|
رجل من الشمال / قصة قصيرة
مراد سليمان علو
شاعر وكاتب
(Murad Hakrash)
الحوار المتمدن-العدد: 3176 - 2010 / 11 / 5 - 23:56
المحور:
الادب والفن
كان الرجل مستمتعا بحّمامه الساخن بينما تعّدُ والدته طعام العشاء المكون من شوربة الخضار والخبز المحمص عندما سمع صوت ثلاث أطلاقات نارية متتالية ، فأدرك على الفور إنها الإشارة المتفق عليها للتسلل من القرية في الحال . خرج من الحمّام على عجل مرتديا كل الثياب الثقيلــــة التي وقعت عليه عيناه . سيعود للجبل ثانية ، وهو الذي وصل توا والآن عليه الرجوع دون أثــارة أية جلبة ويجب أن يسلك دربا مختلفا كما تقتضي التعليمات فقد ترك هو ورفاقه آثارا يسهل تتبعها ورصدها عندما سمح لهم بزيارة القرية وجلب بعض المؤن الضرورية وكان يمني النفس بأخذ حمّام ساخن وتناول وجبة بيتيه شهية من أعداد أمه والنوم ولو لليلة في فراش وثير ، ولكــــــن لم يسير الأمر كما كان مخططا له فعليهم الخروج من القرية والنجاة بأنفسهم وهذا هو الأهم لأن إنذار الرصاصات الثلاث يعني إن أمرا جللا سيقع . نظرت إليه والدته متسائلة ( والعشاء ...؟) وكانت تعلم تماما انه لن يبقى للعشاء . (سآخذ معي بعض قطع الخبز.) قال هذا وهو على يقين بان والدته أيضا لن تأكل هذه الليلة . لفّ الرجل بعض الخبز بمنديل اصفر ودسّه في صدره تحت سترته وتناول ( البرنو ) من يد والدته بعد أن قبّل يدها وهي تدعوا له بالسلامة وتنظر إليه بعيون قلقة أذهب بريقها السنون وفراق الأحبة . في الخارج ورغم سواد الليل بدا كل شيء ناصع البياض . ثلوج متراكمة على مدّ البصر ولكن ما أن اجتاز عتبة الباب حتى فاجأه هواء بارد وقوي . لم يكن ليبالي بالظلمة ومشقة الطريق إلا إن مشكلته تكمن في أخذه حمّاما ساخنا قبل قليل فقد تؤدي الرحلة هذه المرة إلى موته .! أجل فطاقة الإنسان محدودة في تحمّل البرد . يجب أن يحسب له المرء ألف حساب ، ولا يكفي أن تكون من الشمال لتواجه البرد فهو يلتصق بالجلد الرطب ويعضّ وكأنه مخلوق حيّ فيشلُ الإحساس باللمس أولا ثُم بالوخز وبعدها يتسلل الخدر إلى الأطراف يصاحبه فقدان للشعور والسقوط دون حرا ك . أسرع الرجل فهو لا يزال شابا وقويا ، وسيلتقي بعد ساعات برفاقه فما عليه إلا الوصول إلى الممر الضيق لأخذ قسط من الراحة وبعد ذلك الصعود للجبل ثم الدخول في أحد الكهوف وسيكون حينئذ نار وطعام إما ألان فلديه الكثير من الخبز الذي سيمدّه بالطاقة اللازمة للوصول إلى الممر كان الجو باردا بصورة لم يتوقعها . سار بين شجر البلوط الكثيف قرابة النصف ساعة واجتاز رابية صغيرة كانت على يمينه دون أن يرى أثرا لقدم إنسان فلم يزعجه ذلك فهو يعرف المكان جيدا وبإمكانه أن يصل رغم ما يبذله من جهد كبير للسير وللتنفس وكذلك لم تزعجه وحدتــــــه وحتى لو كان برفقته شخص آخر لما استطاع التحدث إليه فهو يتنفس صعوبة إضافة إلى إن أية إشارة غير مألوفة خطر على حياته وعلى القرية ولهذا كان الرجل يسرع . توقف ليلتقط أنفاسه وهو يحسّ هذه المرة ببرد لم يشعر بمثله في حياته حيث لم يجرب يوما الخروج من الحمّام إلى دنيا الثلوج مباشرة ، وبدأ يساوره بعض القلق فالطبيعة حقا مخيفة . الأشجار التي تبدو وكأنها كائنات خرافية سوداء . الثلوج . الهواء الذي تحول إلى ريح وهو يصفر . الوحدة وحلكة الليل . كل هذا بدأ يؤثر فيه . (لو أوقد نارا) . تناول بعض الخبز ثم طرد فكرة إشعال النار من باله واستأنف السير ساعة أخرى تحامل على نفسه .فرك يديه ثم ضربهما على فخذيه بقوة .توقف ثانية . قفز عدة مرات حتى استعاد شعورا ضئيلا بالدفء يسري في أطرافه أما انفه فلم يعد يشعر به . جرّب الركض بخطوات قصيرة هذه المرة . المهم الوصول إلى المكان المنشود إلى الكهوف العصية حتى على الذئاب لابد إنهم قد أشعلوا نارا الآن ويعدوّن شايا ساخنا ويتلذذ ( مام مولود ) كعادته بالتدخين ، وهو يفكر بكل هذا أدهشته المسافة التي قطعها ثم بدأت تسيطر على عقله فكرة غريبة ماذا لو كان الأمر كله مجرد مزاح الطلقات النارية وخروجه من البيت دون عشاء ومعاناته في الطريق . أن الآخرين بلا شك يغطون الآن في نوم عميق في فراش دافئ وبمعدة ممتلئة
وشعور بالرضا بعد أن سخروا منه . تصارعت الفكرة مع عقله وأخيرا نبذها فلو كانت مزحة من احدهم لنادوه وهم يضحكون حتى قبل أن يصل أشجار البلوط وكان هو نفسه كان سيضحك ويرجع إلى البيت يصطلي نار الموقد . كلا ليست مزحة من احد وان ما يفعله الآن هو الصواب ، ولاشك إن الآخرين قد فعلوا الشيء ذاته للحيلولة دون الوقوع في الكمائن المعدّة من قبل الجيش . جلس ثانية لنيل قسط من الراحة وضع بندقيته على فخذيه أصبحت ثقيلة وهي تعيقه الآن نظر للوراء لاشيء سوى آثار أقدامه خارت قواه ولا تزال معركته مع البرد مستمرة وبعد استراحة قصيرة انتظم تنفسه وتشجّع على تسلق الرابية على قمة التلة الكبيرة وخلفها مباشرة يقع الممر إلى الجبل . الفجر على وشك الانبلاج . جلس على قمة الرابية وهو يحسّ بتعب وإعياء شديدين . أخذ أنفاسا متلاحقة . التفت للوراء . اتسعت حدقتا عينيه وهو لا يصدق ما يراه لقد فعلوها ثانية . احرقوا القرية . احرقوها من جديد نهض وكل جسمه يرتجف . اخذ نفسا عميقا . رفع رأسه ، والآن بوسعه أن يرى قمة الجبل وسار بخطى ثابتة وفي مخيلته آلاف الصور وحلم واحد .
#مراد_سليمان_علو (هاشتاغ)
Murad_Hakrash#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غدا ساحزن
-
نشيد الجوع / قصة قصيرة
-
يوميات مهاجر
-
قصة قصيرة
المزيد.....
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
-
الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر
...
-
حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60
...
-
محاضرة في جامعة القدس للبروفيسور رياض إغبارية حول الموسيقى و
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|