|
تديين السياسة أم تسييس الدين ( 5 ) - آيات حسب الطلب .
سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3136 - 2010 / 9 / 26 - 03:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
فى سلسلة مقالات " تديين السياسة أم تسييس الدين " نحاول أن نؤكد ونوثق لرؤية محددة وهى أن فكر السياسى ورغباته ومخططاته سبقت النص ... و بمعنى أدق أن السياسى هو من شَكل وأبدع النص الذى طوعه لخدمة مشروعه السياسى وأهدافه السلطوية . الكثيرون يعتقدون أن الدين على مر العصور تم تطويعه لخدمة مصالح سياسية وأهداف طبقية ونخبوية ولم يتورع كل الطغاة والمستبدون فى إستثمار المعتقد ورجاله من شيوخ وكهنه فى إطفاء هالات من الإحترام والتوقيرعلى نظم حكمهم , بل تم إخضاع جموع الشعب لسلطتهم من خلال تسويق فكرة أنهم آلهة أو أبناء الآلهة أو ظل الله على الأرض و فى أفضل الأحوال خلفاء ووكلاء له تم إستخلافهم لحكم الناس . رؤية إستغلال الدين لمصالح سياسية لتأكيدها وتوطيدها صحيحة ولا نعارضها فالتاريخ شاهد على مئات النماذج التى طوعت الدين بمنظومته لخدمة الحاكم والطبقة السياسية الحاكمة . ولكن قضيتنا تؤطر لتؤكد رؤية محددة وهى أن الدين والمعتقد فى منشأه وبداياته جاء على يد السياسى الذى هو النبى فى الفكر الدينى ..والذى يحمل مشروعا ً سلطويا ً سياسيا ً وقد تصل الأمور لتبنى مشروعا ً قوميا ً يجسد آمال أمة ويكون السياسى ( النبى ) هو المُخَول بتحقيق أحلام وإرهاصات حالة إجتماعية تتوسم وتلح على الصعود . هنا النبى يستخدم الأدوات التى يملكها فى التأثير والترويج لمشروعه السياسى وهو الإدعاء بالإتصال بالسماء وإبداع النص الذى يؤسس لفكره ويحقق مصالحه وسط مجتمع يجد فى الإتصال بالسماء هى الوسيلة المُثلى للتأثر والخضوع . لا يجب أن نلوم هذا المجتمع بتعامله مع قضاياه السياسية والإجتماعية من خلال منظور السماء ..ولا إبداع النبى للنصوص كميديا تروج لمشروعه ..فهكذا كان الوعى البشرى بقلة معارفه فى البحث والتحليل .. ولا نجد غرابة فى ذلك عندما نرى الأحفاد مازالوا يتعاطون بنفس المنهجية فى التعامل مع قضاياهم المعاصرة .
الاديان هى مشاريع سلطوية وسياسية وقومية تعبر عن حالة موضوعية لجماعة بشرية ونخبوية محددة رسمت أحلامها ورغباتها ولم تتورع النُخب أن تصيغ نصوص دينية وتسطرها لتحقق مشروعها وتؤكده وتجعل له حضور وقوة بإعتباره رغبات ورؤى إلهية .
من هذا السياق سنؤكد هذه الرؤية من خلال تناول آيتين بالقرآن تعنى بالسلام والعلاقة مع الآخر فى زمن الحرب لتبين لنا بوضوح أن السياسى لا يتوانى عن تسطير موقفه السياسى من خلال النص وفقا ً لمرحلته وظرفه السياسى الموضوعى .
فآية " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " من سورة الأنفال 61 ..ذات معنى واضح الدلالة ولكنها تصطدم بآية أخرى من سورة محمد " { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون } (محمد:35) لتنسف الآية الأولى وتقوض أركانها .
الآية الأولى من سورة الأنفال " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا " تعنى الجنوح والميل للسلام بدون شروط ..أى أن تجنح للسلم وأنت فى كل حالاتك سواء أكنت فى حالة من القوة أو الضعف أو التكافؤ..بينما آية سورة محمد " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون " واضحة المعانى والدلالات أيضا ً برفض التعاطى مع السلم فى حالة القوة والمنعة للمسلمين .
إذا تعاطينا مع الآية الثانية وهو عدم الدعوة للسلم فى حالة القوة فستكون الآية الأولى " وإن جنحوا " ليس لها مكان من الإعراب وفاقدة لأى قيمة ...مما يوقعها فى إشكاليات كثيرة عن جدواها ولماذا أنزلها الله .
علماء المسلمين أحسوا بهذا التناقض لذا جاءت شروحهم تتفق مع ما نريد أن نرسله فى أن الظرف السياسى فرض النص ولكن هم حاولوا أن يخرجوا من مأزق التناقض النصى بتسويق فكرة نسخ الآية الأولى ..أى فقدها للحكم وإبطال المفعول .!!
فابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة والحسن البصري وجمع من التابعين يرون أن آية " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " منسوخة بالآيات الآمرة بجهاد الكفار وقتالهم، كقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } (التوبة:29)، وقوله : { وقاتلوا المشركين كافة } (التوبة:36)، وغيرها من الآيات الداعية إلى قتال أهل الكفر والعناد.
كان هذا السبيل للخروج من هذه الأزمة أن تُنسخ آية الجنوح للسلم وتفقد حكمها لتبقى آية " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون " باقية وحاضرة ..ولتفتح معها إشكالية الناسخ والمنسوخ وهذا التردد الإلهى . بالفعل هى إشكالية كبرى عندما نجد حكم إلهى يتم إلغاءه ويُشطب بسهولة وفى غضون عدة أعوام لا تتجاوز أصابع اليدين ..لتسأل هل يعلم الله أم لا ؟! ..وما معنى نزول الآية طالما الله يعلم أنها سيتم إلغاءها بعد قليل ..وهل كلام الله يتم شطبه هكذا قبل أن يجف الحبر الذى فيه ..أليس الكلام الإلهى هو منهج حياة فأى الآيتين نتبع ..وهل عند الله حالة من حالات التطور تعتريه فينتقل من أية لآية أخرى أكثر تطورا ً فهذا سينتقص هذا من كماله بالضرورة !.. كما سيجعلنا نطرح أيضا ً فكرة أننا فى إنتظار آيات أخرى يطلبها ظرف راهن مغاير .!
لسنا بصدد التعامل مع النقد الدينى وفقا ً لتناقضاته الغير منطقية ولا بالآيات من خلال تناقضها فلو كنا نتصور أنها رسائل تم إلقاءها من السماء فيكون لدينا حينها علامات تعجب وإستنكار..فلا نصوص تم إلقاءها من السماء ولا توجد سماء من الأساس تلقى نصوص وإنما هى أفكار وإبداعات بشرية جاءت ملبية لإحتياجات وظرف سياسى وإجتماعى موضوعى .
يمكن أن نحرر النصوص من حرجها وإشكالياتها لو تناولناها من خلال بشريتها , فحينها لن نجد تناقض على الإطلاق فنحن أمام حالة سياسية مُحددة تطلب الميل للسلام لظروف ضعف ووهن وعدم القدرة على المواجهة , بل ستكون عواقبها وخيمة على الدولة الوليدة إذا إنجرفت فى مشروع مواجهة وتنحت عن السلام . فظرف نشوء نص " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " خاص بحالة سياسية موضوعية عندما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين نبى الإسلام تسع سنين فأجابهم إلى ذلك ومع ما اشترطوا عليه من الشروط الأخرى ... لذلك كتب السياسى هذا النص لتمرير وتوثيق هذا الحدث بل وتجرعه أيضا ً .
أما فى الآية الثانية " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون " فقد تمت صياغتها فى فى حالة من القوة والسيادة لتأتى فى سياق موقف سياسى يرى فيه السياسى أن الجنوح للسلم فى حالة القوة والسيطرة التى تعتريه هى خسارة له فهو يُمكن أن يحصد الكثير من المكاسب فى إستمراره لمشروعه الحربى وعدم توقفه .
لو حاولنا أن نختار أى الآيتين أفضل وأرقى سنجد الآية الأولى أكثر تقدما ً من الثانية ..فالأولى تحث على القبول بالسلم بينما الثانية لا تدعو له فى حالة القوة والهيمنة ..ولتسأل نفسك أين معنى وقيمة السلام هنا إذا كان مرفوضا ً فى حالة القوة ؟! وألا يعنى هذا طلب الإستسلام ..ثم أين النبل والفروسية العربية الجميلة التى صدعونا بها وهى القدرة على العفو والتسامح عند المقدرة .؟! بالطبع لسنا بصدد تقييم موقف اخلاقى من هذه الرؤية والتى أيدتها شروحات علماء المسلمين والذين يرون أن لا معنى للسلام مع الآخر المتمثل فى الكافروالمشرك وأهل الكتاب طالما المسلمون فى حالة من القوة والهيمنة بينما السلم يكون مقبولا ً على مضض فى حالة ضعف وهوان المسلمين . فنحن بالفعل أمام موقف سياسى يتكأ على المصلحة وإنتهاز الفرص المناسبة وتحركه حسابات المكسب والخسارة شأنه شان أى موقف سياسى , و لسنا بصدد أخلاق ومنهج تم تصديره من السماء كما يدعون ..ولكن تكمن الخطورة فى إعتبار المؤمنين أنها شرائع سماوية و منهج فى الحياة ليظل فكر ومنهج إنسان سياسى قديم فاعلا ً وحاضرا ً على الواقع بكل قوة .
نحن أمام أمور لا تدعو للشك بأننا أمام فكر سياسى مُحنك يُشكل النص وفقا ً لموقفه السياسى بكل توازناته .. ولا يتورع أن يعدل من موقفه إلى حالة سياسية مغايرة فلا يجد أى غضاضة فى إضافة نص جديد يؤكد موقفه الجديد حتى لو تناقض مع موقف ونص قديم .
السياسى هو الأصل ..وهو الذى يُبدع النص ويٌسطره و يُشكل كل حروفه وفقا ً لرؤيته وموقفه السياسى ولن يتوانى أن يستخدم فكرة جبرائيل فى هذا الصدد .
دمتم بخير .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 9 ) .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 15 ) - كيف تكون مزدوجا ً فاقدا
...
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 8 ) - لن نرى حضارة طا
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 9 ) - فوبيا الآخر والشيطان ..إ
...
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 7 ) .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 14 ) - كيف تكون متبلدا ً و مست
...
-
نحن نخلق الأسطورة والميثولوجيا والحلال والحرام ويمكن أن نسرق
...
-
تأملات فى الإنسان والإله والتراث ( 4 ) - وهم الخطيئة والذنب
...
-
تأملات فى الإنسان والإله والتراث ( 3 ) - هل يوجد شر ؟!
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 13 ) - إنهم يشوهون الطفولة ويم
...
-
نحن نخلق الأسطورة والميثولوجيا والحلال والحرام ويمكن أن نسرق
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 8 ) - إستحضار العنف الكامن وتف
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 7 ) - ما بين وطأة الموت وما بي
...
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 12 ) - الأم ماتت والجنين مات و
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 6 ) - إشكاليات الفكر الدينى وك
...
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 6 )
-
تأملات فى الإنسان والإله والتراث ( 2 ) - زهور الله المقطوفة
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 5 ) - الرضاعة الحسية والشعورية
...
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 11 ) - نحن نزرع الشوك والمُر و
...
-
نحن نخلق آلهتنا ( 9 ) - الله يكون حافظا ً وعليما ً وعادلا ً
...
المزيد.....
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
-
“فرحة أطفالنا مضمونة” ثبت الآن أحدث تردد لقناة الأطفال طيور
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|