|
من داخل دهاليز الموت إشتقت لحضن أمى .
سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3017 - 2010 / 5 / 28 - 16:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لن أنسى تلك اللحظة التى دخلت فيها غرفة أمى لأجدها ممددة على سريرها وقد فارقت الحياة ..أخذت أقبلها وأتلمس رأسها وأضع رأسى على صدرها الذى طالما إحتضننى وغمرنى بدفء غريب .. أبكيتها كالأطفال وهى ساكنة لا تتحرك ولا تريد أن تداعب رأسى كما عودتنى .
فى مثل هكذا لحظات عصيبة كان من المحتم تدخل الأهل والأقارب لإيقاف مذبحتى المفجوعة فى موت أمى ..لأجد نفسى فى حضن خالى وهو يواسينى ويقول لى : تشجع يابنى فأمك لم تمت ..هى الأن عند الرب ومع أبيك وأخيك وفى محفل القديسين ..وسيأتى ذاك اليوم الذى نلتقى بها هناك ونرتمى فى أحضانها .
فى هذه اللحظة المشحونة بكل ألم الدنيا تسلل كلام خالى داخلى وصدقته بأننى سألتقى بحضن أمى فى عالم مابعد الموت ..بل تداعت فى مخيلتى صور سريعة لأمى وهى فى السماء مرتدية لثوب أبيض جميل ويحيط بها مجموعة من الملائكة ذوات الأجنحة مهللين بوجودها فى وسطهم ..ولعل تلك المشاهد إستدعيتها من مخزون ذكرياتى الطفولية لصور كنت أراها للسيدة العذراء مريم . الغريب أننى قبل وفاة أمى كنت قد حسمت بشكل فكرى وفلسفى واضح رفضى لوجود عالم ما بعد الموت ..ولكن مع تلك اللحظة التى لا تتحمل سوى لملمة جراح ووقف نزيف مشاعر مذبوحة ..لحظة لم تكن فى حاجة للمنطق والفلسفة بقدر بحثها عن قشة تتعلق بها تخرجها من أزمتها وتعبر ألمها ...تحتاج لفكرة تعزيها وتخدر إحاسيس ومشاعر منتهكة على مذبح الموت .
لا تمر الساعة حتى يحثنى خالى على الإسراع بدفن أمى ويطلق عبارته الشهيرة بأن " إكرام الميت هو دفنه "..لأجد نفسى مُنساق أمام هذه العبارة وأقوم بواجبى فى الإعداد لمراسم الدفن والجناز .
عندما يمر هذا المشهد أمامى وأتأمله بعين قد جفت عن البكاء وقدرة نفسية على تجاوز الحدث ..أقول لذاتى كيف راودتنى فكرة حلم أن ألتقى بأمى الحبيبة بعد الموت ؟ !! أجد أننى لم أكن فى حالة تسمح لى سوى أن أتعاطى مع أى مخدر يعبر بى هذه الحالة ..فتعاطيت ميثولوجيا لها حضور قوى فى عالمى وواقعى.
دائما ما كنت أردد أن الإنسان إبتدع فكرة عالم ما بعد الموت لأنه يحمل فى أعماقه رفضاً للموت ..فهو يقر به كحقيقة بل هى الحقيقة الوحيدة فى الوجود ..ولكن ليس معنى أنها حقيقة فعلينا أن نسعد بها .! الموت هو تهديد حقيقى لغريزة حب البقاء والوجود ..إنه يحطم رؤوسنا وأحلامنا فى الحياة على صخرته ..ونحن بحبنا للوجود والبقاء ممزوجا ًبكم لا بأس به من الغرور نرفض الموت كأن يكون النهاية لوجودنا ..فأبدعنا فكرة عالم أخر ليجعل حلمنا فى الحياة مستمرا ً وقائما ً. لم يكن هذا التحليل بخطأ فى إعتقادى بحال من الأحوال ..ولكن الإنسان لا يقع أسير فكرة واحدة تشكل مفاهيمه بل من الممكن أن تمتزج أفكار كثيرة لتنحت تكوينه النفسى والذهنى .
من هذه الأفكار هو حضن أمى وأمك ..فأنا أشتاق إلى حضن أمى ..أهفو إلى كل ذكرياتى وتاريخى ووجودى البدئى مع أمى ..أحن لهذه الأحاسيس البكرية فى الحب والحنان ..عيونها الحانية ولمسة يدها , و أحضانها فأجد أمان الدنيا كلها على صدرها ..يدها التى تداعب رأسى المتكئة على حجرها فتمرر أصابعها وسط خصلات شعرى لتمنحنى شعور بالسعادة والحب والحنان لم أجد له مثيلا ً .
الموت هنا هو إغتصاب بشع لكل هذه الأحاسيس والمشاعر والذكريات التى تكون تاريخى ..ووسط هذه المذبحة الدامية كان من المهم أن أجد أى قشة أتعلق بها تعطينى سلوى لنفس مضطربة تريد أن تهدأ ليأتى كلام خالى هو المعزى وإن كان على سراب ووهم .
إنساننا البدئى عانى من قسوة الموت وتهديد أمانه النفسى من خلال فراق أحبته ..الذى شكل منهم وبهم معنى لوجوده ليجدهم أمامه جثث ساكنة لا تتحرك فلا يتصور أن تاريخه وكيانه كله قد توقف عن النبض والحركة فيتصور أنهم فى حالة من الثبات والنوم المؤقت وأنه سيأتى اليوم ليستيقظوا ويكملوا معه الحياة ..هو أراد أن يعبر مذبحة مشاعره وتاريخه ووجوده الذى تم إنتهاكه بكل قسوة . ما تلبث هذه الأسطورة تحت الحاجة النفسية إلا أن تستمر وتتوارث مع بعض التعديلات والتحسينات تحت وطأة التطور لتجد نفسها فى نهاية المطاف على لسان خالى يتلوها على مسامعى لحظة فراق أمى الحبيبة .
نحن البشر نمتلك الإحساس والمشاعر ..حياتنا كلها تتأرجح بين البحث عن اللذة وتجنب الألم ..لا يستوقفنا كثيرا ما هو سبب الألم , فتكون كل غايتنا هو تجاوزه بأى شكل ما ..فنبدع فكرة تبث فينا الطمأنينة والسلام ..ولا يهمنا شكل هذه الفكرة ومنطقيتها بقدر قدرتها على تجاوز الألم .
فى مثل هكذا لحظات نلقاها عند فراق أحبائنا ..هل يكون البكاء والنحيب على عمرنا نحن المهدور ..على ذكرياتنا ..على تاريخ المشاعر والأحاسيس الجميلة التى تمر أمامنا ..لاشك انها كلها . الموت لا يفقد الميت حياته بقدر ما يذبح كل تاريخنا وأمانينا وأحاسيسنا الجميلة نحن الأحياء التى كونت هويتنا ووجودنا...و يكون الموت هو صفعة قوية للذات والأنا ..أن أرى فى أمى الممددة هومصيرى المحتوم ..أن أخاف على ذاتى أن أكون مثلها بلا حركة ولا حياة ..أن أخشى على ذاتى فى أن أمدد هكذا ثم يلفونى بقطعة من القماش الأبيض ليرمونى بعدها فى حفرة أو قبو صغير مظلم حيث لا ونيس ولا حبيب .
من المؤكد أن هذا الإحساس قد يراود بعضنا بشكل واعى ..وبشكل غير واعى لمعظمنا ..ولعل هذا يبرر حالة التبكيت وجلد الذات التى تعترينا بعد فراق أحبتنا ..فكم نحن خطاة ..كم نحن مذنبون وأننا يجب أن نتبرر من هذه الخطايا لنتهيأ لهذا المصير المحتوم ..أن نتقرب من الذى يمسك بيده منجال الموت ..أن نقدم له الصلوات والقرابين حتى يؤجل منجاله عنا أو يخفف من وطأته .. أو يمنحنا الحياة مع أحبائنا فى عالمه الأخروى . ولعل هذا يفسر لماذا تنتابنا حالات من التدين والدروشة عندما نرى منجل الموت يحصد البشر عند كل فجيعة ..كما حدث فى زلزال مصر فى أوائل التسعينات لتنتاب البشر حالة من الهوس الدينى .
أتأمل فى مقولة خالى فى أن إكرام الميت هو دفنه ..فماهو المقصود من تلك العبارة وماهى مغزاها .؟ أليس إكرام الميت هو بقاءه على سريره وغرفته وسط أهله بدلا ً من أن يقذف فى حفرة أو قبو ضيق ومظلم .!! أجد أن هذه العبارة مزيفة تُخفى رغبة الأحياء فى التخلص من الميت وجثمانه ..هم لا يقدرون على تحمل تعفن وتفسخ الميت وإصدارها لروائح كريهة . قد يكون هذا حق أصيل للأحياء فى أن لا يتأذوا من روائح نتنه تزعجهم ..ولكن يجب أن نعلم بأن هذا إلى حين . وماذا لوتصورنا قدرتنا على حفظ أمواتنا كما فعل المصريين القدماء بواسطة التحنيط أو وضعهم فى ثلاجات حافظة .... هل فى هذه الحالة سنحتفظ بموتانا فى غرفهم .؟!!
لا لن نجعل لهم وجود فى أماكن حياتنا ..لأننا لا نريدهم وهم فى حالة الموت ..نحن سندفنهم أيضا فى أى حفرة أو قبو .!! نحن لا نريد وجود الموت حاضرا ً فى الحياة بجوارنا ..لا نريده أن يكون ماثلا ً أمامنا ..لا نرغب فى رؤية النهايات والفناء والعدم ..لا نريد تصور الإنتهاء والتلاشى والزوال .
وجود الميت أمام عيوننا بشكل دائم بتحلله وذوبانه فى مكونات الطبيعة هو إنتهاك لحياتنا وأحلامنا وذكرياتنا وغرورنا ..هو تحطيم لوهمنا فى الوجود مرة ثانية عندما لا نرى سوى التحلل والذوبان فى الطبيعة فكيف يتم التجميع لتكتمل الأسطورة ..الموت هو تحطيم لقيمة الحياة لذلك نسارع بدفنه ونتصور أننا نكرمه بينما نكرم نفوسنا المضطربة وأوهامنا التى نريدها قائمة .!
الإنسان هو كتلة من المشاعر والأحاسيس التى لا تفارقه ..ويكون تميزنا أو قل مشكلتنا فى الوجود أننا لدينا ذاكرة تحتفظ بما سبق وتسجله فى داخلنا ممزوجا ً بأحاسيس ومشاعر ولا تكون حياتنا كلها إلا محاولة للعبور من الألم والبحث عن الأمل والمتعة . حضن أمى هو الأمل والراحة والسلام الذى تم إنتزاعه من داخلى ..حضن أمى هو إغتصاب لكل أحاسيسى وذبح لكل مشاعرى وتاريخى ووجودى فى الحياة ..ويكون وهم أن ألقى حضن أمى فى عالم أخر هى محاولة لإستكمال للحياة والقدرة على العيش فى عبثية الوجود بخلق حلم ووهم يجعل للوجود معنى .
ولكن هل أوهامنا حقيقة ..أم أننا نخلقها لنتجاوز الحقيقة .
دمتم بخير ..
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكاليات التراث ومتطلبات العصر وأين يكون حرثنا فى الأرض أم ف
...
-
لماذا يؤمنون ..وكيف يعتقدون ( 2 ) - لا تسأل ولا تعرف .
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 8 ) _ أشياء مطلوب الإعتذار عنه
...
-
تديين السياسة أم تسييس الدين ( 3 ) - الجنه تحت أقدام المقاتل
...
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 5 ) .
-
تديين السياسة أم تسييس الدين (2) - الناسخ والمنسوخ تردد إلهى
...
-
إلى هذا الحد وصلنا لحالة من الشلل والتسطيح والتهميش .
-
تديين السياسة أم تسييس الدين ( 1 )- اليهودية نموذجا ً .
-
ثقافة المراجعة والإعتذار المفقودة .
-
نحن نخلق ألهتنا ( 6 ) - الله رازقا ً .
-
تأملات فى الإنسان والحيوان والبرغوث .
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 4 )
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 3 )
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 2 ) .
-
تأملات سريعة فى الله والدين والإنسان ( 1 ) .
-
الأديان كتعبير عن مجتمعات عبودية الهوى والهوية .
-
الجنه ليست حلم إنسان صحراوى بائس فحسب .. بل حلم مخرب ومدمر .
...
-
سأحكى لكم قصة - شادى - .
-
بوس إيد أبونا .!!
-
الدين عندما ينتهك إنسانيتنا ( 7) _ فليدفعوا صاغرون .
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|