الطبيعة ليس بسبب المحنة ، وإنما ثقافة ، إجلال للطبيعة الوهّابة والحسّ بالامتنان والفضل . هبّ الجميع لإنقاذ البلد المكلوم ، فكنا نرى طلاب المدارس الإعدادية واقفين على ناصيات الطرق وبأياديهم صناديق التبرع ، فما تكاد رؤوسهم ترتفع حتى تنحني ثانية شكراً للمتبرعين . وقفتُ أراقب أكثر من مئة شخص يقفون بالدور لتمتدّ أيادي الخير ، حتى سألتُ نفسي : ألمْ تتعب ظهور وأعناق هؤلاء الطلاب من انحناءة الشكر الطويلة ؟ المجمعات الاستهلاكية التزمتْ بصدق شديد بإبراز مصدر المواد الغذائية بعد أن لحق الإشعاع النووي الزرع والضرع ، كما وضعت عند مداخلها الكمامات الواقية مجاناً ، وأنشأ بعضها حمامات متنقلة يستطيع الإنسان أن يأخذ دوشاً ساخناً لمدة محددة قدرها سبع دقائق مقابل سعر زهيد رُصِد لضحايا الزلزال ، وبعضها الآخر قدّم ما يعادل عشرة دولارات يومياً لكل لاجئ يحمل بطاقة خاصة مع كرت للاستحمام مجاناً في حمامات السوق . لم يغادر تفكيري أحبائي في مركز رعاية المعاقين . ماذا حصل معهم ؟ أخيراً تمكنتُ من الاتصال بزميلة أفادتني أن المركز انتقل إلى مكان آخر نظراً لخطورة البقاء فيه بعد الزلزال . توجّهتُ إلى العنوان الجديد . عند زاوية الشارع كدتُ أقع من الدراجة وأنا أراوغ القادمة من الاتجاه الآخر مسرعة . صرختْ تناديني بعد أن تجاوزتني ، فالتفتُ إليها : " هاناكو " ؟ سألتها بلهفة عن ابنة أخيها التي ولدتْ قبل الزلزال بأسبوع . فدمعتْ عيناها واضطرب صوتها وأجابتْ : أخي .. جرفه التسونامي مع زوجته . كيف ؟ ماذا حصل ؟ انتظرتها حتى مسحتْ دموعها فقالتْ : كان التسونامي قد بدأ يجتاح القرى ويبتلعها ، والناس يهربون إلى أعلى مكان مستطاع . ساعدتُ والديّ العجوزين وأنا أوصي أخي أن يحمل بناته أولاً إلينا ثم يساعد زوجته المريضة ، حمل أخي البنتيْن الكبرى والوسطى في الوقت الذي بدأنا نشاهد الأمواج تقترب وارتفاعها لا يقلّ عن عشرة أمتار ، فصرخنا نستعجله ، فاستطاع إنقاذ الوليدة وسلمنا إياها وما أن عاد ليحمل زوجته حتى داهمهم التسونامي ، رأينا أخي يقاومه بكل جهده بضع ثوانٍ ثم يغيب . أغمضتْ عينيها وتنهدت بألم قائلة : أنا مسؤولة عن البنات الآن ، ولعلمك التسونامي جرف مع ما جرف ، الحب الكبير والعشق ، فقد تركني خطيبي ، الحق معه ، ما زال شاباً وأحواله المادية محدودة ، وفي هذه الظروف لن أتمكن من العمل ومساعدته .. لا ألومه ، لكنْ .. اِعلمي أن الحب : كلام فارغ ، فااااارغ ! تركتني وأنا أسير واجمة أتأمل المصاب الكبير ، وجدتُ نفسي في طريق بعيد عن هدفي فعدتُ أدراجي ، لم يغادر أخو ( هاناكو ) تفكيري في آخر مشهد له عندما زرتهم قبل أسبوعين للمباركة بولادة الطفلة الثالثة . { عاد أخوها من الحقل وما أن رآني حتى خبط قدمه بالأرض ووقف وقفة عسكرية ويده فوق حاجبه وهتف : سلامو أليكم ، وفي حركة سينمائية ضرب كفّه اليمين فوق عضلة ذراعه الأيسر واقترب مني وهو يهز سبابته المرفوعة في الهواء بقوة قائلاً : أنا لا ألد لليابان إلا فخر اليابان !! ثم باسطاً ذراعيْه وأصابع يديه تشي بالتساؤل : لولا الأنثى .. من أين كنا أتينا نحن الرجال ؟ نظر إلى زوجته وتابع : كانت تريد صبياً ، لكني أقنعتها أن القاعدة يمكن أن تقف على قدمين لكنها ستكون أكثر ثباتاً لو أصبحت ثلاثة أقدام . نفضتْ زوجته كفها في الهواء قائلة : روح بقا اعملْ لنا قهوة واحمل الحلويات من الخزانة ، فأجاب ضاحكاً : أكلتها ، جمدتْ عيناها بتبرم وقالت : إذاً قدّم الفواكه ، فأجاب : قضيتُ عليها .. بَحْ ~~ . فغضبتْ وقالت : ماذا نقدم للضيوف ؟ قال ببرود : عندنا من الحقل فجل وخيار وخس ، صرخت زوجته : أهبل ! فأسرع وركع عند سريرها ورقّص حاجبيه ومسك يدها قائلاً بصوت حالم : نعم .. أنا أهبل ولم تحبه إلا أميرة } . كانت أمتع الأوقات عندي زيارة بيت هذين العاشقين . يا لحزني الكبير عليهما . وصلتُ إلى مركز رعاية المعاقين . ابتسمتُ وأنا أقرأ أنهم أنقذوا كلباً لرجل أعمى في الرمق الأخير . وقفتُ أمام لوحة تبرز أسماء ضحايا التسونامي . تتبعتُها ببصري فلم أعرف أحداً منهم ، وكدتُ أن أصرف نظري عن اللوحة في اللحظة التي خيّل لي أن اسماً بين الأسماء الأخيرة كأني أعرفه . تراجعتُ خطوة لأتأكّد . رفعتُ يدي أغطي شفتي المرتجفة وأنفاسي المضطربة في صدري ولم أعد أستطيع السيطرة على ارتعاش عضلات وجهي . وضعتُ سبابتي تحت الاسم ثانية وأنا آمل أن أكون على خطأ .. ومن بين غلالة الدمع قرأتُ اسمه مع اسميْن يلحقانه بنفس الكنية . أسندتُ رأسي للحائط أشهق ، لا ألحق مسح دموعي لتنهمر متلاحقة . شعرتُ بيد حانية على كتفي وصوت نسائي حزين يقول : منْ ؟ جون بيكاسو ؟ المسكين ذهب مع زوجته وابنته صباح يوم الزلزال إلى ( إيواتي ) لتناول الطعام مع أصدقائهم ، داهمهم التسونامي وهم في طريق عودتهم فجرف سيارتهم . مسحتْ السيدة " ساتو " مديرة المركز عينيها وقالت : ماذا تفعلين إذاً لو كنتِ مكاني وأنا أرى بأم عيني ثلاثة من أفراد عائلتي يغرقون ؟ أنتِ أيضاً ؟ أكاد لا أصدق .. كأنه كابوس . مسحتْ ساتو أنفها بظهر كفها وتنهّدتْ قائلة : ما أفدحها من خسارة مادية ومعنوية وثقافية ونفسية ... آآه .. تعلمين طبعاً ، عندنا معمل الخزف الياباني ، ما أن انطلقتْ صفارات الإنذار حتى بدأنا نهرب إلى رأس تلة قريبة مع جموع الناس الخائفة . لكن زوجي أراد أن ينقذ مجموعة من الصحون الخزفية النادرة التي تعود إلى أكثر من مئتي سنة وبعضها إلى مئات وكلها رسوم ونقوش يدوية ، فهرع إلى البيت ، إلا أن ابنتي وابنها ذا الخمسة عشر عاماً لحقاه لثنيِه عن عزمه ، لكنه أصرّ على إنقاذ ثروة أثرية لا تقدر بثمن ، فاضطرّتْ ابنتي أمام عناده لمساعدته في الوقت الذي أطاح التسونامي بالبيوت فصرختُ من الأعلى زاعقة بحفيدي أن يتسلّق عمود الكهرباء الأقرب إليه ، وفعلاً تمكن من ذلك ، والأمواج الهادرة تجرف حطام البيوت والسيارات ومراكب الصيد كأنها لعب أطفال . ظل عمود الكهرباء صامداً والشاب يصرخ بخوف شديد : أنقذوني ! اللحظة التي التقطته ورفعته طائرة الهيليكوبتر كان عمود الكهرباء يتخبّط في الموج ، أما حفيدي فقد أصيب بصدمة عصبية وهو الآن في المستشفى . بدل أن تبكي هي كنتُ أنا الباكية ! جاء آخرون ومرّوا أمامنا مسرعين بلا مبالاة . حدّقتْ في وجهي وألقتْ بحكمتها التي لقنتها إياها الحياة فقالتْ : البكاء قد يريح القلب ، لكن غلالته ستحرمكِ من تلمس أنوار المستقبل . القبض على الآتي يتمّ في الحاضر .. الآن .. الآن فقط ، فإن ذهب الحاضر أصبح ماضياً وفلتتْ لحظة المستقبل . نحن لا نحبّ أن نكون ذليلي عواطفنا . أترينَ هؤلاء ؟؟ كلهم فقدوا عزيزاً ، فإن كان الموت قد قلّم أغصاننا فإن نمو الشجرة يزداد ولا يفيض إنتاجها إلا مع عملية التقليم . انتهينا من حديث الموت . فلْنقبضْ على الحياة . نقطة على السطر . البحر لحْن سماويُ المقام ، لغته الأم في طبقتها الرفيعة إبداعية خصبة تتحدّى العدم ، لغته الثقافية في طبقتها الدنيا تراجيدية مَواتيّة تتحدى الحياة . عرفها الفينيقيّ عندما خاض سكون بحر الظلمات وجعله ينطق بلغة الابتكار المحليّة الحية لا بجمود لغة الآلهة . انطلق الإنسان منذ بدء الخليقة من أكواخه وأزقته ليلقّن البحر أولى دروس التحضّر والتعاطي مع المستقبل ، ولم يخلُ الأمر على مرّ التاريخ من إدراك الإنسان للقوة التدميرية التي يحملها تمرّد البحر بين فترة وأخرى ، فيتلقّاها في فرّه منه ثم يكرّ عليه منقضّاً على هيجانه . ورغم أن التسونامي ضرب جنوب وشرق آسيا في مرتين تاريخيتيْن : ديسمبر 2004 ثم مارس 2011 رغم هذه المأساة الرهيبة فقد جعل منها الإنسان لحظة ميلادية ، شارك الكون كله صدْحاً واحتفالاً بمقدرته على الالتحام بالمصاعب والاستمرار كما كان منذ فجر التاريخ وسيظلّ . يتبع
#ليندا_كبرييل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل أتضرّع لطبيعة غبيّة لتنصرني على إلهٍ جبار ؟؟
-
رسالة إلى الجحيم : كل فمتو ثانية والبشرية بخير
-
رسالة إلى الدكتور جابر عصفور المحترم
-
رسالة إلى السيد جمال مبارك المحترم
-
عند عتبة الباب
-
حول مقال : في نقد علمانية الدكتورة وفاء سلطان
-
رثاء - وافي - قبل الرحيل
-
رأي في مقال السيدة مكارم ابراهيم
-
من أندونيسيا عليكم سلام أحمد
-
الأستاذ سيمون خوري : كنْ قوياً , لا تهادنْ !
-
وداعاً قارئة الحوار المتمدن
-
في بيتنا قرد
المزيد.....
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
-
وفاة الممثل الأميركي هدسون جوزيف ميك عن عمر 16 عاما إثر حادث
...
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|