|
من المسجد إلى الكنيسة
جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3019 - 2010 / 5 / 30 - 23:48
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يستطيع أي شيخ أو ابسط شيخ أن يدحض نظرية هندسة الجينات بأي حديث أو آية وخلص انتهى الموضوع, ويستطيع أي رجل دخل المسجد لمرة أو مرتين أن يثبت أصل العالم ومن أين وجد دون أن يعود إلى العصر الطباشيري أو المفصليات , فالمفصليات أقدم من وجود الإنسان وآخر شيء ظهر على وجه الوجود هو الإنسان نفسه ولكن المسجد يدحض هذه النظرية بجرة قلم أو بأي حديث , وكثيراً ما أسمع الخطب التي تتحدث عن كبرى النظريات العلمية بكل سهولة ويسر دون الرجوع إلى مصدر علمي واحد.
وسمعتُ مرة من شيخ ثقة بين الناس يتحدث عن نظرية النشوء والارتقاء وأصل الأجناس على النحو التالي: قال: "يقول اللعين الملحد الكافر الشيوعي الحاقد الليبرالي الصهيوني داروين إذا أحضرنا قميصا ووضعناه في خزانة يصبح بعد أشهر فأراً فكيف بالله عليكم تؤمنون بهذا المجنون " علماً أنه لا يستطيع أن يتحدث في قسم الأحياء بأي جامعة بهذه الطريقة , وهل سمعتم أنتم محاضرة دينية في كنيسة تقول مثل هذا الكلام ؟, طبعا لا, لأن الكنيسة تطورت حتى نظرية أعطي ما لقيصر لقيصر تطورت إلى نظرية أعطي الخُبز لخبازه , فلا تتدخل الكنيسة بمثل تلك المواضيع ولا تهتم إلا بجعل الإنسان فردا مستقلاً بين جماعة في رأيه وحياته وطريقة معيشته.
وهذه الإشكاليات انتهت في الكنيسة ولم تعد موضع اهتمام لأن البحث العلمي هو صاحب الرأي الأول والأخير بينما في المسجد الشيخ هو صاحب الرأي الأول والأخير سواء أقبل العلمُ بذلك أم رفض وما زال المسجد الذي في قريتنا يحتفظ بنسخته الأصلية غير القابلة للتخطيط الجديد وهي مأخوذة ومنقولة عن كافة النسخ الموجودة في كافة أقطار الدول العربية والعالم كله وأهم دعاية به أن رفاهية الإنسان واستجابته للتقنيات الاجتماعية الحديثة ترفاً يحاسب الإنسان عليه يوم القيامة وليس للإنسان حرية الاختيار في شيء قد كتبه الله عليه وبهذا يخرج الإنسان عن الصيغة الحديثة للإنسان المعاصر بحيث ما زال الإنسان في خدمة النظريات القديمة وأهمها الطبيعة والهدف من وجود الإنسان وخلقه , في حين تشكل الحياة العصرية للإنسان المعاصر شيئا مهما بحيث تنصبُ جميع الاهتمامات والمخترعات في خدمة الإنسان بصرف النظر عن الرؤيا القديمة للإنسان فالمجتمع الصناعي الحديث لا تشكل به الثقافة الواحدة خطا مستقيما لنمو الإنسان المعاصر وإنما الثقافات المتعددة والأمزجة المتعددة وكل إنسان حر باختياره للثقافة التي تناسبه .
والمسجد غير متسامح مع الإنسان الديمقراطي أو مع الإنسان الذي يدعو للأفكار الجديدة وأهم شيء في الإنسان المعاصر أن دعوته للحياة العصرية ليست جماعية وليست للناس كافة فلا يوجد اليوم إنسان له رسالة يبلغها للناس كافة بل إلى مجموعة محددة من الناس تتلاءم طبيعتهم مع طبيعته ووجهات نظرهم في الحياة مثل وجهة نظره وهذا ما يحدث داخل الكنيسة اليوم والطوائف المتعددة حيث كل طائفة لها رسالتها الخاصة بتا ولا تتدخل برسائل الآخرين أما بالنسبة للمسجد فما زال يحاول إرسال رسالته إلى الناس كافة وهذا هو البون الشاسع بين الكنيسة والمسجد , فالكنيسة الحديثة تهتم بنشأة الطوائف المتعددة والتعايش مع كل الطوائف بينما في المسجد هنالك طائفة واحدة وبهذا يصبح السكان المحيطون في السجد ذا طبيعة واحدة ومتجانسة وغير مسموح الخروج عن نطاق تلك الجماعة لذلك لا تنصبُ اهتمامات المسجد بالإنسان من حيث أن له الحق في أن يحيا حياة فردية مستقلا عن الوحدة السكانية التي يعيش فيها بل عليه أن يتواءم مع الشكل الذي قد ولد ونشأ به.
كانت نظرية داروين عن النشوء والارتقاء (1809-1882) آخر معركة مع الأشكال القديمة للكنيسة, وآمنت الكنيسة بالإنسان وحده سواء أكان مصدره من أشياء ممعنة في القدم أو من أبوين خلقهما الرب وهنا نظرة المسجد إلى هذه النشأة نظرة أوحادية غير مسموح طرحها وأهم شيء هو إيمان الجميع بنظرية واحدة عن أصل الإنسان ومنشأه وبهذا لا تتحول اهتمامات المسجد بالإنسان المعاصر والتقني بل بالإنسان القديم ,وسواء ذاك أو ذاك في الكنيسة يبقى الإنسان وحريته وفرديته شيئاً مهما جدا ,بحيث أصبحت التخصصات العلمية الدقيقة والبحث العلمي في خدمة الإنسان أهم بكثير مما يقوله رجل الدين العادي, أما في المسجد فإن النظريات والبحوث العلمية يجب أن تتطابق شاءت أم أبت مع الشكل القديم للمسجد ورجاله وشيوخه , وبهذا كسبت الكنيسة شعبية غير محدودة بعد تطورها وخسر المسجد شعبية البحث العلمي والشاهد على ذلك المد المسيحي الأخير في أفريقيا وبعض الدول العربية , ولم يعد الدين بذلك يعتمد على أصول السكان وغير مرتبط بالجماعات الإثنية بل أصبح فرديا واختيارياً وبظهور المجتمع الصناعي ظهر شكلٌ آخر للكنيسة ومن أهم انجازات المسيحية الحديثة أنها جعلت الإنسان محور البحث والاهتمام ويجب أن تتحول كل التطورات الحديثة إلى خدمة الإنسان لوحده بعيدا عن أي عوائق وبذلك لم يسجل بعد نشوء الكنيسة الحديثة أي معركة مع العلم والعقل بل أصبحت المعارك بين العلماء وطبيعة البحث العلمي نفسه وبهذا تدحض النظريات العلمية بعضها بعضا بعيدا عن لغة القمع والجلد والحرق وقطع الرؤوس, حتى أن كبرى الأحزاب السياسية كانت تذهب إلى الجامعات لمناقشة وطرح رؤيتها الفكرية والاقتصادية وهنالك كان أي حزب يثبت وجوده أو عدمه.
أما بالنسبة للمسجد فما زال قائماً على قدمه وما زالت نظرية النشوء والارتقاء وغيرها الكثير من النظريات لا تقبلُ لا البحث ولا المجادلة وإنما القمع والجلد , وبدل أن يذهب أمناء الأحزاب إلى الجامعات لطرح أفكارهم كانوا على عكس كل ذلك بحيث تذهب الجامعة إلى الحزب لتصفق له وتطبل وتزمر دون عرض أي مسألة للنقاش الفكري العام.
والمسجد أيضا على صورته يرفض التخطيط للرفاهية واعتبار الإنسان كائن يجب أن يتمتع بظروف المجتمعات الصناعية الحديثة ولا يعتبر الإنسان نقطة انطلاق بل تعتبر النظريات القديمة هي نقطة الانطلاق التي يجب على المسلم أن يلتزم بتا بصرف النظر عن رغبة الملحة والشديدة العصرنة ومواكبة التطور والتقدم , وبهذا لا ينتمي المسجد إلى لغة العصر الحديث وكلما حضر رجل دين متفتح ومتطور يريد التطوير يسقطه رجال الدين القُدامى. وروى لي صديقي الدكتور سالم النجار قصة عن قردين وضعت لهم مجموعة قرود طعاماً على عمود مرتفع في وسط دائرة وطلبوا من القرد أن يتسلق العمود لينال الطعام الذي فوقه فقام القرد الذي تحته بإعاقة حركته وإسقاطه ومن ثم جاء قرد ثالث ليحاول مجددا فانضم القرد القديم الذي فشل في التسلق إلى جانب القرد الجديد وأعاق مسيرته , ومن ثم حضر قرد رابع وخامس وكلما حضر قرد جديد وسقط كلما ساهم هذا الساقط بإسقاط الذين من بعده وذلك لمجرد أنه اعتاد على السقوط ولأن الذين من قبله أسقطوه.
وفكرنا العربي غير مستمده مادته من التطوير لذلك أي فكر عند العرب غير قابل للتطوير ولو نظرنا للبعث أو للقومية والأفكار المتصلة بالقومية فإننا نلاحظ أنها ما زالت غير قابلة للتطور ولا للتحديث حتى البيروقراط غير قابل للتحديث والليبراليون العرب غير قابلين للتحديث وكل شيء فكري معنوي غير قابل للتطوير وللتحديث وبهذا فالفجوة كبيرة بين المسجد والكنيسة وهنالك تباعد عصور فيما بينهم في طرائق التفكير فلم يتخلى المسجد عن شكله القديم ولم يسمح للتطوير في رجاله أو أركانه الفكرية القديمة . ومن المسجد إلى الكنيسة مسافة بعيدة تقاس بتطور الإنسان وحده.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لم أفكر بذلك
-
العنف ضد الآخر
-
أعياد ميلاد الزعماء العرب
-
أنا على دين المحبة والمساواة
-
الحرية الجنسية تنمية مستدامة
-
المرأة المُستعمَلة
-
لماذا أحب وفاء سلطان وتحبني
-
المرأة هدف الرجل المسلم
-
أنا رجل مشبوه
-
النهضة العربية هي نهضة مسيحية
-
هكذا يجب أن تكون الخُطب
-
إلى من يهمه الأمر
-
هل أنا مواطن أردني؟
-
في حاره مليانه إبساس
-
الكتب التي أكلتها
-
إدعاء النبوة والكذب على الله
-
اليوم عيد ميلادي
-
الزوجة والخادمة
-
في ناس هيك, وفي ناس هيك
-
العائلة المسيحية والعائلة المسلمة
المزيد.....
-
هآرتس: إيهود باراك مؤسس الشركة التي اخترقت تطبيق واتساب
-
الاحتلال يسلم عددا من الاسرى المحررين قرارات بالابعاد عن الم
...
-
هآرتس: الشركة التي اخترقت تطبيق واتساب أسسها إيهود باراك
-
السويد ترحل رجل دين ايراني دون تقديم توضيحات
-
10 أشخاص من الطائفة العلوية ضحايا مجزرة ارهابية وسط سوريا
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر تتسلم الاسير الاسرائيلي كيث سيغا
...
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الثاني
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الاسرائي
...
-
إطلاق نار على قوات إسرائيلية في سوريا وجبهة المقاومة الإسلام
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد بجودة HD على جميع الأقمار الصناع
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|