عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن-العدد: 2745 - 2009 / 8 / 21 - 10:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كتب السيد شامل عبد العزيز هذا المقال:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=181830
أرجو أن يسمح لي السيد شامل باستغلال مقاله كمطية لركوب موجة هذه المناقشات الشيقة التي دارت حول مقاله.
ولقد استرعى انتباهي سؤاله ظل يحرج به المعقبين عليه دون أن يتلقى جوابا مقنعا، ما عدا التهرب واللف والدوران. هذا السؤال هو: هل يوافق العلمانيون ( الإسلاميون ) على قطع يد السارق ؟
هو سؤال محرج للقرآنيين، ولهذا ظلوا في حيص بيص من أمرهم وهم الذين لا يأخذون بالسنة، ولهذا راحوا يفهمون ويفسرون الآيات على هواهم، وهو محرج لغيرهم ممن يأخذون بالسنة ولكنهم في حيرة من أمرهم حول ما يجب أن يأخذوا وما لا يجب، بل راحوا هم أيضا يتخلصون مما أصبح من المستحيل الدفاع عنه في بميزان العقل.
على كل حال الصراع بين واقع المسلمين المتغير وبين حراس النصوص الجامدة ظل دائما صراعا مأساويا. كانت هناك محاولات لتجاوز النص القرآني بدأت باكرا، مع الناسخ والمنسوخ، أي أن مؤلف القرآن كان قد اضطر إلى تعديل مواقفه بعد أن تغيرت الظروف وموجبات الدولة الناشئة، ولكن الأمور كانت سهلة بالنسبة إليه، لأن كل خيوط اللعبة كانت بين يديه سواء نطق باسم الله القرآني، أو باسم الله في الحديث القدسي أو باسمه الخاص (السنة)، وإن كان يضطر أحيانا إلى التريث بحجة انقطاع أخبار السماء وانتظار إسعاف جبريل عندما تستغلق عليه الأمور. ثم تواصلت المحاولات مع الصحابة خاصة عمر بن الخطاب الذي عطل العمل بآيات كان معمولا بها في زمن النبي مثل آية المؤلفة قلوبهم وآية اقتسام الغنائم (واعلموا أن ما غنمتم من شيء...) وأوقف تطبيق الحد على السارق في عام المجاعة لدواعي المصلحة العامة. ثم جاء الإمام علي ونصح ممثله للتفاوض مع الخوارج بقوله: لا تجادلهم بالقرآن، فإن القرآن حمال أوجه، وهذه إن لم تكن دعوة لتجاوز النص فهي دعوة لوضعه جانبا مؤقتا.
حاول، فيما بعد، المعتزلة، أن يتجاوزوا تناقضات النص، أمام محكمة المنطق الوافد مع الفلسفة اليونانية، وراحوا يجتهدون في حل الإشكال عبر ليّ أعناق الآيات وتحميلها ما لا تحتمل، وهذا أيضا نوع من محاولة تجاوز النص.
حاول فقهاء آخرون مثل الشاطبي عبر بهلوانيات متعبة على تطوير نظرية المقاصد والمصالح.
حاول الفلاسفة العقلانيون وعلى رأسهم ابن رشد تجاوز النص من خلال إخضاعه للعقل، وحسب رأيه فإنه عندما يكون هناك تعارض بين الحكمة (الفلسفة العقلية) والشريعة (النص القرآني خاصة) دعا ابن رشد إلى تجاوز التناقض من خلال تأويل الآية لتستجيب لما أثبت العقل صحته أو جدواه في حياة الناس.
وفشل هؤلاء جميعا أمام مدامك التقليد والجمود، وغرق العالم الإسلامي في الانحطاط نتيجة قتل العقل والالتزام بالنص الذي لا يستمد قيمته الحقيقية من ذاته بل من قيمة قائله: الله أو الرسول، وأي محاولة للخروج عنه لا بد أن تفضي إلى التشكيك في قيمة قائله.
مع محاولات النهضة التي بدأت مع الاحتكاك بالغرب دبت الحياة من جديد في بروكست وأخرج سريره المشؤوم، وراح يفرض على الجميع من رواد النهضة أن يقيسوا كل فكرة وافدة على سريره أي على القالب الإسلامي، ولكي تقبل الفكرة المبدعة أو الوافدة لا بد من انطباقها على القالب، وبما أن قالبهم لا يقبل إلا نفسه، شأنه شأن سرير بروكست في الميثولوجيا الإغرايقية، ويستعصي على أية محاولة للمطابقة فقد رفضت جميع المحاولات للتوفيق بين الإسلام ومنجزات الحضارة الحديثة من ديمقراطية وعلمانية ومختلف الحريات.
سرير بروكست يعود إلى الأسطورة اليونانية التي تحكي عن ذلك العملاق (بروكست) الذي كان عنده سرير غريب لا ينسجم مع أية قامة، ولهذا كان العملاق قاطع الطريق يستضيف ضحاياه ثم يربطهم فوق سريره، ويتوجب عليهم أن يكونوا على مقاسه بالضبط. في حاله الزيادة في الطول يقوم بقطع ما زاد، وفي حالة النقصان، يقوم تمديد الضحية حتى تبلغ المقاس. إلى أن قضي على بروكست من طرف تيزيزس الذي أخضعه لنفس المصير. الغريب في سرير بروكست أنه غير قابل للانطباق على أي شخص.
الإسلام والإسلاميون ما زالوا يستخدمون سرير بروكست هذا بلا جدوى منذ قرون في تعاملهم مع كل جديد وافد، ومع مقتضيات الحياة المستجدة بحجة أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأن العيب في المسلمين الذين انحرفوا عنه أو قصروا أو عجزوا عن فهمه. وعليهم هم أن يتكيفوا مع النص، وليس على النص أن يتكيف أو يحتجب من أجل الواقع لأنه مصدره هو الحق المطلق الذي لا يخطئ، وحتى عندما تكون التناقضات صارخة فهي هكذا لحكمة أرادها الله ونجهلها نحن، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
هذه الظاهرة أصبح ينظر إليها في علم النفس على أنها ظاهرة مرضية في حاجة إلى تدخل علماء التحليل النفسي، وهي تسمى مرض بروكست (syndrome de Procuste).
وهو مرض كثير الانتشار اليوم يمس شخصيات تزعم أنها شديد التمسك بالعقلانية. وهي عاجزة عن التفكير بطرق سليمة وتميل إلى القولبة حسب أمزجتها بذريعة البحث عقلانية مزعومة. وفي غالب الأحيان يقع العقل والعلم والحقيقة رهائن من طرف هؤلاء الأفراد المصابين من الناحية النفسية بجمود مفزع.
خرافة بروكست تعبر بعبقرية عن هذا الاتجاه العام نحو تشويه أو نفي الوقائع لكي يلوون أعناقها حتى تنسجم مع عقلية تقليدية أو دينية.
أتباع بروكست الجدد هو غالبا، مع بعض الاستثناءات، من طائفة المسيرين والمحاسبين والإداريين ورجال الدين أو حتى المختصين في بعض مجالات العلم. هم يمارسون طغيانهم في الإدارات والمؤسسات الكبرى، (وهم موجودون بكثرة في كل الأمكنة)، لكي يقوموا فيها بلعب دور القادة الصغار، فيمارسون فعل التسلط أو الخصي، ويقمعون باسم سلطتهم ويرغمون مرؤوسيهم على الدخول في الصف. يكثرون من النقد لأنهم يريدون دائما أن يكون الحق بجانبهم وأن تحظى حججهم بالقبول. سوء النية هو طبع ثان عند هذه الفئة. هم يفتخرون بامتلاكهم لمنطق خارق حتى عندما تخطّئهم الوقائع. ميلهم إلى تشويه أو نفي الحقيقة يجعلهم دغمائيين وأحيانا خطرين. من يعارضهم أو يشكك في "عقلانيتهم" يضع نفسه في خانة الإقصاء النفسي والتخوين الفكري والملاحقة الاجتماعية (نقلا عن ويكبيديا الفرنسية بعد الترجمة).
لا مخرج لنا للخروج من هذه المحنة التي طالت، إلا بالإمساك بهذا العملاق وسريره، وإخضاعه لنفس المصير الذي لاقاه بروكست.
سر قوة بروكست الإسلامي تكمن في الجهل وضعف مستوى التعليم والغفلة التي تسود شعوبنا والتي تجعلها تنساق وراء كل أنواع الدجل والشعوذة وتعطي الأولوية المطلقة للرجاء في جنة خرافية موجودة في لامكان عدمي بدل خوض غمار مغامرة الحداثة لتحقيق جنة حقيقية ملموسة على الأرض، وهي ممكنة، وهناك شعوب قطعت أشواطا كبيرة نحوها.
#عبد_القادر_أنيس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟