وصفي احمد
الحوار المتمدن-العدد: 3210 - 2010 / 12 / 9 - 14:38
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
انقلاب 8 شباط 1963 – الحلقة السابعة من الحكم الهزيل
عزز تخفيف الأحكام الصادرة بحق شباب البعث ممن حاولوا اغتيال قاسم ثقة الحزب بنفسه و ازدياد تقدير القوى القومية له كقوة فاعلة في المجتمع . فبالرغم من توقيف بعض أعضائه النشطين , و زوال دور القيادة التي خطط أمينها العام لمحاولة الاغتيال , زادت الأحداث من صلابة أعضائه .فأعيد تنظيم الحزب و تسلمت قيادة قطرية جديدة مسؤولية قيادة الحزب .و قد زادت علائم احتمال قيامه بحركة انقلابية ضد السلطة القائمة يومها عندما رفت الحكومة سعر غالون البنزين عشرة فلوس , وهو ما أدى إلى إضراب أصحاب سيارات الأجرة خلال شهر آذار 1961 , فاستغلت قيادة حزب البعث هذا الحادث لتحوله إلى حركة جماهيرية . و تدخلت جهات أخرى في تصعيد الإضراب بإرباك الحكومة عندما كانت منهمكة في مفاوضاتها مع شركات النفط الإ حتكارية , إلا أن الإضراب فشل إذ لم يحصل على تأييد جماهيري واسع . فأخذت تتبلور فكرة القيام بانقلاب عسكري يشترك فيه الجيش , و بخاصة الضباط المتقاعدين الذين عارضوا نظام حكم قاسم . فتشكلت لجنة سرية من الضباط البعثيين و القوميين و غيرهم من المعارضين للنظام القائم يومها انضم أليها عدد من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث . و ضمت أمين عام الحزب الجديد علي صالح السعدي و طالب شبيب و حازم جواد و الدكتور مسارع الراوي و حمدي عبد المجيد و كلا من الرئيس الأول الركن المتقاعد عبد الستار عبد اللطيف و الرئيس أول عبد الكريم مصطفي نصرت و المقدم الركن صالح مهدي عماش . و كان على اتصال بالقسم العسكري لهذه اللجنة كل من العقداء المتقاعدين عبد السلام عارف و طاهر يحيى و عبد الغني الراوي و الزعيم رشيد مصلح و المقدم أحمد حسن البكر و عبد الهادي الراوي , وكذلك المقدم الركن خالد مكي الهاشمي آمر كتيبة الدبابات في أبو غريب و العقيد الركن عارف عبد الرزاق آمر قاعدة الحبانية و المقدم الركن حردان التكريتي آمر قاعدة كركوك الجوية و الرئيس الطيار منذر الونداوي .
خفت المراقبة على نشاط القوميين عامة و البعثيين بشكل خاص بعد سنة 1961 لانصراف أجهزة الأمن إلى مطاردة الشيوعيين و أنصارهم . حتى أن مدير الأمن العام العقيد عبد المجيد جليل وضع مؤيدي 14 تموز و محبي عبد الكريم قاسم في صف الشيوعيين و صارت أجهزته تطاردهم و كان دافعه إلى ذلك الكره الذي كان يكنه للشيوعيين منذ أن كان ضابط استخبارات في العهد الملكي .
وقد بدأ القوميون و البعثيون على وجه الخصوص يحصلون على تأييد بعض العاملين في أجهزةالأمن , و شجعهم على ذلك الأعمال الاستفزازية و الجو الارهابي الذي ساد المجتمع بعد الرابع عشر من تموز 1958 , وقد صرح عبد المجيد جليل مدير الأمن العام في فترة حكم قاسم أمام إسماعيل العارف في بهو الضبط للواء التاسع عشر يوم 10شباط 1963 عندما كانا موقوفين , حينما كان يستجوب من قبل على صالح السعدي و هيئة التحقيق التي تشكلت بعد نجاح انقلاب 8 شباط , فقد قال للسعدي عندما صفعه على وجهه و بصق فيه (( لماذا تضربني ... لولاي لما نجح انقلابكم )) .
و ضعت خطط عديدة للتخلص من قاسم و الاستيلاء على السلطة لكنها لم تنفذ لسبب أ و آخر . كان أكثرها دقة في الإعداد تلك التي وضعت لتنفذ في 19 كانون الثاني 1963 . بعد تحريك إضراب الطلاب في أواسط كانون الأول 1962 الذي بدا في المتوسطة الشرقية للبنين على أثر عراك نشب بين ابن العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب و بعض الطلاب البعثيين , وقد تدخل الانضباط العسكري لحل النزاع فانتشر الإ ضراب الى عدد من المدارس الثانوية و المتوسطة و شمل كليات جامعة بغداد أيضا . و كان الغرض منه خلق جو مضطرب يساعد على القيام بانقلاب . تطور مسار الاضراب عندما اعتصم قسم من طلاب الجامعة في بناياتها الادارية فاقتحمها رجال الجيش و الأمن بأمر من الحاكم العسكري العام في 7 كانون الثاني 1963 و جرى إبعاد الطلبة المعتصمين إلى منطقة نائية في الشمال , لكن القرار تم التراجع عنه بعد تدخل إسماعيل العارف , و كاد الإضراب أن ينتهي بعدما نفذت معظم مطالب المضربين إلا أن مطالبهم تطورت لتتضمن أمورا سياسة ليس للحركة الطلابية علاقة بها .فشنت أجهزة الأمن و الجهات العسكرية حملة اعتقالات ضد الطلاب و المعلمين و المدرسين و أساتذة الجامعة ممن اتهموا بالتحريض على الاضراب أو الاشتراك به .
كشفت الخطة المعدة للانقلاب إلى عبد الكريم قاسم من قبل أحد الضباط , فأحال عدد من الضباط للتحقيق ممن وردت أسمائهم فيها إلا إن الأعضاء الرئيسيين لم يكشف أمرهم لديه . فتأجل تنفيذ الخطة إلى يوم 25 شباط خلال أيام عيد الفطر . إلا إن ضابطا آخر كان مع المخططين أسر إلى عبد الكريم بأسماء الباقين و كشف نيتهم القيام بالحركة في ذلك اليوم . فألقي القبض على صالح مهدي عماش و علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث يومها و عدد آخر من الضباط الذين ذكر أن لهم علاقة بالمؤامرة و أجل توقيف البعض الأخر , ولهذا قرروا تقديم موعد الانقلاب إلى يوم 8 شباط تلافيا للخطر.
عند الساعة الثامنة و النصف من صباح 8 شباط 1963 وقفت سيارة أمام باب دار العقيد الطيار جلال الاوقاتي آمر القوة الجوية , و نزل منها ثلاث شبان طرق احدهم باب الدار, وحالما فتحها الأوقاتي انهالوا عليه برصاص غداراتهم و تركوه جثة هامدة على باب داره وعند الساعة التاسعة قامت طائرتان من قاعدة الحبانية التي سيطر عليها الضباط القوميين و قصفت مدرج الطائرات الحربية في معسكر الرشيد و خربته فلم يعد صالحا لحركة الطائرات . ثم أعقبتها طائرتان أو ثلاث بدأت تقصف وزارة الدفاع بقيادة الملازم منذر الونداوي , و بشكل متواصل لمدة ساعتين فردت عليها المدفعية المضادة و أسقطت واحدة منها . وكان القصف اشارة لتجمع الحرس القومي , مليشيا حزب البعث , المسلح بالغدارات , فاتجهوا من الأعظمية إلى وزارة الدفاع و معسكر الرشيد و سدوا الطرقات المؤدية إلى بغداد من جهة الغرب . و في معسكر أبو غريب الواقع إلى الغرب من بغداد سيطر الضباط القوميون و البعثيون على كتيبة الدبابات الرابعة التي كان يقودها المقدم الركن خالد مكي الهاشمي و تمكن العقداء المتقاعدون طاهر يحيى و أحمد حسن البكر و عبد السلام عارف من الوصول إلى الكتيبة و انضموا إلى الضباط المتمردين . فتحرك المقدم عبد الستار عبد اللطيف و حازم جواد و طالب شبيب و عبد الستار الدوري نحو مرسلات أبو غريب القريبة من المعسكر فسيطروا عليها حيث لم يجدوا فيها قوة لحمايتها . فأذاع البيان الأول حازم جواد عند حوالي الساعة التاسعة صباحا . و أذيع البيانات الثاني و الثالث بإحالة كبار الضباط على التقاعد مع خبر مقتل عبد الكريم قاسم الذي كان حيا في داره بالعلوية . و أذيعت بيانات تأييدا للانقلاب بأسماء آمرين موجودين في معسكرات كركوك و الحبانية و الديوانية دون علمهم . ثم ركب عبد السلام عارف و أحمد حسن البكر و بقية الموجودين في محطة المرسلات الإذاعية في أبو غريب , دبابة وتوجهوا بها إلى محطة الإذاعة الرئيسة في الصالحية ببغداد ففتح لهم آمر الفوج العقيد هادي خماس المسؤول عن حماية أبوابها و انحاز إلى الانقلابيين .و أصبحت بعدئذ محطة الإذاعة مقرا للمجلس الوطني لقيادة ( الثورة ) الجديد . ثم تبعهم خالد مكي الهاشمي بعدد من دبابات الكتيبة ود خل إلى بغداد و تحركت بعض هذه الدبابات نحو وزارة الدفاع , ثم تمكن القيد عبد الغني الراوي من استلام قيادة اللواء الثامن في الحبانية مدعيا بأنه عين لإمرة اللواء من قبل المجلس الوطني لقيادة ( الثورة ) و زحف باتجاه بغداد . و أدى القصف الجوي إلى تعطيل المواصلات ا لسلكية و اللاسلكية بين وزارة الدفاع و بقية وحدات الجيش و أجهزة الدولة .ثم تمكن الرئيس الأول عبد الكريم مصطفى نصرت مع مجموعة من الحرس القومي من شق طريقهم بين الجماهير الصاخبة المؤيدة لقاسم ووصلوا إلى مقابل المدخل الرئيسي لوزارة الدفاع .
و عند لساعة العاشرة و النصف وصل الزعيم عبد الكريم قاسم إلى وزارة الدفاع شاقا طريقه بصعوبة مخترقا الجموع البشرية التي أحاطت بالوزارة و هي تطالب بتوزيع السلاح عليها لمقاومة الحركة الانقلابية و هي تهتف : (( ماكو زعيم إلا كريم ) ) . ثم لحق به الزعيم عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري و طه الشيخ أحمد مدير الخطط العسكرية و وصفي طاهر و فاضل عباس المهداوي . فأقترح الزعيم الركن طه الشيخ أحمد على عبد الكريم أن يترك بناية وزارة الدفاع بدلا من أن يقبع فيها منتظرا مصيره و يقوم بقيادة القطعات الموجودة فيها و يقوم بحركة عسكرية خاطفة للخروج من البناية و يتجه نحو معسكر المنصور ومن هناك يجمع القطعات الموالية له من الفرقة الثانية و الثالثة و يزحف على بغداد ثانية و يكرر ما قام به صباح الرابع عشر من تموز 1958 , وكانت وزارة الدفاع قلعة حشدت فيها قوات كبيرة مجهزة بمختلف الأسلحة يزيد تعدادها على الثلاثة الاف جندي و كان فيها فوج من لوائه و قوات الانضباط المجهزة بالمدرعات . وفي البناية وحدات مدفعية ضد الطائرات و ضد الدبابات . كما اقترح عليه فتح المشاجب و توزيع السلاح على الجماهير التي ملأت الشوارع تنادي بالسلاح لمقاومة الحركة الانقلابية . إلا أن الاقتراح لم يلق أذنا صاغية من قاسم , إذ لم يكن مقتنعا حتى ذلك الوقت أن الحركة جدية وسيكتب لها النجاح نظرا لثقته بولاء وحدات الجيش له خصوصا الجنود وضباط الصف الذين كانوا يحبونه حد العبادة .
بدأ الناس يتكاثرون في الشوارع هاتفين بحياة الزعيم عبد الكريم . وقد أشعلت حماستهم بيانات الحزب الشيوعي التي وزعها في المناطق الشعبية . فعندما سمع سكرتيره حسين الرضوي قصف الطائرات لمعسكر الرشيد , حرر بيانا على عجل وزعه إلى أعضاء الحزب الشيوعي في الشوارع و الأماكن الشعبية و تولى بعضهم قراءته على الجماهير التي تجمعت بكثافة في شارع الرشيد .
و لم يكن أمر الحركة الانقلابية خافياعلى عبد الكريم , بل كان على علم تام بتفاصيل الحركة من مصادر أجهزة الأمن و بعض الضباط المخلصين له و من مصادر الحزب الشيوعي الذي ضمنها في نشرات علنية أصدرها في 3 كانون الثاني 1963 جاء فيها : (( إن المعلومات المتيسرة تشير إلى أن كتائب الدبابات في معسكرات بغداد و اللواء التاسع عشر أصبح مركزا لنشاط عدد من الضباط المتآمرين الرجعيين الذين يتوخون قلب هذه المراكز إلى قواعد لتنفيذ حركة تهدد استقلال البلد , وقد اختاروا لذلك موعدا بعد آخر , و الموعد الأخير يحمل أهمية خاصة يسبب حراجة الأزمة السياسية الحاضرة و الزيارات التي يقوم بها بعض الجواسيس الأمريكان للبلاد )) كما وردت للزعيم معلومات أكيدة من ضباط اشتركوا في المؤامرة و لكنهم تراجعوا بسبب محبتهم لقاسم .
و على أثر توقيف صالح مهدي عماش اتصل عبد الكريم بإسماعيل العارف و قال بحالة عصبية : (( قلت لك مئات المرات أن صالح مهدي عماش , الذي تدافع عنه دائما سوف يقتلك و يقتلني , لقد ألقيت القبض عليه لأنه يتآمر للقيام بانقلاب ضدنا ...)) .
زحفت جموع العمال و الكسبة الساكنون في منطقة الشاكرية و الكريمات بجانب الكرخ و هاجمت دار الإذاعة . إلا أن دبابات الكتيبة الرابعة و جنود حماية الإذاعة ردتهم و ألحقت بهم خسائر فادحة . أما الكاظمية فقد سيطرت الجماهير عليها بقيادة المقدم المتقاعد خزعل علي السعدي عضو سكرتارية الحزب الشيوعي بعد أن استولت على مخافر الشرطة و أسلحتها و على مركز مديرية النجدة .و تقدم سكان مدينة الثورة , عبر السدة الشرقية و انضموا إلى العمال و الكسبة في شارع الشيخ عمر و الكفاح وعقد الأكراد و تسلحوا بالعصي و الهراوات و اتجهوا إلى وزارة الدفاع و ضربوا حولها نطاقا كثيفا من البشر للدفاع عنها , وكانوا يصرخون مطالبين بتوزيع السلاح عليهم , وفي هذه الأثناء , و حوالي الساعة الحادية عشرة و النصف وصل إلى مقربة من وزارة الدفاع عدد من الدبابات يقودها العقيد عبد الكريم مصطفى نصرت الصقت عليها صور عبد الكريم قاسم لكي يتصورها الناس دبابات موالية . وعندما شعرت الجماهير أنها معادية هاجمتها فأضطر نصرت أن يفتح النار على الجماهير فأوقع فيها خسائر جسيمة . و مع ذلك لم تتمكن الدبابات من اقتحام وزارة الدفاع . وعندما وصلت قطعات من المشاة بقيادة المقدم محمد يوسف طه , بدأت معركة احتلال وزارة الدفاع و كان القتال يسير من شبر إلى شبر و من غرفة إلى غرفة , و انتهت معظم المقاومة مساء 8 شباط بعد أن أخذ جنود الحماية يفرون متسللين من الطريق المحاذي لنهر دجلة من شدة النار التي وجهتها اليهم مدافع الدبابات و الطائرات المغيرة .
و في مساء ذلك اليوم اتصل عبد الكريم بعبد السلام هاتفيا طالبا إليه وقف سفك الدماء , و عرض عليه الاستسلام على ان يترك العراق إلى أي جهة يتفق عليها . فأجا ب عارف الذي كان يقطر حقدا و انتقاما قائلا : (( إن المسألة أصبحت تتعلق بالمباديء و مصلحة الوطن و ان المجلس الوطني لقيادة الثورة قرر ان تستسلم في الباب الرئيسي لوزارة الدفاع واضعا يديك فوق رأسك , و بلا رتب عسكرية , )) بعدئذ توجه عبد الكريم قاسم إلى مجمع بنايات الانضباط العسكري الكائن في مدخل بناة وزارة الدفاع الرئيسي . ثم انتقل هو و مرافقوه إلى قاعة الشعب المجاورة لتلك البنايات و اتصل ثانية بعبد السلام بعد ان احتلت القوات المهاجمة معظم أبنية وزارة الدفاع و قتل أثناء القصف الجوي مرافقه العقيد وصفي طاهر و عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري , فعرض عليه أن يستسلم و ينهي القتال كما يستسلم القادة العسكريون بما يليق بكرامة الجيش و القيم الخلقية المتعارف عليها في مثل تلك الأحوال . إلا أن عبد السلام رفض ذلك ثانية .
هنا نود أن نروي الساعات الأخيرة لعبد الكريم قاسم الذي ما زال يشغل المفكرين و الناس العاديين فمنهم من يلومه اليوم لأنه أطاح بنظام دستوري نيابي بانقلاب عسكري كان باكورة لسلسلة من الانقلابات التي أوصلت العراق إلى ما هو عليه اليوم . بينما يرى البعض الآخر أن ما قام به كان ضرورة حتمية بسبب الأوضاع السيئة التي كان يعيشها الشعب العراقي .
كان الزعيم عبد الكريم في وزارة الدفاع مساء 7 شباط 1963 و طلب من المرافق المقدم قاسم الجنابي أن يتصل بوزير العدل السابق مصطفى علي ويدعوه للقدوم إلى وزارة الدفاع . فحضر مصطفى و دار بينهما حديث قصير و لما غادر ترك قاسم الوزارة و ذهب برفقة حمايته لزيارة بيت يحيى الجدة أخي عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري , حيث كان يزوره كلما أحس بضيق و بقي هناك إلى أن تناول طعام السحور . و عندما عاد إلى داره في العلوية أوى إلى فراشه . وفي صباح اليوم التالي أيقظ العريف الخفر المقدم قاسم الجنابي و أخبره أنه سمع على الراديو إذاعة غريبة على موجة بغداد تدعوا إلى انقلاب عسكري و كان ذلك في الساعة الثامنة و النصف . و بينما كان الجنابي يرتدي ملابسه اتصل به مدير الأمن العام عبد المجيد جليل و طلب منه إيقاظ عبد الكريم لأن انقلابا قد وقع . فخرج المرافق من دار الحماية المجاور لبيت قاسم فوجده قد استيقظ و كان يرتدي ملابسه العسكرية . فطلب من المرافق أن يطلب له على الهاتف مقر اللواء التاسع عشر في معسكرا لرشيد . فحضر على الطرف الثاني من الهاتف المقدم الركن مهدي الصندوق مقدم اللواء , فقال له قاسم هيئ لي سرية في باب المعسكر و أنا قادم إلى اللواء . و بينما كان يتحدث مع مقدم اللواء , حوالي الساعة التاسعة دخل الزعيم طه الشيخ أحمد و الزعيم وصفي طاهر مرافقه الأقدم و المقدم الركن حافظ علوان المرافق الثاني . فقال لهم هيا بنا نذهب إلى اللواء التاسع عشر في معسكر الرشيد و فاعترض طه الشيخ قائلا : (( أنا لا أنصح بذهابك إلى اللواء التاسع عشر في معسكر الرشيد لأن هناك بعض الضباط البعثيين و قد يعتدون عليك )) و اقترح الذهاب إلى وزارة الدفاع . فوقع الاقتراح عنده موقعا حسنا . ثم استقل سيارته و ذهب إلى وزارة الدفاع بمعية رجال حمايته . و لما وصلت السيارة بالقرب من الوزارة شق طريقه بصعوبة بالغة وسط الجماهير المحتشدة هناك و هي تنادي : (( ماكو زعيم إلا كريم )) . فصعد سلم الوزارة إلى مقره حوالي الساعة التاسعة والنصف و اتصل بأمر الانضباط العسكري عبد الكريم الجدة و طلب منه ارسال مفرزة من الانضباط إلى مرسلات أبو غريب لحمايتها و أخرى إلى معسكر الرشيد . ثم طلب مسجلا و سجل خطابا سلمه إلى الرئيس سعيد الدوري المسؤول عن تدوين خطاباته و أمره أن يذهب به إلى دار الإذاعة في الصالحية لإذاعته .فوصل الدوري إلى دار الإذاعة و سلم الخطاب إلى المذيع قاسم نعمان السعدي و طلب منه إذاعته , لكن الأخير سلمه إلى الانقلابيين فأحتفظوا به و لم يذيعوه .ثم اتصل قاسم بسكرتيره و المشرف على الإذاعة و التلفزيون و قال له : (( سيصلك شريط سجل عليه خطابي و عليك إذاعته )) . إلا أن العزاوي أمر المشرفين على التلفزيون بإخراج صورة عبد الكريم على شاشة التلفزيون و لم يذع الخطاب .ثم طلب قانون شركة النفط الوطنية الذي احتفظ به ليصحح بعض العبارات فيه ووقعه و قال : (( أريد أن اوقع هذا القانون الآن )) . ثم اتصل بالعقيد صفاء محمود آمر كتيبة الدبابات الموجودة في بغداد الجديدة , وطلب منه تنفيذ خطة أمن بغداد . و أعاد الاتصال باللواء التاسع عشر فأجابه على ندائه هذه المرة الرئيس طه الشكرجي فكلمه بخشونة فقال له عبد الكريم مهددا : (( انتظر سآتيك حالا ) ) فقفز من مكانه و نزل السلم مسرعا باتجاه سيارته فلحق به المرافقون إلى وسط ساحة وزارة الدفاع و توسلوا اليه أن يعود و لا يذهب إلى معسكر الرشيد . وقد كان أكثرهم الحاحا عليه الزعيم عبد الكريم الجدة . فدخل عندئذ إلى دائرة آمر الانضباط و أرسل المرافق حافظ علوان ليستدعي آمر حماية فوج حماية وزارة الدفاع يحيى الحافظ فلم يعد المرافق ولم يأت الأمر . وعند ذاك لحق به في مقر الانضباط الزعيم طه الشيخ أحمد و رئيس أركان الجيش أحمد صالح العبدي قادمين من المقر الرئيسي لوزارة الدفاع , بينما اشتد الرمي من العناصر المتمردة على بناية الانضباط العسكري . أما مرافقه الأقدم فقد بقي في البناية الرئيسية حتى أصابته شظية من قصف الطائرات و أردته قتيلا . أما قطعات حماية وزارة الدفاع فقد ارتبكت و لم تنفذ الأوامر التي صدرت إليها من قاسم بتأثير القصف و الضباط الذين انحازوا إلى الانقلابين , فتجمع في مقر الانضباط العسكري كل من الزعيم عبد الكريم و الزعيم عبد الكريم الجدة أمر الانضباط العسكري و رئيس أركان الجيش و الزعيم طه الشيخ أحمد و سعيد مطر و فاضل عباس المهداوي و كنعان خليل حداد الذي أبدى شجاعة نادرة في المقاومة .
و عندما حل مساء 8 شباط تمكنت بعض القطعات الثائرة من الاستيلاء على نصف وزارة الدفاع و حاولت بعضها مهاجمة بناية الانضباط العسكري إلا أنها ردت على أعقابها بفعل المقاومة المستميتة التي أبداها الضباط المحيطون بعبد الكريم . كما لم تتمكن الدبابات التي وصلت إلى مدخل الوزارة من اقتحامها و استمرت المقاومة حتى صباح يوم السبت 9 شباط الذي تصاعد يه قصف الطائرات على بناية الانضباط العسكري مما أدى إلى استشهاد الزعيم عبد الكريم الجدة آمر الانضباط العسكري .
تمكن يونس الطائي صاحب جريدة (( الثورة )) من دخول وزارة الدفاع مساء يوم 8 شباط و اقترح على قاسم أن يتوسط بمفاوضة الانقلابيين و ذلك قبل أن ينتقل عبد الكريم إلى بناية محكمة الشعب المجاورة للانضباط السكري بسبب القصف الجوي الكثيف . فخرج يونس الطائي لمفاوضة عبد السلام و بقية المسؤولين عن الانقلاب في إذاعة بغداد في الصالحية فتوقف القتال بعض الشيء ولما عاد يونس نقل إليه قرارهم بأن يستسلم و سيسمحون له المغادرة إلى خارج البلاد .
و قبل أن ينتقل إلى بناية محكمة الشعب سمح عبد الكريم لأحمد صالح العبدي رئيس أركان الجيش أن يترك مرافقته و يذهب في حال سبيله فأتجه إلى حافة نهر دجلة و خرج من وزارة الدفاع سالكا طريق الضفة اليسرى و سلم نفسه إلى القوات التي كانت تحاصر وزارة الدفاع من الجهة الشمالية الغربية . ثم اقترح الضباط أن يخرج الزعيم عبد الكريم قاسم معهم باتجاه المستشفى الجمهوري إلا أنه لم يوافق . و في ذلك الوقت سمح للرئيس سعيد مطر أن ينجوا بنفسه .
بعد فشل المفاوضات التي أجراها الطائي و توقيفه من قبل علي صالح السعدي عندما عاد لينقل إليهم وجهة نظر قاسم . حلق قاسم ذقنه و غير ملابسه و أتصل بعبد السلام عارضا عليه الاستسلام مرة أخرى . و أخذ الضباط الذين كانوا برفقته مواضعهم على شرفات قاعة الشعب و قد وجهوا أسلحتهم إلى وسط القاعة . و عندما حلت الساعة الثانية عشر و النصف دخل جميع الضباط الذين كانوا يطوقون وزارة الدفاع مع بعض الجنود إلى قاعة الشعب , وعندما أراد الضباط المحيطين بعبد الكريم اطلاق النار منعهم قائلا : (( لا ترموا . لا أريد مجزرة . إنهم أبنائي )).
وعندما سأل المقدم قاسم الجنابي عن السبب الذي أدى إلى احجام قاسم عن توزيع السلاح على الجماهير المحتشدة قال (( رفض الزعيم عبد الكريم قاسم قائلا : لا أريد أن أجعلها حربا أهلية )) . و قد قرر الاستسلام بعد أن تردى الموقف و على أثر الوعد الذي نقله يونس الطائي من المجلس الوطني لقيادة ( الثورة ) في أنه إذا استسلم فسوف يسمح له بالسفر إلى خارج العراق .
و عند الساعة الثانية عشر و النصف من بعد ظهر السبت المصادف 9 شباط سلم عبد الكريم قاسم نفسه و كذلك فعل الضباط الذين اختاروا البقاء معه حتى أخر لحظة . و كان خارج وزارة الدفاع العقيد الركن محمد مجيد و المقدم الركن هادي خماس (كان أحد آمري أفواج لواء عبد الكريم قاسم و كان يثق به فأناط به حراسة بناية الإذاعة و التلفزيون ) . فأصعد عبد الكريم و طه الشيخ أحمد دبابة لوحدهما و أصعد قاسم الجنابي و فاضل المهداوي و كنعان خليل حداد إلى مدرعة .و أتجهوا جميعا إلى دار الإذاعة و التلفزيون ثم يروي قاسم الجنابي ما حصل هناك فيقول : ( عندما وصلنا إلى دار الإذاعة ساد الحاضرين من الجنود و الضباط المحيطين بالبناية وجوم و خيم على الجو سكون الأموات ..... انزل عبد الكريم قاسم من الدبابة و استلمه بعض الضباط يتقدمهم عبد الستار عبد اللطيف و حاولوا درء الاعتداء و الاهانة عنه أما المهداوي و طه الشيخ أحمد فقد انهالت عليهم الضربات من كل حدب و صوب فجرح المهداوي برأسه , و اقتادونا إلى داخل البناية التي كان يقف في داخلها عبد السلام عارف و أحمد حسن البكر و خالد مكي الهاشمي و علي صالح السعدي , و يقف إلى جانب منهم المقدم عرفان عبد القادر وجدي و عبد الغني الراوي و عدد من الضباط القوميين .... , فوقفنا في وسطهم و هم يحيطون بنا ....... , فانبرى علي صالح السعدي مخاطبا المهداوي قائلا (( لك اشسويت )) أي ماذا فعلت فقال له المهداوي : (( لك انجب أنا أتكلم مع عبد السلام )) , فرد عليه السعدي : (( انتظر سوف أقتلك )) . ثم وجه سؤالا إلى عبد الكريم و قال : (( كانت عندنا حركة قبل اسبوعين و أخبرك بها أحد الأشخاص فمن هو هذا الشخص ؟ هل هو موجود بيننا نحن الحاضرين ؟ )) فأجاب عبد الكريم (0 لا يوجد الشخص الذي أخبرني بينكم بشرفي )) . فرد عليه السعدي (( من أين لك أن تفهم الشرف )) . فأجاب عبد الكريم (( إن لي شرف و أعتز به )) و ألح علي السعي في السؤال ثانية و ثالثة , و قال أخيرا : (0 ماذا كان يفعل عندك المقدم خالد الهاشمي عندما قابلك في وزارة الدفاع قبل اسبوعين ؟ )) . فأجاب : (( أرسلت بطلبه لأستفسر عن صحة والدته )). ثم أخذ يتحدث قائلا( ( إنني خدمت الشعب ونفذنا ثورة أنقذته من الاستعمار و هيأنا له العيش الكريم و جئنا بهذا السلاح الذي تستعملوه ضدي لكي يشهر في وجوه الأعداء ) ) وكان المقدم أحمد حسن البكر قلقا و قال لي : ( ( لماذا جلبتم هذا الشخص ؟ )) .مشيرا إلى عبد الكريم قاسم , فقلت له : (( أنا لم أعمل سوى لخدمة بلدي ) .فقال : (( اذا قف مع جماعتك حتى نرميك معهم )) . ثم توجه عبد السلام يناقش عبد الكريم محاولا أن ينتزع منه اعترافا في ذلك الظرف الحرج في أنه هو الذي كتب البيان الأول لثورة 14 تموز ؟ ) فأجابه عبد الكريم قاسم إجابة غامضة لم تنل رضا عبد السلام الذي راح يعاتبه لتركه إياه و إهماله و حبسه . ثم دخل المقدم عرفان وجدي و حردان التكريتي و سحباني من بين الجماعة و أنقذاني من الاعدام ثم أدخلاني غرفة السيطرة على التسجيل و جاءني حازم جواد ليبلغني قرار المجلس الوطني لقيادة ال(ثورة ) بإعفائي من الأعدام فشكرته و الحزب على ذلك .........و جاءني علي السعدي و عبد الستار عبد اللطيف و جلبا لي فطورا و سألني عبد الستار عبد اللطيف مستفسرا عن الشخص الذي أخبر عبد الكريم قاسم عن الحركة من إنجلترا التي زرتها للاشتراك في دورة الأركان و هل هم الملحق العسكري عبد القادر فايق ؟ فقلت له ليس لدي علم مؤكد بذلك . و الحقيقة أن الملحق العسكري بعث بتقرير خاص إلى الزعيم عبد الكريم قاسم من إنجلترا يخبره بتفاصيل الحركة و أسماء الضباط المشتركين فيها , وقد حصل على تلك المعلومات من أحد الضباط القادمين إلى إنجلترة في دورة قصيرة و لم أكن أعرف اسمه , ...........)) .
عندما أقتيد قاسم كان في كامل القيافة , جذابا و أنيقا و قد حلق ذقنه قبل ذلك في صباح 9 شباط و قد وعدوه قبل أن يستسلم بأن يسمحوا بترك العراق و لكنهم قرروا اعدامه بعد ذلك . و لم يفقد رباطة جأشه و شجاعته . و عند الساعة الواحدة و النصف من بعد ظهر يوم 9 شباط أقتيد الزعيم عبد الكريم قاسم و طه الشيخ أحمد و فاضل عباس المهداوي و كنعان خليل حداد إلى ستوديو التلفزيون و بلغوا بقرار المجلس الوطني لقيادة ال ( ثورة ) باعدامهم رميا بالرصاص و أعتبرت المناقشة التي جرت محاكمة سريعة له و للضباط الآخرين فرفضوا وضع عصابة على عيونهم . و يدعي العقيد عبد الغني الراوي أنه هو الذي أصدر الحكم باعتباره قد عين رئيسا للمحكمة من قبل المجلس الوطني لقيادة ال (ثورة ) و فبلغهم به . فتقدم لقتلهم الرئيس مهدي حميد و الرئيس عبد الحق و عبد الغني الراوي , فوجهوا نيران أسلحتهم الأوتوماتيكية إلى صدورهم فماتوا في اللحظة . ثم صدر بيان نقلته الإذاعة العراقية أعلن فيه نهاية عدو الشعب عبد الكريم قاسم .و عرضت جثثهم ى شاشة التلفزيون في العراق ......... )) .
جانب آخر من قصة الساعات الأخيرة من حياة عبد الكريم قاسم رواه الاستاذ عبد الستار الدوري أحد أعضاء ألقيادة القطرية لحزب البعث في ذلك الوقت لإسماعيل العارف مؤلف كتاب أسرار ثورة 14 تموز و تأسيس الجمهورية في العراق , وكان مع أول جماعة احتلت مرسلات الإذاعة في أبو غريب و عين مديرا عاما للإذاعة و التلفزيون بعد نجاح الانقلاب . يقول الدوري : (( اتصل الزعيم عبد الكريم قاسم مساء يوم الجمعة 8 شباط بعبد السلام عارف عندما كنا في محطة إذاعة الصالحية في جانب الكرخ من بغداد , وطرح عليه إيقاف القتال وسفك الدماء , إلا أن عبد السلام أجابه أن المجلس الوطني لقيادة ( الثورة ) قرر أن يستسلم دون قيد أو شرط و أن يأتي إلى مبنى الإذاعة, و يبدو أنه اتصل بعدما اذيع تشكيل الوزارة و تعيين عبد السلام رئيسا للجمهورية , ثم أطبق سماعة الهاتف و بين الساعة الثامنة و التاسعة وصل يونس الطائي صاحب جريدة (( الثورة ))إلى العقيد طاهر يحيى في معسكر الرشيد موفدا من عبد الكريم قاسم , وبعد مقابلته أخبره طاهر يحيى أن ليس لديه أية سلطة في القرار .فجاء يونس الطائي إلى مبنى الإذاعة و تكلم مع عبد السلام عارف حول حل النزاع سلميا فأجابه أن الامور انتهت و أن المجلس الوطني لقيادة الثورة قرر أن يستسلم عبد الكريم دون قيد أو شرط . فترك يونس دار الإذاعة وعاد إلى وزارة الدفاع . وبعد فترة قصيرة رجع يحمل اقتراحا من الزعيم عبد الكريم قاسم بالسماح له بترك العراق و إنهاء القتال . وردا على الحاح يونس الطائي الشديد أصدر علي صالح السعدي أمرا بأعتقاله . وفي ساعة متأخرة من ليلة 8- 9 شباط اتصل قاسم ثانية بعبد السلام و قال له : (( هل تقبل أن افطر على جرعة ماء إنني أريد انهاء القتال و إيقاف ازهاق الأرواح البشرية و ترك العراق )) . إلا أن عبد السلام رفض طلبه بخشونة و جفاء و طلب منه ان يخرج من مكانه بالملابس الداخلية وبلا رتب عسكرية واضعا يديه على رأسه علامة الاستسلام فرفض عبد الكريم ذلك . و في صباح 9 شباط اتصل عبد الكريم للمرة الثالثة بعد أن هرب عد كبير من جنود حماية وزارة الدفاع و تخلى رئيس أركان الجيش أحمد صالح العبدي عنه , و بدأ يتنقل مع الضباط المرافقين له من بناية إلى أخرى في وزارة الدفاع , فوافق على الاستسلام عند الساعة الحادية عشرة طالبا أن يستقبله في مدخل الإذاعة المقدم الركن عبد الستار عبد اللطيف فدخلت القطعات التي كانت تحاصر وزارة الدفاع إلى قاعة الشعب التي انتقل إليها مساء يوم 8شباط و اقتيد هو و طه الشيخ أحمد في دبابة إلى دار الإذاعة بجانب الكرخ ووضع مرافقه المقدم قاسم الجنابي و العقيد فاضل عباس المهداوي و الملازم كنعان خليل حداد في مدرعة و جيء بهم إلى دار الإذاعة في الصالحية , فاستقبله عبد الستار عبد اللطيف و لم يدع أحد يعتدي عليه و ادخله من الباب الخارجي . وفي تلك الأثناء هجم بعض الجنود على المهداوي و أشبعوه ضربا فجرح في رأسه )) .
عندما دخل عبد الكريم قاسم تطلع في وجوه الحاضرين فردا فردا فشحن الجو بهستيريا عاطفية , فصاح بعض الضباط الحاضرين : (( أين رفعت ؟ ... أين ناظم ؟ )) .... ألخ . وهنا تكلم عبد الكريم قاسم و قال : (( إنني خدمت الشعب و بنيت لهم دورا و ساعدت الفقراء و شكلت محاكم دستورية حاكمت الجماعة )) . ثم احتدم جدل بينه و بين الضباط دام أكثر من خمسة و أربعين دقيقة و بعدئذ تناول الحديث عبد السلام عارف فخاطب عبد الكريم قاسم قائلا : (( كريم .. من الذي كتب البيان الأول لثورة 14 تموز )) فقال له : (( نحن كتبناه )) . ثم سأله : (( ألم أعطك هذا المسدس و قلت لك غدا ستنجح الثورة ؟ )) . ثم التفت إلى طه الشيخ أحمد و قال له : (( طه أنا و كريم خبز وملح . نزعل و نرضى و بيناتنا علاقة حميمة و لكن ما الذي بيني و بينك و لماذا أظهرت هذا الحقد علي ؟ )9 ثم صفعه على ووجهه بقوة وقال له : (( يهودي إبن اليهودي )) . ثم انسحب أعضاء المجلس بعد ذلك الجدل و اجتمعوا في الغرفة المجاورة و عادوا بعد خمس دقائق فنطق بقرارهم العقيد عبد الغني الراوي و قال : (( قرر المجلس الوطني لقيادة ( الثورة ) تنفيذ حكم الاعدام بعبد الكريم قاسم و فاضل عباس المهداوي و طه الشيخ أحمد و كنعان خليل حداد و قاسم الجنابي )) و قبل لحظات من تنفيذ حكم الأعدام تقدم المقدم الركن حردان التكريتي و سحب قاسم الجنابي من بينهم قائلا : (( لماذا يعدم هذا و ليس له دخل في شيء ؟ )) . فأجلسوا على كراسي الموسيقيين و نفذ بهم الاعدام رميا بالرصاص و لم يوافقوا على ربط أعينهم و قام باطلاق الرصاص عليهم الرئيس منعم حميد و الرئيس عبد الحق و عبد الغني الراوي .
و كان عبد الكريم قاسم رابط الجأش متماسكا لم يفقد اعصابه و تكلم بثقة و بقي محافظا على هدوئه حتى آخر لحظة من حياته . أما المهداوي فقد انهار و صاح : (( أنا صار لي سنة لم أر هذا )) و اشار إلى عبد الكريم قاسم .
يروي الاستاذ عبد الستار الدوري بعض تفاصيل الانقلاب فيقول : (( سيطرنا على مرسلات إذاعة أبو غريب حوالي الساعة الثامنة صباح 8 شباط أو قبل الثامنة بقليل و لم نجد فيها أحد . و قد احتلها عبد الستار عبد اللطيف و حازم جواد و طاب شبيب . واذاع البيان الأول لحركة 8 شباط حازم جواد ثم تولى مذيعون آخرون إذاعة البيانات اللاحقة . و قد أذعنا بيانات كاذبة بأسماء قادة و آمرين من كركوك و الحبانية وغيرها تأييد لحركة و هم لا يعلمون . ...... )) .
إستمرت المقاومة في أماكن متفرقة من بغداد و البصرة . ففي الكاظمية دامت حتى مساء يوم 9 شباط و كذلك في عقد الأكراد بمنطقة باب الشيخ قاد المقاومة أعضاء الحزب الشيوعي و مؤيدوه . و إنتهت أطول مقاومة مساء يوم 12 شباط قرب ميناء البصرة . وقد ساعد البيان الذي أصدره الحاكم العسكري العام رشيد مصلح على ابادة المقاومة بسرعة عندما خول الشرطة و آمري القطعات العسكرية و الحرس القومي بقتل كل من يعتقدون أنه يعكر صفو الأمن .
قدرت الخسائر البشرية التي وقعت بعدد يتراوح بين 500 – 1500 قتيل بمن فيهم الجنود و أفراد الشعب . وقد قدرت خسائر الشيوعيين ب 340 قتيلا , وقد القي القبض على عدد كبير من الشيوعيين و المؤيدين لعبد الكريم قاسم و فق قوائم أعدت سلفا بدقة . و قد أشيع أن إذاعة سرية خاصة كانت توجه الأجهزة الجديدة و تدلهم على أماكن و عناوين الأشخاص المعادين .
نقلت جثة عبد الكريم قاسم في سيارة عسكرية في منتصف ليلة 9-10 شباط إلى منطقة معامل الطابوق الواقعة بين بغداد و بعقوبة . ودفن في حفرة بملابسه العسكرية التي قتل فيها , وقد أختيرت الحفرة في مكان بعيد عن رصد الناس ثم وارت المفرزة الجثة , و أخفت جميع المعالم التي تدل على قبره. لكن بعض العمال الذين كانوا يسكنون حول معامل الطابوق و ممن يحبون عبد الكريم قاسم حتى العبادة شاهد ما جرى . فعندما ابتعدت المفرزة العسكرية , تسلل بعضهم إلى المنطقة التي دفن فيها فاستخرجوا لجثة من الحفرة و حملوها على أكتافهم إلى مكان يقع بين المجمعات السكنية للعمال , فحفروا لها قبرا جديدا دفنوا الجثة فيه . و سرعان ما سرى الخبر بين الناس و تسرب إلى أجهزة الأمن التي داهمت دور العمال و ألقت القبض على المتهمين الذين تعرضوا لعقوبات صارمة . ثم قام رجال الأمن باستخراج الجثة بحراسة قلة من الجيش و وضعوها في كيس من الجنفاص أثقل بكتل من الحديد الصلب . و في المساء ألقيت الجثة من على جسر نهر ديالى الذي يصل بغداد بسلمان باك لتكون طعاما للأسماك .
مصدر البحث :أسرار ثورة 14 تموز لمؤلفه إسماعيل العارف
#وصفي_احمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟