|
بدلاً من خطاب الشكوى .. وبديلاً عن استراتيجية المراوغة
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 2903 - 2010 / 1 / 30 - 18:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عادة ما تكون خطب المسئولين فى المناسبات روتينية ومملة لأنها مجرد "سد خانة" فى الأغلب الأعم. لكن كلمة الرئيس حسنى مبارك خلال الاحتفال بعيد العلم جاءت استثناء من هذه القاعدة، حيث تضمنت نقاطاً بالغة الأهمية فى مقدمتها حديثه عن "مجتمع متطور لدولة مدنية حديثة، لا مجال فيه لفكر منحرف يخلط الدين بالسياسة والسياسة بالدين. ولا مكان فيه للجهل والتعصب والتحريض الطائفى.. ويرسخ قيم المواطنة بين أبنائه قولاً وعملاً ولا يفرق بين مسلميه وأقباطه". وغنى عن البيان أن هذه الدعوة قد سبق طرحها على يد الكثير من المفكرين والكتاب والمثقفين الذين حذروا من المخاطر الشديدة التى ينطوى عليها استمرار البنية المتكلسة لدولة ما قبل الحداثة الراهنة وما يفرضه هذا الاستمرار من تحديات حقيقية للتطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى للبلاد عموماً، وللاندماج الوطنى والوحدة الوطنية على وجه الخصوص. غير أن قطاعات واسعة من النخبة،بما فى ذلك النخبة الحاكمة، قد صنعت أذناً من طين وأخرى من عجين أمام هذه الدعوة التى بحت أصواتنا فى طرحها. ومن هنا تأتى الأهمية الاستثنائية لإمساك الرئيس مبارك بهذه الدعوة، وتضمينها خطابه بمناسبة عيد العلم. لكن الأكثر اهمية أن تتحول هذه الكلمات إلى أفعال، فسيكون أمراً شاذاً أن يتبنى رئيس الدولة تلك الدعوة بينما تواصل مراكز صنع القرار السير فى الاتجاه المعاكس، أى اتجاه تكريس الدولة الدينية القائمة على "الفتوى" بدلاً من تأسيس الدولة المدنية الحديثة القائمة على "القانون". لذلك فإن معيار الجدية هو أن نرى تحركاً "فورياً" من كل المؤسسات المعنية لترجمة مطلب إقامة الدولة المدنية الحديثة إلى واقع. وعلى سبيل المثال فإن استهجان مبارك لخلط الدين بالسياسة يعنى أموراً كثيرة أولها إعادة النظر فى المادة الثانية من الدستور التى تفتح أوسع الأبواب لهذا الخلط. ولذلك فإن الإدراك الصحيح لهذا الاستهجان الرئاسى يتوقع أن تبدأ عملية سريعة لتعديل المادة الثانية التى تنص على أن "مبادئ الشريعة الاسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع". فهى كما قلنا مراراً وتكراراً مادة مفخخة تفتح الباب لتهديد وحدة النسيج الوطنى لأنها تتضمن تمييزا بين المواطنين على أساس الدين، كما أنها تتناقض مع مواد أخرى فى الدستور وفى مقدمتها المادة المعنية بالمواطنة واستحقاقاتها. وهى – لمن لا يتذكر – جاءت بموجب تعديل أدخله الرئيس الراحل أنور السادات، وكان الدافع الرئيسى لذلك هو تمرير تعديل مصاحب للمادة 76 من الدستور التى كانت تنص على أن رئيس الجمهورية يستطيع البقاء فى منصبه لفترتين لا ثالث لهما فجاء التعديل ليجعل هذه المدد لانهائية. والمفارقة أن السادات لم يستفد منها لأنه تعرض للاغتيال بعد هذه الجريمة الدستورية بفترة وجيزة. وهناك اقتراحات متعددة لتعديل هذه المادة الملغومة منها استبدالها بصيغة خلاصتها أن "مقاصد الشرائع السماوية مصدر من مصادر التشريع" أو صيغة أخرى تنص على مبادئ الشريعة الاسلامية والمسيحية وعهود حقوق الإنسان مصادر رئيسية للتشريع". ورغم أنه لا أحد يتحدث صراحة عن رغبته فى تحويل مصر إلى "دولة دينية"، بل إن جماعات الاسلام السياسى ذاتها أصبحت ترفع شعار "الدولة المدنية"، فإنها فى التحليل النهائى تضمر إرساء دعائم هذه الدولة الدينية بفتحها أبواباً خلفية لوضع عمامة على رأس الدولة المدنية مرتكزين فى معظم الأحوال على المادة الثانية بنصها الحالى. وحسماً لهذه البلبلة أصبحت هناك حاجة ملحة لإنهاء هذا التردد الطويل من جانب الحكم والانحياز صراحة للجهود الرامية إلى تعديل هذه المادة المثيرة ليس فقط لمخاوف أقباط مصر وإنما أيضاً لمخاوف القطاعات المستنيرة من المسلمين. *** وعندما يتحدث الرئيس مبارك فى كلمته عن "ترسيخ قيم المواطنة بين المصريين قولاً وعملاً ولا يفرق بين مسلميه وأقباطه" فإنه من حقنا أن نستنتج أن هذا التوجه يستدعى التحرك فوراً لإلغاء كافة أشكال التمييز بسبب الدين. ولن يتأتى هذا بترديد الشعارات وإنما يتطلب إزالة هذه الوصمة التى تتضمن تمييزا بين المسلمين والمسيحيين فى بناء دور العبادة مثلاً، كما يتطلب سن قانون لتجريم التمييز عموماً، بما فى ذلك التمييز الدينى. هذان القانونان لا يحتاجان إلى وقت لإصدارهما، بل يجب على الحكومة ومجلسى الشعب والشورى إعطائهما أولوية فى الأجندة التشريعية فكفانا تلكؤا بلا مبرر. *** ننتقل من ذلك إلى تأكيد مبارك أن "عقلاء هذا الشعب، ودعاته ومفكريه ومثقفيه وإعلامييه، يتحملون مسئولية كبرى فى محاصرة الفتنة والجهل والتعصب الأعمى والتصدى لنوازع طائفية مقيتة تهدد وحدة مجتمعنا وتماسك أبنائه وتسئ لصورة مصر مهد الحضارة والتسامح عبر التاريخ". هذه دعوة ثانية لا تقل أهمية وخطورة عن الدعوة الأولى. فربما كانت هذه هى المرة الأولى التى يخاطب فيها الرئيس "عقلاء هذا الشعب" لأن مواجهة الفتنة أكبر من أن تُترك للحكومة فقط أو لحزب معين يدعى احتكار الحكمة. وبديهى أن هؤلاء "العقلاء" موجودون على امتداد واتساع الطيف السياسى من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وإذن فان تحويل هذا الشعار إلى واقع يعنى بناء "جبهة وطنية وديموقراطية" تضم كل انصار بناء الدولة المدنية الحديثة فى مواجهة خصوم هذا التوجه من "دعاة الفتنة والجهل والتعصب الاعمى والطائفية المقيتة". وهذه جبهة لا يمكن أن تقوم فى فراغ بل إنها تتطلب تغييراً "مؤسسياً" وبالذات فى منظومة التعليم والنظام الإعلامى والساحة الثقافية انتصاراً لقيم التسامح والتنوير والعقلانية. وهذا لا يعنى فقط استدعاء جهود مستبعدة من المشاركة الآن، وإنما يعنى أيضاً – وأولاً – القيام بتغييرات جذرية داخل المؤسسات الرسمية المعنية فى المجالات الأربع: التعليم والاعلام والثقافة والمؤسسة الدينية الرسمية. *** وهناك بصيص من الأمل تخلقه كلمات الرئيس مبارك التى نسمع بعضها ربماً لأول مرة، خاصة وأنها تنطلق من الاعتراف الصريح بأن "الفتنة والجهل والتعصب والطائفية" تهدد "وحدة مجتمعنا وتماسك أبنائه وتسئ لمصر مهد الحضارة والتسامح عبر التاريخ". هذا تشخيص دقيق وصحيح مائة بالمائة يضع المشكلة فى حجمها الحقيقى دون تهوين كما اعتدنا فى السابق. ومع ذلك فإن الأمانة مع النفس وعدم الانسياق وراء الأوهام أو خداع الذات تجعلنا لا نغرق فى التفاؤل. فهناك أمور معاكسة يجب وضعها فى الاعتبار. أولها أن هذا مجرد كلام ولدينا خبرة مريرة فى التفاف البيروقراطية الحاكمة على الوعود الرئاسية وإفراغها من مضمونها، مثلما حدث بالنسبة لموضوع حبس الصحفيين فى قضايا النشر. ثانياً: اعترف الرئيس مبارك بأنه أثار "هذه القضايا أمام المؤتمر القومى لتطوير التعليم العام قبل الماضى وأمام الجلسة المشتركة لمجلسى الشعب والشورى فى افتتاح الدورة البرلمانية الحالية وفى مناسبات أخرى عديدة". الرئيس يدرك إذن أن هناك مقاومة للتغيير حتى لو كانت المطالبة به تأتى منه هو شخصياً. ثالثاً: أن القوى التقليدية المحافظة والساعية بدأب إلى "تديين" المجتمع "وأسلمة" الدولة - وبعضها موجود داخل النخبة الحاكمة لكن معظمها خارجها – ليست قوى ضعيفة ولا يجب الاستهانة بها وليس من الحكمة افتراض أنها ستسلم بهذا التغيير المنشود بسهولة أو بـ "روح رياضية". *** لكن هذه التحفظات وتلك التحديات لا ينبغى أن تثبط الهمم بقدر ما ينبغى أن تجعلنا نتحلى باليقظة والاصرار على الانطلاق من التصريحات الرئاسية والاستفادة منها لـ "زنق" وإحراج العناصر المترددة أو المناوئة لمشروع الأمل .. مشروع نهضة مصر .. وبناء دولة مدنية حديثة.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وقائع خطيرة تستدعي وضع النقاط علي الحروف .. من الذي يحمي كل
...
-
قبطى.. لامؤاخذة!!
-
ترجمة -جوجل- .. الشيطانية!
-
ترجمة جوجل -غير الشيطانية-
-
تعامل مصر -الخشن-.. مع قوتها -الناعمة- .. محمد صالح .....الآ
...
-
نجع حمادى.. - حقل الأرز- الذى أصبح -مزرعة ذئاب-!
-
مبادرة «شق» الإخوان (1)
-
مبادرة «شق» الإخوان (2)
-
ممنوع الدخول: توارد الخواطر بين -الإمارة- و-الحارة- و-النقاب
...
-
علاقة مسمومة: ظلم عواطف حميمة.. واستفزاز مجتمع فقير
-
الدعائم الأربع لحرية الصحافة فى مصر
-
هل كان مفروضاً أن يكون مصر حامد أبوزيد.. لاعب كرة؟!
-
قبل أن نسير فى جنازة الصحافة التى أحببناها
-
الأذان فى مالطة.. وسويسرا!
-
ضمائر حية.. وقلوب مازالت تنبض.. في الجامعة العربية
-
هل يأتى حل عقدة خلافة الرئيس على يد الدكتور يسرى الجمل؟!
-
إعلام لا يعلم ولا يتعلم:استنساخ الفشل والغوغائية وابتذال الو
...
-
سائق حافظ المرازى.. الفيلسوف
-
مصابيح التنوير والابداع التى تنطفئ
-
نتائج خطيرة لدراسة ميدانية مهداة للنخبة الحاكمة والمحكومة:«ا
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|