أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - شاكر علي التكريتي بين احتلالين ..















المزيد.....

شاكر علي التكريتي بين احتلالين ..


رباح آل جعفر

الحوار المتمدن-العدد: 2915 - 2010 / 2 / 12 - 00:03
المحور: الادب والفن
    


عرفت الكاتب ، والصحفي الرائد ، الراحل الأستاذ شاكر علي التكريتي ، وكان في شيخوخته ( وقد بلغت القلوب الحناجر ) .. وعندما رأيته أول مرة ، رفع لي قبعته السوداء ، وهزّ عصاه بيديه ، وقابلني بودّ .. ثمّ اعترف لي بحقائق أشبه ما تكون بمذكرات الموتى ، وأصدق من جان جاك روسو في اعترافاته ، وقال في السياسة ، ما لم يقله مالك في الخمر ، ولسان حاله يخطب : ( يا بلاداً بلا شعوبٍ أفيقي ) ، واحمرّت وجنتاه ، وارتجفت شفتاه ، وكنت أخشى على ( لسانه الطويل ) ، أن يكون مثل لسان الشاعر الفرنسي شينيه ، الذي قتلته مقصلة الكونكرد !.
وإذا رأيت ما يدهشك ، فانتظر قليلاً حتى لا تقول شيئاً يدهش الناس .. ورويت له حكاية الفيلسوف بيكون الذي كان يعلن : أن هناك أسراراً يصعب على الناس العاديين فهمها ، ويجب ألاّ تكون في أيديهم حتى لا يحرقوا أنفسهم ، ويحرقوا العالم معهم ، وكان من نتيجة هذه الحكمة ، أن أُحرِقَت كتبه كلّها ، وكاد هو الآخر أن يُحْرَق .. ووجدتني ألاحق كل كلمة تصدر عنه أثناء الحديث ، وكلي آذان صاغية ، حتى لا يفوتني حرف واحد مما يقول ، وكان ( أبو جلال ) لا يحكي طويلاً .. كان يحكي فترة ، ويستريح فترة ، ويعبث بإصبعه في أذنه ، أو يلقي نظرة على المارة في الشارع ، الذي يطل منه نادي المهندسين خلف ساحة الأندلس في بغداد .
ومع أني اعرف أن شاكر علي التكريتي من مواليد 1911 ، فقد كان يتحرج حينما يتحدث عن عمره ، وكان كمن يريد أن يصغّر هذا العمر ، ويقول لمن يسأله عن مواليده : ( اسأل عني دائرة رعاية القاصرين !! ) ، فهو يريد أن يكون كبيراً في كل شيئ إلاّ في عمره ، وعندما كنت أناديه بـ ( عمّي ) ، أو ( عمو أبو جلال ) ، كان يقول لي مازحاً : لست عمّاً لأحد ، إنما أنا الأخ الأصغر للجميع .. والإنسان ـ عموماً ـ لا يريد أن يموت ، أو يقتنع بأنه يموت ، أو أنه قريب من النهاية ، وكان ( أبو جلال ) إذا صافح أحداً تعمّد أن يضغط على يده بشدة ، استعراضاً لقوته التي كان يتغنى بها على الدوام ، وطاف بخاطري ، أن عليه أن يرحّب بزيارة عزرائيل إذا زاره في تلك اللحظات ، وكان يقسم في كل مرّة بالأرض ، والسموات ، وما بينهما ( إنني مجنون ! ) ، وإنني استفزّه في الحديث عن الذين ماتوا ، أو عن الأموات الذين لا يزالون على قيد الحياة !.
وفي أيّما موعد مع العم ( أبو جلال ) ، كنت أجده مازحاً ، مبتسماً ، شابّاً في روحه ، ودعابته ، محبّاً للنكتة ، التي لم تفارقه حتى موته ، ولم يعرف اليأس طريقه إليه ، ولقد روت لي يوما قرينته الفاضلة ( أم جلال ) : في زمن كان الدينار ديناراً ، كان ( أبو جلال ) يقول : من يحكي لي نكتة فيضحكني قبل الإفطار ، أعطيه هذا الدينار ، وكان يتمنّى أن يتعلم الآخر أن يضحك ، بدل هذه الكآبة ، وهذا العبوس ، وكنت أقول له : لعلّ بكاءنا الكثير في طفولتنا ، هو الذي جعل أرواحنا حزينة ، ولهذا السبب انتشرت أغاني النواح ، والبكاء ، بين المطربين والمطربات !.
ولم أر أبا جلال يدخن يوماً ، لكنني رأيته يسهر أياماً ، ويقف في فناء الدار ويقول كلاماً يشبه الغزل من الشعر : ( يا قمر .. أنا قتيل شفتيك ) ، وكثيرا ما كنت أجلس الساعات الطوال ، أنشده ، وينشدني بأريحية عالية يذوب في ملتقى دفئها الصقيع ، برغم اختلاف التجارب ، وفارق العمر ، وتباعد السنين .. وله لسان حلو كالشهد ، وكان إذا تعرّف على أديب ، أو صحفي يأخذ عنوانه ، فإذا ثبت العنوان على قصاصة من الورق ، يدعوه إلى عشاء في ( نادي المهندسين ) ، وهو من النوع الذي يقطر كرماً حتى من بين أصابعه ، ومن بين أسنانه .. وعاش حياته مترفاً ، منعّماً ، محبّاً للخير ، ويسعى إلى هذا الخير من أجل الآخرين ، ولو كان الخير في بلاد الصين !.
وكان إذا صفا بعض الوقت قضاه في الحديث عن ذكريات سنين خلت ، من تلك الفترة ، التي أمضاها معلماً ، ومربياً ، ومديراً عاماً للاستعلامات في وزارة المعارف ، وعن عمله مع الأستاذ نعمان العاني في جريدة ( العرب ) ، التي شغل منصب مدير تحريرها ، وعن تأسيسه جريدة ( الشعب ) أعوام الستينيات من القرن الماضي ، وكان هو صاحب الامتياز ورئيس التحرير ، وكيف كان مكلّفاً وظيفياً بمراقبة الصحف ، فيضطرّه منصب ( الرقيب ) إلى كتابة مقالاته باسم مستعار لنشرها في الصحف المعارضة .. ومن الظريف أنه كان يردّ على مقالاته في اليوم التالي باسمه الحقيقي ، وكيف ذهب إلى وزير الثقافة والإرشاد ـ آنذاك ـ الأستاذ مالك دوهان الحسن يعارض بشدة قانون تأميم الصحافة ، الذي صدر سنة 1967، وكيف دخل السجن بعد 17 تموز 1968 مرتين ؟‍.
وشاكر علي التكريتي يدسّ ـ في بعض مقالاته ـ السمّ في العسل ، وأذكر أني ـ في إحدى المرات ـ حجبت له مقالاً عن النشر ، وكنت يومها رئيس تحرير صحيفة الرأي ، وكتبت في أعلاه : ( يحال المقال إلى الرقيب الصحفي العتيد الأستاذ شاكر علي التكريتي لبيان مدى صلاحيته من النشر ) ، وجلس ( أبو جلال ) مكاني ، وأعاد قراءة مقالته بنفسه ، ثمّ كتب بقلمي : ( لا يصلح للنشر ) !.
وروى لي ذات يوم : أنه عندما انتهى من كتابه ( هذه مذكراتي وذكرياتي ) ، ووضعه في دائرة الرقابة لإجازته قبل النشر ، كان ( الرقيب ) هو الأستاذ الراحل عبد الرحمن فوزي ، وقد طلبت منه أن لا يشطب ، ولا يحذف من كتابي ، ومازحته بأنني أكافئه بما يريد ( من نقديّات وعينيات ) ، فردّ عليّ فوزي مبتسماً : أنت الذي علّمتني الرقابة .. وأنا أمين ، ووفي للمهنة التي تعلّمتها منك يا أبا جلال !.
وشاكر علي التكريتي ، الذي كان يجيب من يسأله عن مهنته : ( إنني صحفي من الدرجة العاشرة ) ، هو من عاش عصور الدولة العثمانية ، والعهد الملكي والعهد الجمهوري ، والحمد لله أنه لم يعش حتى يرى العهد الأميركي ، ويلعنه كلّما تذكّر إبليس الشيطان الرجيم .. وكان شاهداً على لحظات تأريخية ، وأفكار ، وتيارات ، وقوى ، ومصالح ، وجيوش ، وعروش ، وكروش ، وبلاط ، وقصور ، وتيجان .. ثم تحطم قلبه ، وأخذه منا الموت غيلة ، بعد صراع مع المرض شاق ، ورحل يوم 18 كانون الثاني 2001 ، برغم أنه كان يخاف الحياة مع الموتى ، وكان يريد الموت إلى جانب الأحياء ، لكي يظلّ يحلم معهم بولادة الأجيال الجديدة السعيدة ، التي ستملأ الحياة فناً ، وورداً ، وحبّاً ، وأمناً ورقصاً ، وغزَلاً ، وموسيقى .



#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جلال الحنفي .. تسعون عاماً في قلب الأزمات والخصومات
- سؤال كبير وخطير : إمارة الشعر العربي من امرئ القيس إلى امرئ ...
- عبد المجيد الشاوي وهذه الأشياء الغريبة العجيبة !!
- عبد الرزاق عبد الواحد .. صورة طبق الأصل !!.
- طه عارف .. وسلام الأصدقاء طويل
- شاكر حسن آل سعيد .. تشكيلياً على الطريقة الصوفية
- ويسألونك عن نوري حمودي القيسي ؟!
- لقاء مع خالد الشوّاف على مشارف الثمانين
- مفكرات يوسف العاني في عصور مختلفة
- قيس لفتة مراد .. عاش ميتا ومات حيا !!
- تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم
- لا هو موت .. لا هو انتحار
- أباطيل يوسف نمر ذياب في زنبيل !!
- مصطفى محمود .. المفترى عليه
- عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..
- مدني صالح يدفن زمان الوصل في هيت
- ( صانع ) بلند وحسين مردان .. صفاء الحيدري لا عذاب يشبه عذابه
- أبو جهل يتوحم على دمائنا
- عندما تغضب الكلمات
- علي الوردي وأنا في حوار من الأعظمية إلى الكاظمية


المزيد.....




- بردية إدوين سميث.. الجراحة بعين العقل في مصر القديمة
- اليمن يسترد قطعة أثرية عمرها أكثر من ألفي عام
- -قره غوز.. الخروج من الظل-.. افتتاح معرض دمى المسرح التركي ف ...
- لقطات -مؤلمة- من داخل منزل جين هاكمان وزوجته وتفاصيل مثيرة ح ...
- من السعودية إلى غزة.. قصة ’فنانة غزية’ تروي معاناة شعبها بري ...
- سفير روسيا في واشنطن: الثقافة يجب أن تصبح جسرا بين الدول
- شطب سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين السوريين -لإنكارها الجرائ ...
- -لإنكار الجرائم الأسدية-.. نقابة الفنانين تشطب سلاف فواخرجي ...
- شطب قيد سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين في سوريا لـ-إصرارها ع ...
- بمناسبة مرور 50 عامًا على رحيلها.. بدء التحضيرات لمسرحية موس ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رباح آل جعفر - شاكر علي التكريتي بين احتلالين ..