هادي الخزاعي
الحوار المتمدن-العدد: 875 - 2004 / 6 / 25 - 04:33
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
منذ ثلاثين سنه, وفي عدد من المدن اللبنانية وفي بيروت تحديدا, أقيم أحتفال جماهيري غيرعادي, بمناسبة غير عادية,هي الذكرى اليوبيلية الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني. تربطني وتلك المناسبة جملة من الصور الملونة الجميلة التي تأبى أن تشيخ أو تتشوش وهي رهينة في مجمع ذاكرتي بكل ملامحها العامة والجزئية طيلة تلك السنوات الثلاثين, وأن حدث وأن أطلقت أسار ذلك الشريط من الصور, فللأحبة اللذين تلاعب مشاعرهم ووجدهم حكايات هفيف نسائم سنين الياسمين والقرنفل الأحمر.
في غفلة وتوجس أخذت حقيبتي الصغيرة المشحونة بملابسي الداخلية والبجامة وبنطال أسود وقميص أبيض وربطة عنق حمراء منضودين قاع الحقيبة, وكأنهما منشور سري. كان قيض بغداد لا يزال يشتعل, وفي ظهيرته الحارقة تلك كان يجب علي أن أكون وحيدا بلا مودعين في واحد من كراجات النقليات الشهيرة ( الأنكرلي ) المقابل لدار الأذاعة العراقية. المكان ضاجا بالناس العاديين المستطرقين وعابري السبيل والباعة المتجولين اللذين لا يقتضي الحذر منهم, ولكن الحذر يقتضي مع الذين تكون لهم عيون شيطانية, ولآذانهم مجسات التقاط مدربة على سماع الهمس, أما
أنوفهم الكلبية, فلا تفوتها ابدا رائحة الضحية, لذا فأنك لا تجد صعوبة كبيرة في ملاحظتهم وتمييزهم, كي تتجنبهم ولا تقع في شراكهم, وهذه وصية مقدسة تسري سريان السلوك اليومي عند الشيوعيين. هذا المكان المتقلب بالناس كموجة بحرية تائهة تبحث عن خلاص, يقتضيه الحيطة والتنبه, لأن
مصير مشاركة الفرقة الفنية لأتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في العيد الخمسين للحزب الشقيق, يتوقف على دقة ألتزامكم بالتوجيهات, وأهمها المواعيد, وأن يتجاهل جميع الزملاء أعضاء الفرقة الفنية أحدهم الآخر منذ وصولهم الكراج حتى تجاوزهم الحدود العراقية الى الأراضي السورية.
لايمكن أن أكون مخطئا المكان, اللافتة التي ترحب بالمسافرين كبيرة وواضحة. ربما جئت مبكرا, ومبكرا جدا, فلا حقيبة غير حقيبتي اليتيمة تكسر وحشة المكان, ولكنه الموعد بالضبط الذي بلغني به الرفيق المكلف
بسلامة سفرالوفد حتى محطته الأخيرة, بيروت.
تلك هي بيروت, صرخ واحدا من أعضاء الوفد العشرين, لم يفت أحد المشهد, فالباص الذي كان يقلنا من الشام مرورا بالبقاع صعودا الطرق الجبلية الممهدة بالأسفلت نزولا من بحمدون, وضعنا مندهشين أمام بانوراما البحراللامتناهي, وبيروت تغسل أقدامها بفيض أمواجهه المتكسرة, أستغرقنا وقت النزول الى واحة الحب والأمان, بيروت ساعة, ونحن مبهورين بالمشهد وبصوت فيروز وشايف البحر شو كبير كبر البحر بحبك...
هذه هي الروشة, وفوقها مكان اقامتكم, فندق كينكس ( الملوك ),فيتردد مع الكلمة الأخيرة صداها, كضربة صنج قوية تفتح لنا جنة أرضية.
عروس البحر, شلال من البشر يقتحم فضائها المتصل بالبحر. يا لعروس البحرمن كازينو ويا لها من مكان فسيح وملون. لقد سرقت عروس البحر من أشهر شوارع بيروت زحمته واستحال الليل فيها الى نهارمسترسل الألوان التي يشع من أيقاعها الألق.
الأفتتاح.. كان عاصفا بالفرح والدموع وبالزغاريد,أذ أغرى البحر بالفرجة والأسترخاء يصحبه الليل الندي المصرعلى عدم التزحزح داعيا النجوم الى
الى التمتع بكيف يفرح البشر..
نقولا شاوي الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني قطف زهرة أفتتاح المهرجان وأهداها لطيبي العالم وكادحيه, وألى رفيق درب النضال الرفيق الخالد فرج الله الحلو, ودعا الحاضرين بعد يومين الى قرية فرج الله الحلو كي يرفعوا سويتا مع السيده فرجينا الحلو الستار عن تمثاله الذي أقامه رفاقه تخليدا لذكراه وتمجيدا لسجله النضالي النظيف, الذي زاده بياضا ذلك الصعود الشامخ الى منصة المشنقة ليلتحق بقافلة الشهادة الشيوعية في الوطن العربي, يلتحق بفهد والشفيع وشهدي, وآلاف الشيوعيين الذين تلاقوا على حب أوطانهم والكادحين فيها.
لم أكن أعرف شيا عن المعلم الشيوعي فرج الله الحلو الا ما كان يهدر من ( جذور السنديانة الحمراء ) للرائع والممتع الرفيق محمد دكروب, في حكايته عن نشوء الحزب. كانت جمله عنه وجيزة, ولكنها أهابت بروحي أن اصطفي منها فكرة عن رمز من الرموز الذين أشرقوا ولم يغيبوا.
" ليس كلاما أنشائيا القول بأن روح فرج الله الحلو تجلت في الحزب والمؤتمر. ـ يقصد دكروب المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي اللبناني ـ وليس
كلاما أنشائيا القول أن فرج الله الحلو لم يكن حاضرا بصورته التي تتصدر قاعة المؤتمر, ولافي ذكراه المجيدة فقط , بل كان حاضرا خصوصا في العمل الأنساني نفسه للرفاق, في نتاجهم البكري وفي عطائهم ومشاركتهم
العملية في كل شيء, وفي قلب القلب من كل رفيق.
لقد انتصر فرج الله الحلو. ".
ذلكم الأقتباس وغيره مما حوته حكاية دكروب عن فرج الله الحلو شوقتني
أن أكون بعد يومين, قريبا من التمثال لأرى ملامح السيده فرجينا الحلو وهي تستعيد عمرها الذي مضى مع زوجها ورفيقها بصورة هذا التمثال, وكيف انها ستبقى مادامت حية وقادرة على الحركة على أدامته وزرعه بالورود والرياحين ليكون كسنديانة دكروب ينثر حبه للناس.
فرق فنية محترفه من دول مختلفة تشارك, من الأتحاد السوفيتي, المانيا الديمقراطية, كوريا الديمقراطية, هنغاريا, مصر, فلسطين, لبنان ونحن من العراق, فرقة من الطلبة والشباب, عاملة مطبعة, شرطي بدرجة لاعب كرة
قدم, مخرج مسرحي, موظف حكومي وممثل مسرحي, ربة بيت, فنان تشكيلي, منشدة غنائية كبيرة, ومطرب كبير. تلكم كانت مكونات الفرقة الفنية التابعة لأتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي.
عند ظهورنا على المسرح كان الخوف يشد أذيال ملابسنا الى الأرض, فما قدمته الفرق التي سبقتنا جعلنا في رهبة من الأمتحان, ولكن التحدي رمى وجوهنا بقفازه, فقبلنا التحدي تحت حيلة " مجبر أخاك لا بطل " , انشدنا
عمي يابو جاكوج, يطفال كل العالم , يابو علي, سلام , أستقبلنا الجمهور بعواصف من التصفيق حتى جاء دور أنشودة فرج الله الحلو. لم نصدق الحالة الأنفعالية العارمة للجمهور, فأن أسم فرج الله الحلو جعل مشاعر الجمهور تصادر وقت استراحتنا, أذ أجبرونا أن نعيد الأنشودة أكثر من مرة, حتى بتنا فرسان الحفلات اللاحقة في بعلبك وبيت الدين وسينما ستاركو والجلسات الخاصة.
تيقنت أن عظمة فرج الله الحلو, مبنية في وجدان اللبنانيين, حين جلسنا مع بقية الضيوف على منصة الشرف التي تتوسط وتمثال الحلو قلب القرية, سفح يتأرجح مع الريح على البحر, يراقصه شارع أسفلتي ملتو حتى حافة البحر.
سرعان ما أرتدى هذا الشارع اليتيم رداءا قرمزيا, ثم راح هذا القميص يدنوا منا رويدا رويدا, يقدم ألينا بلا نهاية, يسير الهوينا مع ألتواءات الأسفلت المحكمة بالأرض, حين لاحت تفاصيل الرداء الأحمر, فغرنا أفواهنا من كثرة البشر الذين كانوا معبأين بالرايات الحمراء والقرنفل الأحمر, مسيرة حمراء من عمق السفح الى الشمس.
نزلت من منصة الضيوف الى حيث تتجمع أطراف الرداء الأرجواني, قدمت السيدة فرجيني الحلو, يرافقها الأمين العام للحزب نقولا شاوي, وقفوا قبالة النصب, أمسكت قبضتها المرتعشة طرف الحبل, وأمسكنا نحن بقلوبنا, سحبت الحبل وهي تحكي لدموعها قصة هذا الشامخ الذي سيتأزل كواحد من خيار معلمي الشيوعية في العالم . كان النصب يمثل فرج الله الحلو مرتديا زي الفلاحين اللبنايين التقليدي وبيده منجلا مشهورا بوجه الفضاء . ومثلما صاح واحد منا, تلك هي بيروت, أنشد ذاته نشيدنا الذي صار عنوانا لنا في لبنان ... يا رفاق الفكر والدم ناضلوا..... أحنه وأنتو بدرب فرج الله الحلو.... درب لينين وفهد. ضج الجميع معنا بلازمتنا هذه .. لقد تحولت فرقتنا الشابة بفعل هذه الحدوته الى منجل يحصد النجاح تلوالنجاح, وعلى حد ما كان يردده اللبنانيون " ما بتحله السهريه .. الا بالفرقه العراقيه..".
لا أجدني وأنا أستذكرهذا المعلم من الطراز الأول الا أن استعير من حكاية جذور السنديانة الحمراء هذا الأستحصار المرهف عن فرج الله الحلو.." ...
لقد عرفت فرج الله الحلو في السنوات الأولى لتعرفي على الحزب. وأنني أطمح أن أصل الى يوم أملك فيه قدرة حقيقية على أعطاء تلك الأيام ـ الأعمق تأثيرا في نفسي وفي مجرى حياتي كله ـ ما ينبغي من دقة التصوير والتعبير عن القائد, والصديق والأنسان, عن الشيوعي الحقيقي الذي كانه فرج الله الحلو
ففي اللقاءات مع هذا الأنسان الحقيقي, لم يكن أي رفيق بسيط يشعر بأنه مع " قائد" يرمي الأوامر والتوجيهات... بل مع صديق قديم, حنون, وودود وأليف, وفلاح كريم, يجذبك الى الحوار معه, يشركك بهمومه الفكرية والحميمه, يبحث معك قضايا الحزب والمعضلات الني يواجهها, ويجعلك تشعر أنك مسؤول عن الأسهام في حل هذه المعضلات, وأهم من هذا يبعث فيك الثقة بأنك قادر على الأسهام في هذا, قادر على العطاء والأبداع, قادر على تطوير الحزب, وعملك الشخصي, كأي رفيق آخر, في القيادة أو القاعدة.. ".
#هادي_الخزاعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟