|
الذين يُقادون إلى الجنة بالسلاسل* - لوركا الكوفة الشهيد حميد الزيدي
فارس الطويل
الحوار المتمدن-العدد: 3235 - 2011 / 1 / 3 - 05:30
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
( سائراً مع القلة الذين واصلوا بالشظف والمكابدة ذلك الطريق الأبهى ، ماسكين بالجمرة أو الشعلة إلى النهاية ، كأنني أتنهد تلك المقولة : آه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق .. ثم أستدير إلى قبر علي الرماحي ، وأغصُّ بدمعي وأقول له كيف اختصرتَ المسافة بين القصيدة والشهادة بهذه العجالة .. وظلَّ دمك لوحده بيننا يكتب ويضيء .. أستدير إلى قبر حميد الزيدي ... وقائمة الذبح والأنين تطول .. ) . (( الشاعر عدنان الصائغ )) ( كان وجه حميد هو الأكثر حضوراً والأغنى بتفاصيله لأنني لم أكن لأفترق عنه طيلة سنوات تعرفي إليه ، فما كان يحمله من سحر لم يمكّن أحداً من الإبتعاد عنه ، كان ملاكاً حقيقياً بأجنحة بيضاء وهالة ضوء حول وجه آسيوي الملامح ، فيما كانت السكين المغروزة في أحشائه - هكذا يتراءى في الكوابيس - ذات مقبض برونزي صدئ قليلاً . ) . (( الشاعر كريم راهي ))
( .... في الصباح نادوا على اسمه والوقت صيف . خلع سرواله ورمى به علينا وقال : ما زالت به فائدة !! . خرج عارياً كطفل وليد إلى منصة الإعدام ... وهنا أجهشتُ بالبكاء .. وقلتُ له : كفى .. إنّه حميد الزيدي !!. ) . (( الشاعر حسن النواب ))
( كان من ضمن هذا الطابور الميت الحي .. حميد مجيد الزيدي وأبراهيم خليل .. كان يشار إليهم ونحن واقفون في الزنازين المقفلة .. هؤلاء هم الأبطال أمام الجلاد الذي أراد ان يثني أجسادهم كي تتوسل أرواحهم عنده لكنه خسر اللعبه . كنت أنظر إلى الشاعر المتشرد ( حميد ) وهو في هندام رث . كان يلبس ثياب المتشردين وينتعل أحذية الميتين من أقبية المدفونين .. يالها من قامة قصيره أتعبها التشرد والجلاد . ) . (( الكاتب عبد الرزاق حرج ))
-1- حين تراه للوهلة الأولى ، وهو يتسـكع في أزقة الكوفة ، يعتورك إحساس طاغ ، بأن هذا الكائن القصير والنحيل ، ينتمي إلى عالم آخر بعيد . يرتعش قلبك ، وتغرورق عيناك بالأسى ، وأنت تحـدّق في ذلك البؤس المرعب الذي يغمر ملامحه ، والحزن العميق الذي يكاد يندلق من عينيه الصغيرتين المتورمتين ، اللتين كانتا ترقدان بذبول في منتصف وجه بيضوي ، أمرد ، شاحب ، قادم من بلاد القوقاز .. لكن سرعان ماتعقد الدهشة عقلك ، وتخضرّ أغصان روحك ، ويفيض الخشوع في أروقة مشاعرك ، عندما يبدأ ( حميد الزيدي ) الحديث ، فتكتشف بأنّ هذا الجسد الضئيل ، المنهك ، الواقف أمامك ، يحوي في داخله نفساً عظيمة وآسرة ، مترعة بالطفولة ، والذكاء ، والحب ، والشجاعة ، والجنون . تدرك فوراً ، بأنّك محظوظ ، وتشعر بالرهبة والإمتنان ، لأنّ القدر قد وضع في طريقك إنساناً عبقرياً ، وثورياً صادقاً مثله ، نوعاً نادراً من البشر الذين لايمكن للمرء أن ينتزعهم من ذاكرته بيسر ، مهما طال الزمان واستطال المكان . أنشبُ أظفاري بعنف في صدغي ذاكرة مثقوبة ، وأديرها عنوة إلى الخلف ، إلى منتصف السبعينات ، نحو ذلك المقهى الفسيح الذي كان يتوسَّد شط الكوفة . أدلف إليه مرتبكاً . تركض عيناي إلى ذلك الركن الأليف ، فيناديني عبق تلك الضحكة الندية التي كانت تفرُّ كالفراشة من أعماق ( حميد ) ، وهو يحكي بمرح عن إحدى نزوات نيرودا العاطفية ، أو يتلوَ منتشياً ، وهو يُغمض عينيه الجاحظتين ، أبياتاً مثيرة من قصائد حسين مردان العارية . أغسل روحي في سوناتات الألوان التي تنثرها الأضواء على وجه الفرات . تباغتني قبضة نسيم باردة ، كانت مختبئة تحت الجسر الأخضر . تطرحني أرضاً ، ثمَّ تستلني من بدني و تقذف بي إلى أعلى ، فأُحلّقَ مذعوراً ، ممتلئاً بالنور والبهجة . تُعيدني قهقهات الأصدقاء ( مكي السلطاني ) و ( كريم راهي ) و ( عبد الحي النفاخ ) إلى حضن المقهى ، إلى ( حميد ) يحتسي شايه ، وهو يتلفّع بذلك الهدوء الرواقي المحبّب ، إلى ( عدنان الصائغ ) ملوّحاً بيده من بعيد ، وعيناه تجوسان النهر ، تفتشان عن سفينة يوليسيس التي أنهكتها الغربة . كان الوقتُ هناك يمرقُ بسرعة ، بينما ( الزيدي ) يعزف بعذوبة على ناي أعمارنا . ينفخُ فيها من روحه المعذّبة ، التي ارتوت من عَرَق ( سيزيف ) وهو يدفع أمامه تلك الصخرة الكبيرة . يسكبُ في خوابيها من فيض معرفته الغزيرة ، التي سقاها من ضوء عينيه وعافيته ، ليكون لحياته معنىً حقيقياً ، يُشعره بقيمة وجوده في هذا الكون ، ويلبّي توقه لعالمٍ أكثر إنسانية ونقاء . كان هاجسُ البحث عن ذلك المعنى ، يؤرقه كثيراً . كنتُ أقرأُ ذلك في عينيه الزائغتين ، اللتين يلهثُ فيهما القلق ، وفي سخريته المتدفقة ، كشلاّل ضوء ، وفي شهيته المفرطة لقرض الكتب ، كفأر جائع . كان بحاجة إلى شيء ما يُشبه الوحي ، كي يطفيء به رغبته المستعرة للقبض على الحقيقة ، التي تهرّأت آماله في العثور عليها ، في الموسوعات الأدبية العالمية ، التي التهمها في زمن قصير ، أو في كتب الفلاسفة ، التي ضاع مركبه في غياهب بحورها ، أو في تلك الأكون القصية ، المكتنزة بالأسرار والشياطين المخبوءة في سراديب الوعي الإنساني ، التي مرّغ أنفاسه في براكينها . أدرك ( حميد ) مبكراً ، بأنّ مايبحث عنه ليس منقوشاً فوق باب معبد ، أو محفوراً في لوح مقدّس ، أو مسطوراً في كتاب قديم ، أو مشنوقاً في عالم صوري أو عقلي . بل هو يسطع ، مثل كوكب دري ، في عيون المحرومين ، يتوهجُ ، كنجمة وحيدة ، في ليل الثوار والمتمردين ، ينبضُ ، كنسمة عطر ، في أعماق الغرباء والمنبوذين ، يتدثّر بصبر ودموع العبيد والمعذبين . قاده هذا الشعور ، لاحقاً ، إلى اقتفاء أثر ذلك المعنى في وجوه الناس ، الذين يرتدون سحنته ، وجوعه ، ووَجعه من العمال والكادحين الفقراء ، فلفحته رائحة البؤس والغضب ، التي تشتعل في عيونهم وصدورهم العارية ، وأسكرته أغاني الثائرين ، التي ترفرف في سماء مدن منسية ، بلّلها الحرمان . في صباح شتائي مشمس ، استيقظت مدينة الكوفة على خبر صعود التلميذ ، الغريب الأطوار ( حميد الزيدي ) إلى سفينة الشيوعيين ، مفتوناً برايتها الحمراء ، وصوت الرفاق يهدر على متنها ( سَـلِ الـ ... ماذا يريد .... وطن حرٌّ وشعبٌ سعيد ) ، مبهوراً بشجاعة لينين وفهد وغيفارا وهوشي منه وسلام عادل ، وكل الثوار الشيوعيين ، منكباً بحماس على قراءة كتب كارل ماركس ولينين وغرامشي وحسين مروة وبليخانوف وهادي العلوي ، مبتلعاً في طريقه روايات غوركي وأندريه مالرو وحنّا مينا وجورج أمادو ، متعقباً بهوس رائحة قصائد ماياكوفسكي ولوركا وناظم حكمت وبول إيلوار ونيرودا وسعدي يوسف وأراغون ، في مكتبات ودرابين الكوفة والنجف وبغداد . كان ( حميد ) سعيداً بأصدقائه الجدد ، الذين كان أغلبهم يشاركه متعة القراءة ، والتمرد ، والتعبد في خرائب المساكين ، مثلما فرحوا هم أيضاً بوجوده بينهم . ربما لم يرق لبعضهم مظهره الرث ، أو بوهيميته ، لكنهم كانوا مبهورين بثقافته ، وجرأته ، فضلاً عن شخصيته العذبة التي كان لها حضوراً وجاذبية بين الطلبة في مدينة الكوفة ، حتى بعد أن انتقل إلى إعدادية الزراعة في كربلاء . تلسعني غصّةٌ مكتومة في حلقي عندما أستنشق رائحة تلك الأيام المغبرة ، التي كان الشيطان وأتباعه يلوّحون بقناديل اليسار والإشتراكية ، ويذرفون دموع التماسيح على شهداء الحرية والثورات المغدورة ، ويحاربون بسيوفهم الخشبية فيالق الرجعيين من الإنس والجن ، ويلوثون العقول والنفوس والشوارع والهواء ، بأغانيهم المغشوشة ، وشعاراتهم المخادعة . كان البعثيون في الكوفة ، في تلك الفترة الممجوجة ، يمقتون ( حميد الزيدي ) ، ويعتبرونه شيوعياً خطيراً ! ( بالرغم من أنّ حميداً لم يتجاوزالثامنة عشرة من عمره آنذاك !! ) دون أن تدغدغ أحاسيسهم ، ولو لمرة واحدة ، عفويته الرقراقة ، أو ثقافته المفزعة ، أو مواهبه المتفجرة ، أو إنسانيته المترعة بالحب ، والرحمة ، والبراءة . أتذكر جيداً كيف كانوا يحدجونه بعيون ملؤها الحسد ، والحقد ، والتربّص ، عندما يأتي للمشاركة ، أحياناً ، في المهرجانات الفنية والمسرحية التي يقيمها الطلبة في مدارس الكوفة ، وكيف كان وُلُوجُه إلى قاعة الإحتفال يُربكهم ، ويُزعجهم ، ويُبقي أعينهم المسعورة مصوَّبة إليه . تجلده بقسوة ودناءة ، وتراقب حركة شفتيه ويديه ، بينما يقابل حميد ذلك ببرود شديد ، وسخرية لذيذة ، وسيل من اللعنات يطلقها في سرّه على الزمن البغيض ، الذي أوقعه بين براثن حفنة من الأغبياء ، الذين لايتقنون غير التصفيق ، والطنيـن ، والتلصص على أحلام البؤساء . على جسد الطريق الممتد من محلة السراي إلى كورنيش الكوفة ، كنّا لانكترث بأنظار البيوت المتراصة بانتظام على الجانبين ، وهي تحتفي بضحكاتنا الصافية ، وخطواتنا السكرانة التي تتناغم مع تلك الفضاءات الملغمة بالسحر والألوان ، التي كان ينثرها ( حميد ) ، كماء الورد ، على رؤوسنا الساخنة التي تفور فيها براكين الأسئلة ، وتشبُّ نيران الرغبة في فك أسرار الوجود ، وتهدر مواكب الأحلام . وحده ، كان يعرف ، حاملاً جذوة بروميثيوس في صدره ، وغربة علي بن أبي طالب في مقلتيه ، وصليب الحلاج على ظهره ، شاخصاً ببصره إلى سقراط ، يبذر الخير والجمال في طرقات أثينا ، وإلى أبي ذر ، يشيّد في الربذة مدينة للفقراء ، يسقيها بدموعه . كان يُجول بمبضعه السحري ، مثل أي جرّاح حاذق ، في سبر أغوار كتابات إبداعية مخيفة لدوستويفسكي ، وجيمس جويس ، وألبير كامي ، ومحمد خضير ، وكافكا ، ومارسيل بروست ، ووليم فوكنر ، وهيرمان هَسَّه ، وجان بول سارتر ، بينما كنا نحملق فيه بذهول ، مبهورين بقدرته الخارقة على الغوص في أعماق النصوص ، والقبض على المعاني المتوارية خلف سياج الحروف . كنا ننصت بشغف إلى خرير اللغة ، وهو ينساب في زوايا الروح ، وشذى الفكر يتغلغل في دمائنا ، متشبثين بجلودنا التي تكاد تسقط منّا ، بينما كان ( الزيدي ) الجميل يسخر من فزعنا ، وتلعثمنا ، وهو يسري بنا إلى عوالم أخرى جديدة ومثيرة ، مكتنزة بالعشق والجنون ، على صهوة قصائد بودلير ، ورامبو ، وسان جون بيرس ، ومحمد الماغوط ، ويسنين ، وريلكه ، ورسول حمزاتوف ... -2- لاأعرف كيف افترقنا ، ولماذا ذهب كل منا في طريق ، ففي هذه الحياة العجيبة ، نفترق فجأة عن الذين نحبهم لأسباب مبهمة ، قد تكون تافهة ، ولكن الألعن من ذلك ، أن تتحوّل تلك الفرقة البليدة إلى قطيعة دائمة ، ومخزية . وهذا ماحدث للأسف الشديد مع ( حميد ) ، الذي لاتزال صورته حتى هذه الساعة تعولُ في صدري . لاأتذكر بأنني كنت أريد أن أترك الكوفة ، تلك المدينة الرائعة التي أرضعتني صبياً يافعاً ، وتحملت مثل أي أم رؤوم نزقي ورعونتي . المدينة البهية ، التي غرستُ رائحتها في دمي ، عندما كانت أقدامي تجوس كل شبر من جسدها المعفرّ بعبق التاريخ ، وأريج البساتين التي تفترش ضفتي الفرات . لم أتمكن من توديع أحد ، عندما قررت عائلتي الرحيل إلى مدينة كربلاء ، لاالأصدقاء ، ولاالفتيات اللواتي أحببني ، ولا تلك الأماكن السرية التي كنت أحجُّ إليها غالباً كي أدفن في أحشائها هواجسي ، ودموعي ، وأمنياتي المتوحشة . كنتُ في ذلك الوقت من منتصف عام 1979 ، قد أنهيتُ دراستي الثانوية في إعدادية النجف بتفوق ، وذهبتُ بعد شهور قليلة إلى بغداد لدراسة الفلسفة . هناك تغيّر مجرى النهر ، وأبحر مركبي في مياه جديدة ، وتوغلتُ في عالم آخر مختلف وشهي ( أنت لاتنزل إلى نفس النهر مرتين ، فإنّ مياهاً جديدة تجري من حولك أبداً ) كما قال هرقليطس ، وتسلّل نهر الكوفه ، ومعه وجوه أصدقائي إلى ركن دافيء في أعماق وجداني ، يتقدّمهم ( حميد الزيدي ) الذي تركته ممزّقاً ، يتقلَّبُ على سرير من جمر وعقارب ، يرنو بعينين دامعتين إلى مخطوط روايته ، الذي يرفض أن يكتمل ، وقصائده المبعثرة ، التي تئنُّ من الغبار والإهمال في ذلك الدفتر السمين ، الذي ينام على الرف . كان يؤمن بأنّ لديه الكثير ليقوله ويشعل به الحرائق في عالم الشعر والرواية ، ويزلزل به المفاهيم التقليدية السائدة عن الأدب والفن والفلسفة ، لكنه يشعر بعجزه الآن ، وهو ينزوي وحيداً في غرفته المتصدّعة ، بعيداً عن رفاقه الذين ابتلعت أكثرهم سجون البعث ، بينما فرّ المحظوظون منهم إلى مدن أخرى نائية ، ينتظر متبرماً قدوم ساعات الصباح ، ليلتحق بوحدته العسكرية ، ودموعه تنحدر على خديه بصمت . فتحت الحرب شدقيها ، وكشَّرَ الموت عن أنيابه ، وغطت رائحة القتل والرعب سماء الوطن ، بعد أن قفز الطاغية إلى العرش ، متسلقاً جثث رفاقه ، الذين قطع رؤوسهم بلا رحمة ، وهو يتصنع البكاء ، بينما كانت دماؤهم تنهمر من عينيه بغزارة في مشهد مؤثر يبعث على الغثيان . بعد عام من بداية الكارثة ، أُعتقلتُ في مديرية الأمن العامة . فوجئتُ هناك بفظاعة الجرائم التي ارتكبتها بحق الحزب والثورة ، أنا الطالب الجامعي الذي غادر لتوه السنة التاسع عشرة من عمره . لم أجرؤ على الإنكار ، فبعض تلك الآثام قد اقترفتها فعلاً في أحلامي ، وتعبّدتُ بالبعض الآخر في خيالي ، لكنني لم أكُ أتوقع أن يواجهني ضابط التحقيق بتهم ظريفة من قبيل التهجّم على ( بطل قومي عظيم ! ) مثل ( أدولف هتلر ) ، أو الدفاع عن شرف ( ساقطة يهودية ! ) كـ ( روزا لوكسمبورج ) ، كما قال ، وهو يحاول أن ينطق الإسم الثاني بإتقان ، حريصاً على رفع نبرة الغضب في صوته . كنت أتلقى سيلاً من الصفعات والشتائم على وجهي من شخص آخر كان يقف بالقرب مني ، قبل أن ينتظر جوابي على أسئلة سيده الذي يجلس بمواجهتي ، والذي لم أستطع أن أتبين ملامحه بسبب قطعة القماش السميكة التي عصّبوا بها عيني . بعد حفلة تعذيب مروِّعة في غرفة مجاورة ، تصورتُ أنها لن تنتهي ، وجدتني معلقاً من ذراعي َّ على باب موصدة تنبعث من خلفها رائحة كريهة ، بينما كانت قدماي المتورمتان تنوءان بحمل جسدي المدمى ، الذي يوشكُ على السقوط . تدحرجت صورة ( رجب ) بطل رواية ( شرق المتوسط ) في ذهني ، تلك الرواية التي دسَّها ( حميد الزيدي ) ذات مساء في يدي . لَدَغَـت أوجاعي التي كنتُ أحاول لملمتها بصعوبة ، فتمتمت ُ متأوهاً : كم رجب يقبع هاهنا ... وكم رجب فاضت روحه تحت التعذيب ؟. كنتُ تواقاً لمعرفة مصير ( حميد ) وبقية الأصدقاء ، الذين غابت أخبارهم عني تماماً ، خصوصاً بعد خروجي من المعتقل الذي أثر على نفسيتي كثيراً ، وقلب حياتي التي كدتُ أن أفقدها ، رأساً على عقب . كنتُ يائساً ومشتتاً ، بعد أن انتهك السفلة حريتي وكرامتي ، وداسوا على إنسانيتي ، وذبحوا جميع أحلامي أمام ناظريَّ ، واحداً تلوَ الآخر ، حتى أبسطها الذي هو مواصلة دراستي العليا ، رغم أني كنت الأول على قسم الفلسفة ، ثمَّ قذفوا بي كغصن يابس إلى محرقة الحرب القذرة التي كانت تبتلع بلا رحمة أجمل شباب الوطن . هناك ، في دياجير العالم السفلي ، عانقت روحي شعراء وكتاب وفنانين ، كانوا مثلي غرباءَ ، مدحورين ، ينتظرون في طوابير الموت ، (حسن مطلك ) و( وهاب شريف ) و(علي رستم ) و( رعد بركات ) و (سامي هيال ) ووو ... ، مدججين بالخيبة ، مكروبين يلوكون أحزانهم ، ترنو قلوبهم بحرقة إلى العالم الآخر ، حيث تركوا ذكرياتهم اللذيذة ، وأمنياتهم ، يعبث بها التافهون ، والأوغاد . متعكزين على كفِّ القدر ، يرقبون مصيرهم البليد تحت وابل القذائف ، وسياط العبودية . لقد نجوتُ من الموت مرتين ، وفي الثالثة ، بعد وأد إنتفاضة شعبان ، خرجتُ من الوطن عارياً ، كمنزلٍ مهجور يُعولُ فيه الخراب ، مخلّفاً ورائي الرماد والنحيب ، متأبطاً دموع أمي ، وصورة كربلاء وهي تنزف وتتداعى . قبل أن تجتاز أنفاسي آخر نافذة تطلُّ على العراق ، رشقتُ السماء بصرخة مكتومة ، فتكسّرت نشيجاً مدوياً صدع َ جدران القلب . تمتمتُ بصوتٍ مشنوق : وداعاً ، ثمّ عبرتُ إلى المنفى . -3- لاأتذكر على وجه الدقة ، متى صفع ذلك النبأ المفجع أسماعي ؟. لقد اخترق فؤادي كالنصل ، وأعادني من دياجير المنفى في تابوت إلى حضن الكوفة . كان مبتسراً وساخناً ، كضربة سوط : ( لقد أُعدم حميد الزيدي لفراره من الجيش ) !. كان لديّ إحساس مرير ، بأنّ وراء هذا الخبر العاري تفاصيل دامية مزّقها الرصاص ، وطمسها الخوف ، رغم معرفتي بمئات الجنود الذين لقوا هذا المصير المفزع في زنازين الموت ، أو في ساحات المعارك على أيدي قتلة مسعورين ، كانوا يتربصون بالعائدين من الجحيم . تقاطرت بعد ذلك أخبار من قُتلوا ، ونُثرت جثثهم المثقوبة في مقابر سرية . رأيتُ وجوه أصدقائي مضرَّجة بالدماء ، تدقُّ أبواب غربتي .. صرختُ مرعوباً : اللعنة عليكم أيها القتلة !. كنتُ في بعض الليالي ، أُرخي العنان لدموعي ، متوسداً أنين الشاعر (عدنان الصائغ ) ، وهو يجرفني معه إلى حيث يرقد أصدقاؤنا المنحورون ، ومنهم ( حميد الزيدي ) و ( محمد حسن الطريحي ) ، و ( حسن مطلك ) ، الذين حفرت دماؤهم المسفوكة ندوباً غائرة في روحه ، وشعره . كانت كلماته المخنوقة تتوغل في شراييني : ( أتذكرهم في جنوب القطب : حميد الزيدي ، علي الرماحي ، عبد الحي النفاخ ... أيّةُ دمعةٍ تركوها على شفاهنا المشققة لاتسقطُ أو تجفُّ .. أيّةُ حياةٍ مرّةٍ نلوكها باشتهاء أجوفٍ ، بعد كلِّ حسوةِ كأسٍ أو قصيدة .. أُشعلُ شموعهم في ليلِ منفاي سائراً ، والحنين ينبضُ بين ذراعيَّ ، يستطيلُ شوارعَ تأخذني إلى هناك .. ) . أغرز رائحتها في دمي ، وأمضي حزيناً معه إلى هناك . أول شظية من حقيقة إغتيال ( حميدالزيدي ) ، عثرتُ عليها بعد سقوط الطاغية بشهور قليلة ، في مقال كتبه الشاعر ( حسن النواب ) ، الذي كان زميلاً وصديقاً وفياً لـ (حميد ) في إعدادية زراعة كربلاء . أتذكر أنّ ( النواب ) طلب من الحزب الشيوعي العراقي ، في ذلك الوقت ، عدم نسيان مناضليه الأبطال ومنهم الشهيد حميد . شعرتُ بأنّ قلبي قد توقف فجأة عن التنفس ، عندما تحدّث ( حسن ) في نهاية مقاله ، عن الدقائق الأخيرة من عمر الزيدي ، وهو يساق إلى حتفه . كانت قصة مؤثرة جداً ، رواها له أحد أصدقائه الذين كانوا مع حميد في السجن : ( في الصباح نادوا على اسمه والوقت صيف . خلع سرواله ورمى به علينا وقال : ما زالت به فائدة !! . خرج عارياً كطفل وليد إلى منصة الإعدام ... وهنا أجهشتُ بالبكاء .. وقلتُ له : كفى .. إنّه حميد الزيدي !!. )** . كنتُ أرتعش وأنا أتخيّل ذلك الجسد النحيل ، يمشي عارياً تماماً ، وبخطىً ثابتة ، ورأسٍ مرفوعة ، إلى باحة الإعدام ، بينما تتدلّى ضحكة ساخرة من عينيه الحزينتين .*** -4- هنا في الغربة ، قد نلتقي أحياناً بأصدقاء لم نكن نحلم يوماً أن تحتضنهم أعيننا مرة أخرى ، بعد أن شرّدنا القهر في أصقاع الأرض ، يداهموننا مثل قطرات المطر ، أو يأتينا بأسرارهم عفريت النت بطرفة عين ، لكنهم للأسف سرعان مايغادرون إلى قلاعٍ مجهولة ، شيدوها من الوهم ، أو السأم ، أو الخوف ، يغلقون أبوابها الصلدة على أنفسهم ، أو تراهم يفرّون بصمت إلى مدن أخرى بعيدة .. بعيدة ، يبحثون فيهاعن منفى بديل ، وكأنهم لايدركون بأنّ المنفى الجديد لن يكون سوى منفى آخر ، وغربة أخرى . قبل حوالي سبع سنين ، جاءني صوته ضاحكاً عبر النت ، من السويد حيث يقيم ، فهتفت من الأعماق ، فرحاً : كريم راهي ! . كنت في غاية السعادة ، وأنا أستمع إلى حديثه المرح ، الذي أعاد بي الذاكرة إلى الكوفة ، إلى بيتنا القديم في محلة السراي ، الذي لايبعد سوى أمتار قليلة عن بيت ( الحاج راهي العبّود ) ، إلى ذلك الفتى الوسيم ، المرهف الحس ، الذي كان يكتب شعراً جميلاً في تلك الفترة ، ونشر بعض قصائده مبكراً في جريدة ( طريق الشعب ) ، وهو لمّا يزل شاباً في مقتبل العمر . أخبرني كريم ، في تلك الليلة ، بصوت موجوع خدش قلبي ، وكان قد قرأ تعقيباً كتبته في أحد المواقع العراقية حول الشهيدين ( حميد ) و( حسن مطلك ) ، بأنّه كان مع ( حميد الزيدي ) في المعتقل منذ البداية ، ولم يفارقه إلاّ بعد أفول ذلك اليوم المفجع ، في محكمة الثورة ، عندما حكم عواد البندر على حميد بالإعدام ، وعليه بالسجن . فاجأني قوله ، وشلّ لساني . شعرتُ بالإرتباك ، وقلتُ في سرّي ، بقلب مرتجف ، هاهو أخيراً الشاهد الوحيد الباقي على الجريمة ، سيميط اللثام الآن عن أسرار مقتل صديقنا الزيدي ، لكن ( كريم ) لم يكن راغباً ، في ذلك المساء ، ولا في أي مساء آخر ، في الحديث عن تلك الأيام المريرة ، التي يبدو أنها قد خلّفت جروحاً عميقة في روحه ، لم تندمل بعد . استطاع كريم ، بعد ذلك بسنوات ، أن يفتح كوّةً في تلك الأسوار العالية التي شيّدها بينه وبين الماضي الأليم ، منذ أكثر من عشرين عاماً ، فكتب بلغة أنيقة ، حرص على أن يبللها بدموعه ، عن ذكرياته المرعبة ، التي كان حميد أحد أكثر فصولها دموية ( وقفتُ قبل خمسة وعشرين عاماً - وبعضاً ممن شكلوا أولى ذكرياتي المريرة - في قفص مواجه لمنصة الحكم في محكمة الثورة لأستمعَ لعواد حمد البندر وهو يحكم بالإعدام شنقاً حتى الموت على إثنين من رفقتي، شاعر وقاص، شابين ، أما الباقون الستة، وأنا بضمنهم ، فلقد حكم على كل منّا بالسجن ست سنوات مع المصادرة ، وزج بنا في اليوم ذاته خلف قضبان قسم الأحكام الخاصة من سجن أبي غريب سيء الصيت . تم كل شيء قبل ذاك بسرعة ، الإعتقال في ظهيرة صيف مازالت طرية في الذاكرة ، فالتحقيق في الشعبة الخامسة ، ثم التوقيف في سجن معسكر الرشيد المعروف بالسجن رقم واحد ، فالمحاكمة . حميد وإبراهيم أخرجا ذلك اليوم من باب خلفي للمحكمة ، ولم أرهما بعد ذلك إلا في كوابيسي ، أما عواد البندر فقد رأيته بعد عشرين سنةٍ وهو يمثل متهماً ويُقاضى في القفص ذاته . كان ذلك أشبه بالخرافة . كان وجه حميد هو الأكثر حضوراً والأغنى بتفاصيله لأنني لم أكن لأفترق عنه طيلة سنوات تعرفي إليه . فما كان يحمله من سحر لم يمكّن أحداً من الإبتعاد عنه، كان ملاكاً حقيقياً بأجنحة بيضاء وهالة ضوء حول وجه آسيوي الملامح . فيما كانت السكين المغروزة في أحشائه (هكذا يتراءى في الكوابيس) ذات مقبض برونزي صدئ قليلاً ... ) . لم يجرؤ كريم في تلك السيرة الذاتية التي اختار ( عن الليالي كلها )**** عنواناً لها ، على البوح بكل شيء ، فالتجربة كانت قاسية ، لكنني أعتقد أنّ عشرين عاماً كانت فرصة كافية لشاعر مبدع ، للقبض على تلك الأشباح ، وتفريغها على الورق . لقد تعرّض كريم وصديقه حميد وآخرون لأبشع وسائل التعذيب ، والترهيب في جحيم ( الشعبة الخامسة ) ، وبعدها في سجن ( أبي غريب ) ، تركت دون ريب ، ندوباً ، وقروحاً ، وقصصاً مؤلمة في ذاكرة الناجين من الموت ، كان ينبغي عدم دفنها أوطمرها في اللاوعي ، لتستحيل إلى فزاعات أو كوابيس تطاردهم ، وتنغص عليهم عيشهم ، بل لابد أن يرووها بصدق ، كحرارة الدم المسفوح ، للأجيال التالية التي لايعرف بعضها شيئاً عن تاريخ أو إشراقات أولئك الأبطال المظلومين ، الذين اغتالت خناجر الفاشيين السفلة ، مبكراً ، أرواحهم البريئة ، لكنها لم تستطع ، بالتأكيد ، أن تمحوا أسماءهم المتألقة ، وصورهم المشرقة ، وكفاحهم ، وتضحياتهم العظيمة المحفورة في قلب العراق ، ووجدان الأحرار والشرفاء . تساؤلات كثيرة كانت تدور في رأسي عن أسباب إعتقال حميد الزيدي ، وأين ، وماذا كان يفعل قبل إعتقاله ، ولماذا حكم عليه المقبور عواد البندر بالإعدام شنقاً حتى الموت .. وغيرها من الأسئلة التي لم أعثر على جواب لها ، وأنا أرتشف كلمات صديقي الشاعر المهندس ( كريم راهي ) المترعة بالفجيعة ( خرجت من السجن معافى إلا من بعض القروح ، وفي حصيلتي حشد آخر ، هم رفقة القراد والقمل ، سيكلفونني مشاق تذكرهم واحداً واحداً بعدئذ . خرجتُ مثقلاً بذاكرة مليئة بالأنين المكتوم الذي كنت أرهف السمع إليه من شقوق الجدران وصرخات الألم التي كانت تأتي من الزنزانات السرية . ) . ( كان علي أن أستيقظ فزعاً طيلة تلكم السنوات ، وحتى الليلة التي خلت ، لأطرد زمر الأشباح التي احتشدت مع الزمن : أرتال صغيرة من محكومين بالموت مروّا في زنزانات مؤقتة ، أخرون رأيت وجوههم خلسة وهم في طريقهم إلى التنفيذ ، ثم قتلى ومفقودو حرب الثماني سنوات ، ومنهم شقيقي ... ) . ( كلهم ماتوا في غيبتي ، لم أدفن أحداً من أولئك قطُّ ، لم أسر في جنازة أحدٍ ، ولم أُؤبن أحداً حتى ، لكنني أتذكرهم جميعاً ، معالم وجوههم لا تتبين بيسر، لكنها قطعاً ليست عسيرة المنال رغم ذاكرة أجهدها المكان والزمان . ياإلهي، أحقاً إنني على هذا القدر من الإحتمال لأحيا حتى هذه اللحظة دون أن تبيض عيناي؟. أأقرأ وأكتبُ وأعمل وأنجز كل ما أنجزته برفقة هذا الحشد الهائل من الغائبين .). -5- كان للصدفة وحدها أن تقودني إلى المسلخ ، حيث ينتظر أبناء الوطن دورهم في الذبح ، قرباناً لوطن ، لم يمنحهم غير الفقر ، والحزن ، والذل ، والموت . سياسيون وأدباء وطلبة وفنانون وعمال وموظفون ، كانوا يُجلدون بقسوة واحتقار ، ويذوون كالشموع خلف القضبان . رحتُ أجول ببصري بين الوجوه المعذّبة ، باحثاً عن عيون أصدقائي بين ذلك الحشد من الضحايا في سجن ( أبي غريب ) . كانت عيناي ترتشف بحرقة ، ماتسكبه ذاكرة ( عبد الرزاق حرج )***** الرهيبة ، عن تلك الفترة المروّعة من حياته ، عندما كان محكوماً بالسجن المؤبد ، هناك . لقد أفزعني ذلك الكم الهائل من أسماء الشهداء والسجناء ، والقصص التي تروي صبرهم وشجاعتهم ، التي استطاع أن يحتفظ بها في ذاكرته ، قبل أن ينجو هو من القتل أو الجنون . رسم ( عبد الرزاق ) صورة مريعة لزنازين الإعدام من داخل السجن . شعرتً بأني أقف أمام لوحة سريالية فظيعة . كانت الزنزانة الواحدة عبارة عن علبة حديدية ، صغيرة جداً ، كعلبة ثقاب ، تتسع لشخص واحد هو المحكوم بالإعدام ، حيث يقضّي فيها أياماً معدودة فقط حتى يحين موعد التنفيذ ، ولكن بعد حملات الإعتقال المسعورة في سنوات الحرب العراقية الإيرانية ، صارت هذه الزنازين تكتظ بالمعتقلين من كافة المحافظات العراقية ، الذين كانوا من خيرة شباب العراق . كان يُحشر في تلك العلب الحديدية أكثر من ستة عشر وربما عشرين فرداً . كان شيئاً فوق التصور ، وغير قابل للتصديق ، فكيف ينام ويأكل ويستحم كل هؤلاء في علبة حديدية لاتتحمل وجود أكثر من شخص واحد ؟ ، وكيف تقاوم أجسادهم الضامرة تلك الأنواع الغريبة من الأمراض والحشرات ، التي كانت تتناوب مع الحرس على الفتك بها ؟ ، وكيف تتحمّل أرواحهم الممزّقة بشاعة وحش الموت ، الذي كان يغزو أقفاصهم المغلقة ، بين آونة وأخرى ، ليخطف بعضاً منهم ، على حين غرّة ؟. في تلك اللحظات العصيبة ، كانوا يتراصفون جميعاً ، بخشوع ، وكأنهم يريدون الصلاة ، ثمّ ترتفع حناجرهم بالهتاف ، والتكبير ، بينما تودع أعينهم المغرورقة بالدموع رفاقهم ، الذين يقتادهم الجلادون بسرعة إلى منصة الإعدام (وهم يهتفون بسقوط الفاشية ، وينشدون للحرية والوطن ، بينما كانت هراوات الحرس تهوي على رؤوسهم وأجسادهم العارية التي تسيل منها الدماء ... ) . الأغرب من كل ذلك ، أن تشهد زنازين الموت تلك ، نشاطات أدبية وفنية ودينية ورياضية !، وكأنها تعلن للقتلة بأنهّا ماتزال تنبض بالحياة والمرح والحب والحرية ، وأنّها أقوى من الطغيان والموت . كان السجانون يصابون بالهلع والذهول ، وهم يرون أولئك الشباب المحكومين بالإعدام ، يحتفلون ويغنون ، وينغمسون في حوارات فكرية وأدبية وسياسية ، ويمارسون الطقوس والشعائر الدينية ، ويلعبون الشطرنج ( حيث يصنعون البيادق من لب الصمون بعد تحويله إلى عجين ) ، ويكتبون الشعر ، ويرسمون ، و ( يُطرزّون لوحاتهم المذهله من خيوط البطانيات ) ... ياإلهي ! أيّ رجالٍ فقدنا !. بكيتُ بحرقة ، ولسان حالي يردد : إلى الجحيم أيها الوطن ، الذي يموت أبناؤه في الحروب ، والسجون ، والمقابر السرية ، والمنافي . كان الرجال يخرجون واحداً تلو الآخر ، مضمخين بدمائهم ، من ذاكرة ( عبد الرزاق حرج ) . أبطال حقيقيون بوجوه مشرقة . فجأةً أطلّ َ( حميد ) ، بجسده النحيل ، يحثُّ الخطى نحوي . كنتُ أريد أن أطير لأضمّه إلى صدري ، لكنني تسمرتُ في مكاني ، محملقاً ، بإنفعال ، في العنوان المصلوب أمامي على الشاشة : ( حميد مجيد حميد - إبراهيم خليل - شهداء الكوفة وكربلاء ) . عبرت أنفاسي السطور الأولى ، بصعوبة . كانت صورة حميد وهو يتدلى عارياً من حبل المشنقة ، تحفر في قلبي .. ( حكمت محكمة الثوره التي كان يترأسها - عواد البندر - عام 1983 على كل من : أولا . إبراهيم خليل - قاص - له كتابات قصصيه منشوره في إحدى المجلات الأدبيه في منتصف السبعينات .. من اهالي كربلاء .. بالإعدام شنقاً حتى الموت . ثانيا . حميد مجيد حميد الزيدي - شاعر - من المبكرين في كتابة النثر .. مدوناته النثريه لتجديد وتطوير الشعر لاتزال مخطوطة .. كتب في الصحف والمجلات الادبيه العراقيه في فترة منتصف السبعينات .. من أهالي الكوفه .. بالأعدام شنقا حتى الموت . ثالثا .عبدالكريم راهي - شاعر - له كتابات شعريه في المجلات الأدبيه والثقافيه العراقيه في فترة منتصف السبعينات .. لديه ديوان شعري سيصدر قريباً ، أكمله في المنفى .. مهندس ..من أهالي الكوفه .. بالسجن ستة سنوات .... ) . توثقت علاقة حميد الزيدي أثناء دراسته في المعهد الزراعي في كربلاء بالقاص إبراهيم خليل ، وكذلك بالشاعر حسن النواب ، الذي سيسرد ذكرياته فيما بعد مع حميد في روايته ( الوشق البري ) . بعد تخرجّه ، وجد حميد نفسه مرغماً على سلوك ذلك الطريق البليد ، كغيره من الجنود المساكين ، الذي يقود إلى المحرقة . كان يرتجف من الغيظ ، وهو يرى الدكتاتور يسير بالوطن إلى الهاوية ، بعد أن حوّله إلى سجون ومقابر وخنادق . عند عودته من الجحيم في إجازة ، أخبر صديقه إبراهيم بأنّه لايريد أن يموت في حربٍ لامعنى لها . سرعان ماوجدا نفسيهما ( يفكران بكيفية إنقاذ شعبهما من هذه المحنة ) ، فقررا أن يلتحقا بالثوار في أهوار الجنوب ، ولكنهما لم ينجحا ، فغيّرا وجهتهما نحو الشمال ، واستطاعا ، في النهاية ، وبمساعدة صديق لهما ، أن يتسلّقا جبال كردستان ، حيث كان يربض ، كالأسود ، الثوار الأكراد ، وبعض فصائل المعارضة العراقية . عمل حميد ، في البداية ، خطاطا في جريدة معارضة تابعة للجادرجي . سمع هناك للمرة الأولى بقصة ( معن النهر ) الذي كان يقود أحد التنظيمات اليسارية المسلّحةُ في بغداد ، ثم أُستشهد ( عام 1970 في شوارع الكاظمية وهو يتصدى لجلاوزة البعث في مواجهة مسلحه بين الطرفين ... دفاعا عن مبادئه وحسه الثوري آنذاك ، ثم انتقلت روحه الثورية ، وشجاعته إلى بقية أفراد عائلة النهر ، ورفاقه ، الذين واصلوا كفاحهم ضد الدكتاتورية والفاشية ، بالرغم من الملاحقة والمطاردة ... ) . في ليلةٍ قارسة البرودة ، وأثناء ماكان حميد يتدفأ بأشعار عبد الله كوران ، وشيركو بيكه س ، إقترح عليه صديقه أن يتصل ( ببقايا تنظيم ( معن النهر ) التي كانت تسمّى – جيش التحرير ) ، فتلقّف حميد هذه الفكرة بحماس ، وبدأ يعمل مع صديقه إبراهيم على تشكيل تنظيم جديد بالتعاون مع جيش التحرير ، ثم غامرا معاً بالنزول من الجبل ، والذهاب إلى بغداد وكربلاء والنجف ، لتأليف خلايا شيوعية من الشباب الثوري الذي يؤمن بالفكر الماركسي . كانا يتحركان بنشاط ، وحرص شديد ، لتحقيق حلمهما ، بتأسيس تنظيم شبابي قوي ، يستطيع تثوير الشارع العراقي ، وضرب أوكار الإستبداد ، التي كانت تبطش بدون رحمة بالمناضلين والمعارضين ، وتنشر الرعب والموت والخراب في كل أرجاء العراق . لم يمضِ وقت طويل ، حتى تمكنت المخابرات من إختراق تنظيمهم الوليد ، وتم اعتقالهم جميعاً على أساس ( أنّهم أحد الفصائل الشيوعية التابعة للحزب الشيوعي العراقي ! . حكمت عليهم محكمة الثورة بعد إعتقالهم والتحقيق معهم بالإعدام شنقاً حتى الموت على حميد وإبراهيم ، وعلى بقية رفاقهم بالسجن لمدة ست سنوات في الأحكام الخاصة ) . في زنازين الإعدام ، في سجن أبي غريب ، كان السجناء ينظرون إلى حميد ورفيقه إبراهيم ، بإعجاب ، وإجلال ( كان من ضمن هذا الطابور الميت الحي .. حميد مجيد الزيدي وأبراهيم خليل .. كان يشار إليهم ونحن واقفون في الزنازين المقفلة .. هؤلاء هم الأبطال أمام الجلاد الذي أراد ان يثني أجسادهم كي تتوسل أرواحهم عنده لكنه خسر اللعبه . كنت أنظر إلى الشاعر المتشرد ( حميد ) وهو في هندام رث . كان يلبس ثياب المتشردين وينتعل أحذية الميتين من أقبية المدفونين .. يالها من قامة قصيره أتعبها التشرد والجلاد . كان ثورة نثرية شعرية سبقت عصرها ، لكن لم يحالفه الحظ ... !) . لقد كان باستطاعة حميد الزيدي ، بعد وصوله إلى كردستان ، أن يظلّ فيها أو أن يرحل خارج العراق نهائياً ، كما فعل الكثيرون . كان بإمكانه أن يحقق حلمه بأن يكون شاعراً وروائياً عظيماً ، بما كان يمتلك من موهبة فريدة ، وثقافة مذهلة ، لكنّ ثوريته الصادقة ، وشجاعته الإستثنائية ، أصرّت عليه بالعودة ، ليموت مكبّلاً بالسلاسل ، راسماً تلك الإبتسامة الندية على شفتيه . ( نُفِّذ حكم الإعدام في حميد مجيد الزيدي ورفيقه إبراهيم خليل في منتصف عام 1984 . قال لي الشهيد جمال سلهو : لقد كانا بطلين فعلاً .. لم يشعرا بالخوف ، عندما نادى الحراس على إسميهما ، ووضعوا الأصفاد في أيديهما أمام جميع السجناء في القاطع ، كان حميد ورفيقه يرمقان الحراس بنظرة متحدية ، ويرسمان على شفتيهما إبتسامة ساخرة ، وخزت جلودهم وأرواحهم ... ) . إنّه من الذين يُقادون إلى الجنّة بالسلاسـل !!.
فارس الطويل زيغن / ألمانيا / 3 كانون الثاني 2011 * هذا العنوان مأخوذ عن الحديث الشريف ( عجبتُ لقومٍ يُقادونَ إلى الجنة بالسلاسل ) ، وأنا هنا لاأقصد به المعنى الذي ذهب إليه أغلب المفسرين ، بل المعنى الآخر الذي يشير إلى الأسرى والمعتقلين الذين يُقتلون صبراً وظلماً ، وهم مكبّلون بالسلاسل ، فيُحشرون كذلك . ** نُشر مقال الشاعر حسن النواب في موقع ( كتابات ) سنة 2003 ***علمت مؤخراً من الشاعر ( حسن النواب ) ، بأنّه ذكر حكاية صديقه ( حميد الزيدي ) ، وكيفية إعدامه في رواية جديدة ، ستصدر له قريباً بعنوان ( الوشق البري ) . **** نشرت في موقع ( النور) ضمن سلسلة ( جسور الحنين ) التي يقوم بكتابتها الأديب والإعلامي ( توفيق التميمي ) . ***** أنظر سلسلة ( رجال في الذاكرة ) للكاتب ( عبد الرزاق حرج ) في موقع ( الحوار المتمدن ) .
#فارس_الطويل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل الإرهاب له دين ، حقاً .. ؟
-
الروائي الشهيد حسن مطلك بين الحلم الكبير ، ورأس الطاغية
-
هل تريدونه وطناً ، أم مَسلخاً ؟
-
أقلامٌ ملوَّ ثة
-
لماذا يحب الأبناء وطناً ، يقتلُ فرحهم ؟
-
الغربة بين الوطن والمنفى
-
الشيعة يقتلون أهل السنة في العراق
المزيد.....
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|