زهير الخويلدي
الحوار المتمدن-العدد: 3319 - 2011 / 3 / 28 - 03:33
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
« Un monde, décidément, s’achevait. Un autre était en train de naitre, dans lequel il serait plus malaisé de vivre . De vivre, en tout cas, une vie philosophique, c’est-à-dire politique »[1]
شهدت المعمورة في العقود الأخيرة تحولات جذرية طالت البنى التحتية المادية لعلاقات الانتاج والتبادل والاستهلاك وشملت أيضا القيم والأفكار والرموز التي ترتبط بسلوك الناس في الحياة اليومية وقد أثرت هذه التغيرات على استعمالات الجسد في الفضاء وضروب وعي العقل بالزمان وعسرت عملية تلقيه للمعرفة والتصرف في المعلومات. لكن ماهي هذه التحولات؟
- ما يميز هذا الزمن هو الوقوع تحت قيادة القلة المسيطرة في مجال المال والتكنولوجيا وسلطة القرار وما ترتب عن الاستخدام المطلق للعنف محو الذاكرة الجمعية وتحويلها الى ذاكرة قطيعية فاقدة لهويتها ولبعدها الآدمي وابطال ثقافة الاختلاف وضمان استمرار سلطة السائد وبؤس الواقع وحرمان غالبية المجتمع من رغد العيش ومباهج العولمة.
« Ainsi, dominés par la misère, par la violence ou par le malheur, la plus grande partie de la population mondiale semble vivre, sur le plan économique et social, dans un état de crise permanente. »[2]
- ان منبع الامكان التاريخي للفعل البشري في الأزمنة الحديثة هي الحداثة العلمية التقنية والحداثة السياسية لكونهما يمثلان بمحمولاتهم الاتيقية وطاقتهما الانعتاقية نمط الوجود في العالم. واذا كانت الحداثة التقنية والعلمية قد ترجمت في الثورة الرقمية وتدشين العصر ما بعد الصناعي وقيام الفضاء الافتراضي وتكنولوجيا النانو، فإن العودة الى الحداثة السياسية مرده استقرار العلاقات القهرية بين المجتمع والدولة وانفجار المخزونات الدوغمائية وتصاعد النزاعات بين القوى الضاغطة وانفلات الجوانب اللاإرادية من الذات والمجموعة.
- حصلت داخل عالم المعرفة ودنيا العلم مراجعات عميقة ومساجلات نقدية لسلطة العقل وقيم التنوير وأسطورة التقدم وحدثت تحولات في العلاقة بين الفلسفة والحداثة أفضت الى بروز النزعات ما بعد الحداثوية مثل النزعة الحسية ومدرسة الارتياب والكشف عن الروابط الضمنية بين الأنثربولوجيا والاستعمار وبين التنوير الاستبداد وبين خطاب الاستشراق والتمركز على الذات وبين الوجود في العالم وارادة السيطرة على العالم.
« Critique de la métaphysique, la description du nihilisme , cette maladie de notre époque, perte du sens et régression vers le nihil ou le rien, cette révélation de l’absurde, tout cela annonce notre temps, son épuisement, sa volonté de néant. »[3]
- ان ما يشهده العالم من منعطفات تطال الفكر والمجتمع والاقتصاد تؤكد أن ثقافة جديدة يجرى انتاجها أين تلعب الصورة دورا مركزيا وتبين أن هناك نمط جديد من التنظيم الاجتماعي بدأ يظهر ويساهم مفهوم المشهد في تأثيثه ويحركه مفهوم الفرجة بطريقة كاريكاتورية ويقحم الفضاء الخاص ضمن الفضاء العمومي. من البين اذن "ان عصر الشاشة حين يبدو مسيطرا أينما كنا ستكون فضيلته الفساد ومنطقه الامتثالية وأفقه عدمية مكتملة"[4]، والدليل هو أن سيطرة الصورة يفضي الى ربط القيمة بالظهور والصلاحية بالمرئي وبالتالي يكون المخفي وغير المرئي فاقدا للقيمة ويتم تقديس التشابه والصراع من أجل البقاء على حساب الاختلاف والذوق الرفيع والخير المشترك. هكذا "ينشأ المشهد من ضياع وحدة العالم ويعبر التوسع الهائل للمشهد المعاصر عن كلية هذا الضياع...وفي المشهد يقدم جزء من العالم نفسه للعالم وهو متفوق عليه"[5]. لكن على ماذا يدل مفهوم الفضاء العمومي؟
يمثل الفضاء العمومي[6] في المجتمع البشري مجموعة الفضاءات التي تسمح بتمرير تجميع كل ما يتم استعماله من قبل الناس ضمن عملية التواصل والتبادل ويتميز بكونه ليس على ذمة أي واحد بمفرده وانما هو ملك للجميع على خلاف الفضاء الخاص. أما المعنى الاصطلاحي فهو وضع قانوني يعمل على ضمان جملة من الحقوق والحريات للمواطنين في حياتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
فيلسوف الأنوار كانط هو أول من استعمل هذا المفهوم ولكن حنا أرندت في وضع الانسان المعاصر هي أول من فرقت بينه وبين الفضاء الخاص[7]، لكن يورغن هابرماس هو أول من استخدمه في العلوم الاجتماعية حينما أنجز أركيولوجيا للإشهار كبعد تكويني للمجتمع البرجوازي ولكن على خلاف ذلك الفضاء العمومي لا يتكون فقط من البرجوازية والنخب المثقفة وانما يشمل مختلف الشرائح والقاعدة الشعبية العريضة ويحتضن حرية التعبير والضمير والسيادة الشعبية ومجال التواصل بين الفاعلين.
ان حال المرء في مجتمع المشهد تغلب عليه مشاعر التمزق والانفصال والعزلة ويسقط في الضياع والاغتراب والذوبان وتهيمن عليه الأنانية والانتفاعية وذلك لكون الانسان صار حشودا تدرك نفسها في الصور المهيمنة لرغباتها. عندئذ "من السيارة الى التلفزيون، كل البضائع التي يتم اختيارها من قبل النظام المشهدي هي ايضا أسلحته لتعزيز مستمر لظروف عزل الحشود المعزولة."[8]
هنا يأتي مفهوم المشهد ليرمم ما تركته الفلسفة من نقائص وما أحدثته من تخريبات في العلاقة بين الانسان ونفسه والعالم والأخر ولكن عوض أن يساهم مجتمع الفرجة في تجديد تجربة التفلسف ويشجع على النقد والتمسك بالحرية نراه ينتصر الى الواقع في ابتذاليته وينحط بالحياة الى أسفل مستويات الاستعراض رداءة ويعمل على تحويل أحداث التاريخ وأشياء الواقع الى حكايات فارغة وعبارات جوفاء تنمط العقل وتخدر الوعي وتنوم الحشود داخل نسق مغلق من الأفعال المكرورة.
على هذا النحو صارت الصورة الشمس التي لا تغيب عن امبراطورية السلبية المعاصرة وقام الركح الرسمي للمشهد باستبعاد البشر الأحياء والمناداة على الموتى بالقدوم وانطلق حفارو قبور الفلسفة في عملية الهدم والتخريب ضمن الموضوعية المزيفة للمنتجين وطال التفكيك البنى الآمنة للتعليم الجامعي.
"غني عن البيان أن هذا الوضع مدمر، خصوصا في نطاق العلوم، وذلك لأن الطلاب ما لم تستهوهم مقررات العلوم الدراسية بفضل التدريس الجيد فإنهم لن يقبلوا عليها طوعا... ولهذا ظهر أخيرا بحكم الواقع حلف غير مقدس بين أساتذة العلوم والانسانيات والطلاب وخلق هذا الثالوث منظومة يمكن فيها للطالب أن يتخرج في الجامعة وهو لا يزال غير مدرك لأهم الحقائق الأساسية عن العالم الفيزيقي الذي نعيش فيه وعن التكنولوجيا التي تصوغ حياتنا"[9].
ان المتمعن في التحولات المعاصرة على المستوى الكوني يلاحظ أنه رغم وجود تضارب في التوجه وتشتت في المصالح فإنه لا ينفي أن تكون الرقمية أو التكنلجة هي الحقيقة الدامغة الأشد تأثيرا في المستقبل وأنه ثمة عالم جديد يجري صنعه ويلعب العلم والتقنية التأثير الأخطر والدور الأبرز.
لكن ماهي الاستتباعات الفلسفية التي انجرت عن هذه التحولات؟ وهل ساهمت التغيرات في الدفع بالدرس الفلسفي الى الأمام أم أنها سببت له التراجع المعرفي والارباك المنهجي وقللت من نسبة الخصوبة التنويرية لديه؟
كاتب فلسفي
--------------------------------------------------------------------------------
[1] Christian Delacampagne, la philosophie politique aujourd’hui, édition du seuil, Paris, 1999, p.p.12-13
[2] Robert Misrahi, qu’est-ce que l’éthique? , l’éthique et le bonheur, éditions Armand colin, Paris, 1997,p.5.
[3] Jacqueline Russ, la marche des idées contemporaines, editions Armand Colin,Paris, 1994.p.11.
[4] غي دي بور، مجتمع المشهد، ترجمة كم الماز، الفصل الأول، الفقرة 29، الرابط:
www.marxists.org/reference/archive/debord/index.htm
ريجيس دوبرييه، حياة الصورة وموتها، ص.91. [5]
[6] Espace public
[7] Espace privé
[8] غي دي بور، مجتمع المشهد، ترجمة كم الماز، الفصل الأول، الفقرة 29،
[9] جيمس ترفيل، لماذا العلم؟، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، عدد 372، فيفري 2010، الكويت، ص.209.
#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟