|
تميز العقلانية الماركسية
هشام غصيب
الحوار المتمدن-العدد: 3305 - 2011 / 3 / 14 - 08:40
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الإنسان كائن مغترب يعمل ويكدح ضد نفسه؛ يخلق عالماً غريبا عنه يقيد حريته ويطبق عليه حتى يسحقه سحقاً؛ كائن تعبث به الأقدار وقوانين خارجية غريبة عنه وبعيدة عن رغباته وطموحاته وحاجاته؛ كائن لا يجد راحته وسعادته إلا بالحرية لكن يعيش في عالم تحكمه الضرورة لا يترك حيزاً مهما صغر للحرية؛ كائن يمثل الحرية بالقوة لكن يعيش في عالم لا يتيح تحولها إلى حرية بالفعل، فتبقى الحرية كامنة في قلبه حتى ينخرها العفن وتنقلب استبداداً داخليا خانقا. هذا هو الإنسان في جلّ التصورات الدينية والفلسفية. بل يمكن القول إن اغتراب الإنسان هو محور الدين والفلسفة؛ ابتداء بأساطير سومر، ومروراً بكهف أفلاطون وفيض أفلوطين والخطيئة الأولى في التراث المسيحي، وانتهاء بلامعقول كامي وغثيان سارتر. لكن الدين والفلسفة لا يكتفيان بإبراز الوضع المغترب للإنسان، وإنما يحاولان تقديم حلول لهذا الوضع ومخارج منه. على أن هذه المخارج إما أن تقصر على النخب والأفراد (أفلاطون، البوذية، الوجودية)، وإما أن تتخطى الحياة العيانية الأرضية للإنسان صوب الغيب والحياة الأخرى ما بعد الموت (الأديان العربية). إذ نرى أفلاطون يجد الخلاص للنخبة في الرياضيات والمعرفة التجريدية. أما غوتاما البوذا، فيجد الخلاص من المرض والشيخوخة والموت ودولاب الأقدار الساحق في التأمل النوراني الذي قد يدخل الإنسان مملكة العدم (النيرفانا). ويرى الوجوديون الخلاص (للنخبة بالطبع) في تأكيد الذاتية الجوانية الفردية في مجابهة العالم الموضوعي المغترب. أما الأديان العربية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، فتجد المخرج في الموت، الذي ترى فيه معبراً إلى عالمين ممكنين: عالم كامل الاغتراب (الجحيم) وعالم الفردوس (هل هو عالم كامل اللااغتراب، أي غير مغترب تماماً؟ هذه مسألة فيها نظر). بذلك، فإن الدين والفلسفة، بصورة عامة، ينظران إلى الاغتراب بوصفه الحالة الطبيعية للإنسان، وعلى أنه مكتوب في جوهر الوضع الإنساني، ومن ثم أنه لا خلاص للإنسان من هذا الوضع الحتمي إلا بالخروج والهروب من الحياة العيانية الفعلية (صوب عالم المثل الأفلاطوني، أو حالة العدم البوذية، أو عبر الموت صوب الحياة الأخرى في الأديان العربية). بذلك فإن الدين والفلسفة يحملان في باطنهما إدانة واضحة للحياة. وهذا ما أدركه جيداً الفيلسوف الألماني المعروف، فريدريش نيتشه. فمع أن نيتشه ميز بين الأديان والفلسفات من حيث درجة إدانتها للحياة، إلا أنه في النهاية أدرك ميلها جميعاً إلى ذلك. فالمخارج التي تنادي بها هروبية في جوهرها. فهي تعتبر الوضع المغترب للإنسان قدراً لا مفرّ منه، عليه القبول به والانصياع له والاستعداد للهروب منه إلى حالات خارجه (العدم، عالم المثل، الحياة الأخرى) عبر التأمل والطقوس الدينية والموت. فقط الماركسية، مادية ماركس، من بين الأديان والفلسفات جميعا، تعتبر الاغتراب حالة تاريخية يمكن تخطيها والتغلب عليها بالممارسة البشرية التاريخية. فقط الماركسية تسعى إلى تحديد الشروط العيانية للاغتراب ونشوئه وزواله. إن الاغتراب هو حالة تاريخية تنشأ وتتطور ويمكن أن تزول بالفعل الاجتماعي التاريخي الثوري. فالإنسان، وفق الماركسية، فاعلية تاريخية طبيعية خلاقة، في جوهره، وليس مجرد حقل تجارب للقوى الغيبية. إنه كائن قادر بعمله العقلاني الهادف على تغيير واقعه وذاته بما يحقق أهدافه وطبيعته الداخلية. إذ فيما تؤكد جميع الأديان والفلسفات عجز الإنسان وعبوديته، فإن الماركسية تؤكد قدرة الإنسان وحريته. إنها، بذلك، فلسفة الإنسان بامتياز. إن الماركسية تؤكد العقل بوصفه فعلا ماديا وممارسة اجتماعية قادرة على تغيير الواقع المادي، ومن ثم فهي تؤكده بوصفه انعكاساً موضوعيا لهذا الواقع وإمكاناته. لكن العقل ليس مجرد انعكاس للواقع الآني، للحظة العابرة، وإنما هو انعكاس للواقع المادي كما يتجلى في التاريخ، أي للواقع التاريخي. وبهذا المعنى، فإن العقل هو نتاج التاريخ. والأدق القول إنه نتاج العمل الاجتماعي (الممارسة الإنتاجية) ومحركه في آن، ومن ثم فهو نتاج التاريخ ومحركه. وبهذا المعنى، فإن الماركسية هي عقلانية مادية تاريخية. فهي تؤكد العقل بوصفه قوة مادية تاريخية قادرة على تغيير الإنسان وعالمه. من ثم، فهي قمة عقلانية التنوير التي بناها مفكرو البرجوازية الثورية الأوروبية. إن الماركسية إذاً تؤكد قدرة الإنسان وحريته عبر المجتمع والتاريخ. لذلك، فهي ترفض اعتبار الاغتراب حالة دائمة للإنسان، وإنما تعتبره من صنعه التاريخي، ومن ثم حالة تاريخية يمكن تخطيها بالفعل الثوري لمن صنعها في المقام الأول. وقد أدرك ماركس تاريخية الاغتراب منذ البداية، أي منذ بدء انخراطه في الحركة الفكرية الثورية في بلاده، ألمانيا. وعلى سبيل المثال، حين يتكلم ماركس عن الاغتراب في عمله المبكر الرئيسي، أعني “مخطوطات باريس لعام 1844″، فإنه لا يتكلم عن اغتراب روحي تجريدي عام، وإنما يتكلم عن اغتراب ممارسة مادية اجتماعية تاريخية معينة، أعني العمل الاجتماعي. فاغتراب هذا الكيان المادي الاجتماعي هو مصدر كل اغتراب إنساني. كذلك، فإنه يربط هذا الاغتراب المحدد بشروط وظروف مادية اجتماعية تاريخية معينة، فلا يعتبره سمة جوهرية من سمات العمل الاجتماعي في حد ذاته. فالاغتراب المذكور لا ينبع من جوهر العمل الاجتماعي، كما اعتقد هربرت ماركوزه في مقالته عن العمل الاجتماعي (1932) والمشار إليها في مقالة سابقة، وإنما ينبع من الشروط والظروف الاجتماعية التاريخية. وحين يتحدث ماركس عن اغتراب العمل الاجتماعي في “مخطوطات باريس لعام 1844″، فإنه لا يتحدث عنه بالمطلق وبمعزل عن التاريخ، وإنما يتحدث عنه في نمط معين من المجتمعات في حقبة تاريخية معينة، هو نمط الإنتاج الرأسمالي في المراكز الأوروبية التي نشأ فيها هذا النمط. لقد بين ماركس في “مخطوطات باريس لعام 1844″ أن هناك أربعة أبعاد رئيسية لاغتراب العمل الاجتماعي في المجتمعات الرأسمالية. أما البعد الأول فيخص اغتراب المنتج (بكسر التاء) عن المنتج (بفتح التاء). وهذا يعني أن المنتج (بفتح التاء)، بدلاً من أن يكون تجسيداً للذات وتحقيقاً لأهدافها وغاياتها، يتحول إلى شيء غريب عنها، بل وإلى قوة خارجية استعبادية تسحق الذات المنتجة سحقاً وتكبلها وتفقرها وتشوهها. لكن ذلك لا يحدث بحكم الطبيعة الجوهرية للعمل الاجتماعي أو بحكم قوانين الطبيعة وآلياتها، وإنما بفضل الطبيعة التاريخية للرأسمالية والبناء الطبقي للمجتمعات الرأسمالية. فهذا البعد للاغتراب يعكس واقعة تاريخية اجتماعية، هي الفصل المطلق في الرأسمالية ما بين العمل الحي والعمل المخثر الموروث، أي ما بين العامل وأدوات الإنتاج وشروطه. ومن ثم، فهو انعكاس لعلائق الملكية أو الإنتاج، أي العلائق القائمة بين مالكي وسائل الإنتاج وشروطه وبين المنتجين (العمال). ذلك أن طبقة مالكي أدوات الإنتاج (البرجوازية) هي التي تتملك ما ينتجه العمال عبر احتكارها وسائل الإنتاج وشروطه، وتحوله إلى رأسمال، أي إلى عمل اجتماعي مغترب يجابه العامل بوصفه قوة غريبة عنه تسحقه وتكبله وتفقره. فاغتراب العمل الاجتماعي، إذاً، ليس سوى تعبير عن البناء الطبقي في الرأسمالية وآليات الاستغلال والفوضى الكامنة فيه. وهذا يفسّر الاتجاه الذي تحرّك فيه ماركس بعد “مخطوطات 1844″. إذ اتجه صوب تحليل الصراع الطبقي بوصفه محرّك التاريخ والسياسة (البيان الشيوعي، الصراع الطبقي في فرنسا، البرومير الثامن عشر للوي بونابرت، الحرب الأهلية في فرنسا، مقالاته السياسية في الصحف الأميركية)، وصوب بيان آليات الاستغلال الطبقي في الرأسمالية وتحول العمل إلى قيمة ومال ورأسمال (بؤس الفلسفة، إسهام لنقد الاقتصاد السياسي، الغرندريسا، نظريات فائض القيمة، الرأسمال). أما البعد الثاني لاغتراب العمل الاجتماعي، كما حلله ماركس في “مخطوطات 1844″، فهو يتعلق باغتراب المنتج (بكسر التاء) عن فاعليته الإنتاجية، أي عن عمله. فالعامل في الرأسمالية يفقد جوهره، لذلك تبدو فاعليته الاجتماعية خارجة عنه لا تنتمي إلى وجوده الجوهري. وبدلاً من أن يؤكد ذاته بعمله، فإنه ينكرها به. وبدلاً من أن يكون عمله مصدر سعادته ووسيلته لإطلاق طاقاته الجسدية والفكرية، يغدو مصدر شقائه ودمار جسده وعقله. وبدلاً من أن يكون تعبيراً عن قدراته الخلاقة، يغدو كدحاً مملاً يمجه العامل. لذلك فإن العامل لا يشعر بذاته إلا خارج العمل، لأن عمله يخلو من ذاته، من أي ذات. وخلاصة القول، فإن عمله ليس تحقيق حاجة داخلية، وإنما هو مجرد وسيلة لسد حاجات خارجه. وعليه، فإن العامل لا يجد ذاته في ما يؤكد إنسانيته ويميزه عن الحيوان (العمل الاجتماعي الحر)، وإنما يجدها في وظائفه الحيوانية (الأكل والشرب والنوم والممارسة الجنسية)، التي تكون بالفعل حيوانية بمعزل عن الفاعلية الخلاقة وحين تصبح غاية في حدّ ذاتها. وهنا أيضا، فإن ماركس لا يعزو فقدان العامل لذاته واغترابه عن فاعليته الخلاقة إلى وضع إنساني دائم، وإنما يعزوه إلى كون العامل جرّد كليا من أي مشاركة في ملكية وسائل الإنتاج وشروطه، ومن ثم فقد كل شكل من أشكال التحكم في شروط إنتاجه، الأمر الذي يضعه تحت رحمة هذه الشروط، أي تحت رحمة الرأسمال (العمل الاجتماعي المغترب). فهو لا “يملك” سوى قوة عمله، التي تغدو سلعة تباع وتشترى في السوق، التي تسيطر عليها طبقة مالكي وسائل الإنتاج وشروطه (البرجوازية). بذلك يلحق العامل بالآلة بصفتها رأسمالاً والسوق بصفتها وسط تحول العمل إلى رأسمال، أي الصورة المغتربة للمجتمع وعلائقه. بذلك، فإن ماركس يربط الاغتراب بعيانيته التاريخية بآليات طبقية استغلالية معينة نشأت تاريخيا تحت ظروف معينة، أي بالصراع الطبقي المشروط تاريخيا. وبهذا الربط فإنه يزيل عن الاغتراب ديمومته ويجعل أمر تخطيه والتغلب عليه مشروعاً تاريخيا ممكنا. بذلك، فإن الماركسية هي الفلسفة الوحيدة في التاريخ التي تجعل من إنهاء الاغتراب مشروعاً جماهيريا ممكنا ضمن إطار الحياة العيانية والفعل الإنساني العياني والتاريخ البشري العياني.
#هشام_غصيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علمنة الوعي
-
من الفلسفة إلى نقد الاقتصاد السياسي
-
مفهوم النهضة عند الحركات اليسارية العربية
-
ماذا يعني لك أن تكون يساريا اليوم؟
-
هل الماركسية علم؟
-
تجديد لينين في مجابهة تجديد ماخ
المزيد.....
-
العدد 590 من جريدة النهج الديمقراطي
-
اليمين المتطرف يحتفل برحيل أونروا من إسرائيل
-
الفصائل الفلسطينية تفرج عن دفعة جديدة من الأسرى بينهم أربيل
...
-
تسع خطوات عاجلة لـ 10 نقابات مهنية مصرية ضد تهجير ترامب للفل
...
-
انتهاء إضراب “النساجون الشرقيون”.. وهيكلة المرتبات خلال 15 ي
...
-
وقف إطلاق النار في غزة.. نصر فلسطيني جزئي بعد خسائر لا يمكن
...
-
خواطر واعتراض واحدة من “أطفال يناير” على ميراث الهزيمة
-
الانتخابات الألمانية القادمة والنضال ضد الفاشية
-
م.م.ن.ص// رقم إضافي لقائمة حرب الاستغلال البشع للطبقة العامل
...
-
الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي تدعو إلى التعبئة قصد التنزيل
...
المزيد.....
-
الذكرى 106 لاغتيال روزا لوكسمبورغ روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثور
...
/ فرانسوا فيركامن
-
التحولات التكتونية في العلاقات العالمية تثير انفجارات بركاني
...
/ خورخي مارتن
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
المزيد.....
|