كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 3308 - 2011 / 3 / 17 - 11:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
النظم السياسية التي حكمت العراق منذ تأسيس الدولة العراقية إلى يومنا هذا أجهدت الشعب وأرهقته ونغَّصت عليه عيشه وأتت بطرق شتى وأساليب مختلفة على الكثير من بناته وأبنائه لأنها لم تكن ديمقراطية ولم تحترم يوماً حرية الإنسان وكرامته. كما إنها لم تسهم في بناء حياة سياسية حرة وديمقراطية ومجتمع مدني متقدم وصناعة حديثة وأرضية صالحة لبناء المجتمع المدني المنشود وعدالة اجتماعية. إذ بعد مرور 90 عاماً بالتمام والكمال من ولادة الدولة العراقية الحديثة ما تزال العشائرية وتقاليدها وقيمها هي السائدة عملياً في حياة المدينة والريف, وما زالت المؤسسة الدينية صاحبة الجولات في حياة الإنسان والمجتمع في البلاد. ولم تكن تلك النظم تعمل بمعزل عن تأثيرات السياسات الاستعمارية والدول المجاورة, سواء أكان ذلك في نهجها السياسي وفي بلورة سياساتها الداخلية والخارجية, أم في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية, بحيث بقي اقتصاد العراق وبعد مرور 90 عاماً اقتصاداً ريعياً متخلفاً ومجتمعاً استهلاكياً مستورداً لنسبة عالية جداً من حاجاته الاستهلاكية ومفرطاً بموارده المالية المتأتية من تصدير ثروته النفطية الناضبة التي كان يفترض أن توجه لأغراض التثمير الإنتاجي وتطوير عملية التنمية الاقتصادية والبشرية. وبعد مرور هذه الفترة ما زال العراق يواجه حالة مريعة من الفقر الذي يلف نسبة تتراوح بين 60-70% من سكان العراق. فنسبة تتراوح بين 30-35 % تعيش تحت خط الفقر المحدد دولياً للدول النامية, وحوالي نسبة مماثلة تعيش على خط الفقر أو فوق خط الفقر بقليل. والشيء الجديد خلال الأعوام الأخيرة بروز عدد كبير من أصحاب الملايين والمليارات من الدولارات الأمريكية الذين لهم وزنهم في الدولة العراقية ويجلسون في الصفوف الأمامية, تناغماً مع القصيدة والأغنية التي تقول: "وصار في الصف الأمامي ...احترامي للحرامي", (قصيدة الأمير الشاعر عبد الرحمن بن مساعد وغناء آمال ماهر).
وإذا كان النظام الملكي قد بدأ بمحاولات لبناء المجتمع المدني, إلا إنه وبسبب الهيمنة الخارجية وربطه بين الدين والدولة في الدستور, ولكن ليس في الكثير من مواد ذلك الدستور الأكثر ديمقراطية ولا في الممارسة العملية, إلا إنه ابتدأ بفرض حكم سياسي طائفي دون أن يشارك أتباع المذهب السني من بنات وأبناء الشعب بتلك الممارسة الطائفية والشوفينية المقيتتين للحكومات العراقية المتعاقبة وأجهزة الدولة الأساسية. وتتوفر لدي مئات الأمثلة على ممارسات التمييز الطائفي والقومي الشوفيني دون أن يكون للشعب بكل أديانه ومذاهبه يد في كل ذلك, في حين شاركت فيه الكثير من المؤسسات الدينية وبعض الأحزاب السياسية.
وبرزت فترة قصيرة في حياة الشعب العراقي في أعقاب ثورة تموز 1958 كانت بعيدة عن التمييز الديني والطائفي والقومي الشوفيني أو ضيق الأفق القومي, ولكن سرعان ما تبدل الحال والشعب ما زال في ظل الجمهورية الأولى ذاتها, ثم سرعان ما التهم القوميون والبعثيون الشوفينيون هذه الجمهورية الفتية ليفرضوا على الشعب نظاماً سياسياً فاشياً وطائفياً وشوفينياً سادياً خلال الفترة 1963-1968, ثم جاء البعثيون الشوفينيون مرة أخرى ومارسوا السياسات الفاشية في العراق ثانية وأبشع من ذي قبل وخاضوا الحروب وأذاقوا الشعب العراقي مر العذاب على مدى ثلاثة عقود ونصف العقد.
وحين سقط النظام الدكتاتوري الأسود تحت ضربات الحرب الخارجية, توقع الناس أنهم سيتنفسون الصعداء وسيتغير الحال وسيبدأ العمل لبناء العراق الجديد في ظل الحريات العامة وبناء النظام الديمقراطي الجديد تدريجا.ً وكذلك البدء ببناء الاقتصاد الوطني والتصنيع وتحديث الزراعة وتشغيل العاطلين ومكافحة الفساد المالي والإداري وتحسين الخدمات ...الخ. رغم أن الكثير من القوى التي تسلمت الحكم لم تكن تتسم بالديمقراطية, بل كانت قائمة بالأساس على أسس دينية وطائفية وبعضها يتحرك بين اللبرالية والقومية. ولم يتوقع الناس أن يحصل ذلك بسرعة ودفعة واحدة بعد هيمنة شرسة لأكثر من خمسة عقود من السياسات السيئة, بل كان المؤمل أن تكون البداية على الأقل موفقة.
لا شك في أن التشابك بين سياسات ممثل الإدارة الأمريكية والحاكم بأمره بريمر وقوى الإرهاب وقوى الإسلام السياسية وضعف الوعي العام كانت من العوامل الأساسية التي لعبت دورها في دفع الأمور باتجاه إقامة نظام سياسي يعتمد مبدأ المحاصصة الطائفية السياسية المتصارعة ويتنكر لمبدأ المواطنة العراقية المتساوية والحرة في الواقع العملي اليومي. وهو ما نعيشه اليوم في العراق. وعلى من يريد أن يتبين ذلك أن يزور وزارات يقف على رأسها وزير من الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية أو السنية أو من الكُرد وسيرى العجب العجاب.
لقد لعبت المرجعيات (المؤسسات) الدينية الشيعية والسنية وقوى الإسلام السياسية دورها البارز في سرعة طرح دستور مؤقت والاستفتاء عليه بحيث جاء بلباس طائفي, كما كانوا يريدونه, ومن ثم الدستور الدائم الذي تحسن قليلاً ولكنه حافظ على ديباجة طائفية على نحو خاص ومواد لا بد من تغييرها, ولم يتخلص من المفاهيم الطائفية السياسية ومن ربط الدولة بالدين الإسلامي في حين أن الدولة شخصية اعتبارية لا دين لمثل هذه الشخصية.
إن العراق, بتعدده القومي والديني والمذهبي وبتنوع اتجاهاته الفكرية والسياسية, يتطلب دون أدنى شك إقامة دولة ديمقراطية مستقلة ومجتمع مدني ديمقراطي حر, دولة تعتمد دستوراً ديمقراطياً وتمارس الفصل بين الدين والدولة, وبين السلطات الثلاث واستقلال القضاء وحرية الإعلام والأحزاب...الخ, دستوراً ونظاماً يعتمدان الهوية العراقية, هوية المواطنة وليس الهويات الفرعية الطائفية السياسية التي تمزق المجتمع وتصادر الهدوء والاستقرار والمساواة بين المواطنين من النساء والرجال, كما هو عليه عراق اليوم.
علينا أن نميز بين المذهب وبين الطائفة بمضمونها السياسي التي تقوم على أساس التمييز بين المذاهب. وبقدر ما يعبر تنوع المذاهب عن حراك فكري نافع في المجتمع, فأن الطائفية السياسية تعبر عن ضيق الأفق والتمييز والصراع وتدمير النسيج الوطني للمجتمع, وهو ما يتوجب رفضه. وعلينا أن نتابع بدون تحيز وبكل حيادية طبيعة جميع الأحزاب الإسلامية السياسية في العراق وفي غير العراق من الدول النامية, التي لم تعرف حتى الآن النهضة والتنوير, سنجد أنها بنيت على أسس طائفية سياسية تنطلق من هذا المذهب أو ذاك, وهي تمارس سياسات طائفية في المحصلة النهائية, رغم قول قادتها بأنهم يعملون لمصلحة المجتمع, ولكن في حقيقة الأمر يعملون لمصلحتهم الخاصة, ضد الطوائف الأخرى. فهي أحزاب طائفية سياسية بكل جدارة!
نوري المالكي رئيس حزب الدعوة الإسلامية حالياً, (وعلينا هنا أن نتذكر أن جميع الكتل والأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية الراهنة انحدرت من ضلع هذا الحزب), لا يؤمن بالديمقراطية كفلسفة, ولكن يؤمن بها كأداة للوصول إلى السلطة ثم يلفظها حال استقراره في السلطة. وهذا هو بالضبط ما عبر عنه علي الأديب نائب رئيس الحزب حالياً. وإذا كانت لدينا ذاكرة نشطة ستستعيد بالضرورة ما قاله نوري المالكي في أحد اجتماعاته ببعض العشائر الشيعية المؤيدة له, حين أكد بقوله "أخذناها, بعد ما ننطيها!! من يعتنق الديمقراطية لا يمكن أن يقول مثل هذا الكلام قطعاً, وحين كنا نقول ذلك, لم نكن قد اعتنقنا الديمقراطية بمفهومها الصحيح حقاً ولا مبدأ التداول السلمي والديمقراطي والبرلماني للسلطة, بل كنا نريد الإمساك بها وتكون بالنسبة لنا نهاية التاريخ. وبعد أن تخلى غالبية اليسار عن ذلك, استمر فيه الإسلامي السياسي .., ومنه حزب الدعوة وغيره.
إن المالكي لا يريد بناء دولة ديمقراطية ولا مجتمع مدني ديمقراطي في العراق, وإلا لكان قد اتخذ إجراءات غير التي اتخذها في الأشهر والأسابيع الأخيرة. نوري المالكي مؤمن بإقامة دولة إسلامية تسير على أساس المذهب الشيعي على وفق ما يفهمه هو وجماعته, وكذا مقتدى الصدر, فهما بالأساس من أصل واحد.
الطائفية السياسية السائدة في الحكم في لبنان مزقت المجتمع ولا تزال تزيده تمزيقاً, ولهذا انطلقت في لبنان حركة شبابية وشعبية جديدة تطمح للخلاص من الطائفية السياسية وليس للتخلص من وجود أديان ومذاهب متعددة, إذ إن وجودها أمر طبيعي, ولكن استخدامها في الحكم هو الأمر غير الطبيعي.
تشكلت حتى الآن أربع حكومات عراقية, الأولى برئاسة أياد علاوي حيث تيقن الناس بأنه لم يتخلص من قاعدة فكره الأساسية وبالتالي استطاع نوعان من الجماعات التغلغل في أجهزة الدولة العراقية: جمهرة من البعثيين القدامى السيئين في أجهزة الجيش والشرطة وفي الإدارة, بل حتى وجد شخص بعثي من أزلام عزت الدوري في مكتبه الخاص, وجماعة كبيرة من المفسدين والفاسدين, ومنهم وزير الدفاع الأسبق على سبيل المثال لا الحصر. كما إن أياد علاوي يتسم بالفردية الشديدة التي يستحيل على السياسيين الديمقراطيين العمل معه لفترة طويلة, إذ حين يكون في الحكم يكون مستبداً بأمره.
أما إبراهيم الجعفري فكان الرجل مثالاً للإسلامي الطائفي الصريح, فلم يكتف بتغيير اسم عائلته من الاشيقر إلى الجعفري حتى قبل سقوط النظام, بل مارس سياسات معوجة في الحكم حين سمح للتيار الصدري وفيلق بدر في التغلغل إلى جميع أجهزة الشرطة والأمن ومواقع أخرى في الدولة واحتلوا مواقع مؤثرة في الدولة وما زالوا فيها. ولم يكن غريباً أن قال عنه مقتدى الصدر في لقائه مع الجزيرة ما يلي:
"مقتدى الصدر: الدكتور إبراهيم الجعفري، قلت له إن التيار الصدري مجرد أن تحتويه ولو بالقليل تضمنه يكون تحت لوائك وفعلا ضمنه. (راجع الملحق في نهاية الحلقة الأولى).
من الخطأ الفادح خلط المفاهيم الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فاللائحة تعترف للإنسان أن يتبنى أو يعتنق أي دين أو مذهب أو فكر, فليس في ذلك أي ضير بل هو حق مشروع ومطلق, ومن هنا تم تأسيس "هيئة الدفاع عن أتباع الديانات والمذاهب الدينية, أي الدفاع عن حقهم في اختيار الدين أو المذهب والعبادة ورفض التمييز ضدهم أو اضطهادهم بأي شكل كان. وأنا أعمل عضواً في هذه الأمانة العامة لهذه الهيئة وأمينها العام. وهذا الحق في الاعتناق شيء واستخدام الدين أو المذهب في العمل السياسي وفي التمييز بين الأديان شيء آخر ومرفوض في الدول المتقدمة وينبغي أن يكون في كل دول العالم. لهذا فأن شرعة حقوق الإنسان بكل مكوناتها تقر مبدأ الفصل بين الدين والدولة, وتدعو إلى مبدأ المواطنة وليس مبدأ الهوية الدينية والطائفية, وتدعو إلى حيادية الدولة إزاء الأديان, فـ "الدين لله والوطن للجميع" ..
العراق بحاجة إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة يتمتع أتباع جميع الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية الديمقراطية, أي غير الفاشية وغير العنصرية وغير الطائفية السياسية, وأتباع جميع القوميات بالحرية التامة والكاملة, وليس بحاجة إلى دولة وحكومة تعتمدان مبدأ التوزيع الطائفي السياسي الذي نعيش تحت وطأته في الوقت الحاضر. إن الأعوام الثمانية المنصرمة برهنت على خطأ وخطورة الاستناد إلى نظام وسياسة المحاصصة الطائفية في حكم العراق. وعلينا جميعاً أن نعمل على تغييره وفق الطرق السلمية والديمقراطية بما في ذلك حق التظاهر والمطالبة بالتغيير الديمقراطي.
17/3/2011 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟