|
المثقف النقدي والحرث في الارض الحرام
حسن السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 2726 - 2009 / 8 / 2 - 10:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بات من المعروف ، ان للمثقف ادواراً وصوراً متعددة ، منها المثقف العضوي الذي نادى به المفكر اليساري انطونيو غرامشي وهو : ( المثقف المرتبط بطبقة معينة، حيث يقوم بتنظيم وظيفتها الاقتصادية ، وهو أيضاً من حملة وظيفة الهيمنة التي تمارس في المجتمع المدني، بهدف تحقيق قبول وإجماع الطبقات الأخرى، وذلك من خلال عملهم في مختلف الهيئات الثقافية والإعلامية ، كالمدارس والجامعات، وأجهزة النشر وغيرها . وفي هذا كله تبرز وظيفة العضويين باعتبارهم ( أسمنتاً )يربط البنية الفوقية والتحتية للمجتمع ) ، علما بان غرامشي يرى ان كل البشر يحملون بعدا ثقافياً حيث يقول : ( إن كل الأفراد مثقفون في نظري ... ولكن ليس لكل الأفراد وظيفة المثقفين في المجتمع ) أي ان ليس لكل فرد تلك الكاريزما و القدرة والقابلية على تنوير الجماهير والتأثير فيهم وقيادتهم ، اذ ان درجات الوعي والكفاءة والكاريزما ، تتفاوت من شخص لآخر ، وبمقابل المثقف العضوي ، هناك المثقف التقليدي وهو مثقف لايتمتع بروح المبادرة والارتباط بهموم الناس واشكالياتهم ، ويبدو ان أفضل توصيف لهكذا مثقف هو تسميته بالمثقف ا لبيروقرطي الذي يحبذ مراقبة مايجري من برجه العاجي دون ان يحرك ساكناً .. كما إن هناك المثقف المثالي النخبوي ، الذي يقدم حياته ثمنا للمثل العليا وفقاً لرؤية جوليان بندا بوصفهم قرابين على مذبح العدالة والحق ، فهم وفقاً لما يقوله المفكر الكبير (ادوارد سعيد ) في معرض حديثه عن مثقف ( بندا ) : ( يفترض بهم أن يجازفوا بخطر الحرق أو النبذ أو الصلب ، انهم شخصيات بارزة .. يجب أن يكونوا أفرادا مدققين وذوي شخصيات قوية ، وفوق كل شيء ، يجب ان يكونوا في حالة تضاد مع الوضع القائم على نحو شبه دائم ) كما ان هناك المثقف السياسي ، وهو صورة مكشوفة للمثقف البراغماتي الذي يقدم مصالح حزبه أو جهته أو فئته و مصالحه الذاتية على مصالح الآخرين . وهناك المثقف الديني المحافظ بـ ( بأختامه الأصولية ) والذي يرتبط كاثوليكياً بالنص والتنويعات الفقهية المستندة الى النصوص المقدسة وتأويلاتها التي تنسجم وتوجهاته الاعتقادية ، ولايشذ عن تلك القاعدة المثقف الديني الإصلاحي إلا بنسبة لاتتجاوز التحديث الجزئي للمفاهيم والممارسات ، كونه محكوم بالسياق النصي العام او الإطار الأيديولوجي المرجعي . وهناك المثقف ( الادواردي ) نسبة الى المفكر الكبير ( ادوارد سعيد ) وهو مثقف نقدي أي مثقف دينامي ، تواصلي ، مستقل ، سجالي النزعة ، ملتزما وفقا للرؤية السارترية ومشتبكا مع العالم ومعني بقضاياه المختلفه ، وهو بالإضافة الى ذلك كائن لاغرضي ، فضولي ان جاز التعبير ، ونقصد بذلك حبه الكبير للاستطلاع ، والحركة الدائبة بين مفاصل الأحداث والوقائع والمقترحات المطروحة على ارض الواقع ، والمواضبة على متابعة ما يجري من تغيرات على الجسد السوسيو ـ ثقافي والسياسي للمجمتع بشكل مباشر ، والعودة مابين الفينة والأخرى للبحث في أروقة التاريخ عن الخطابات ، والمكونات الثقافية للمجتمع لغرض تفكيكها وتعريتها للإفادة منها في فهم طبيعة المجتمع وطرائق تفكيره وبعبارة ادق : الوقوف على بنيته الثقافية وقراءتها نقدياً ، والعمل على معالجة نقاط الضعف والوهن وفرز الفصول المزيفة عن الفصول الحقيقية البنائة ، واستنطاق المسكوت عنه دون تحيز او انجراف مع تيار ما او رغبة ذاتوية وانما بموضوعية وحيادية تامتين ، والتزام محكوم بالمبدأ الأخلاقي : ( وذلك ان هكذا مثقف ،إنطلاقا من سارتر،يتمنهج مفهومه،كما عند إدوارد سعيد،في إلتزامه بمبادئه الفكرية الأخلاقية الأنسانية.المبادئ التي حتمت على سارتر رفض قبول جائزة نوبل لعام 1964 لأنها صادرة عن مؤسسة رسمية لها دوافعها السياسية المغرضة.. ) كما ان المثقف النقدي ، مثقف ذو بنية مركبة ، وهي خاصية للحصانة ضد أي انحياز اوتخندق اوتمحور حول بعد واحد . ففي هذا الصدد يقول ( ادوارد سعيد ) : ( لايوجد شيء كمثقف خاص ، نظرا لان لحظة تدوينك للكلمات ثم نشرها تدخل العالم العام . ولا يوجد مجرد مثقف عام ، شخص يوجد فقط كرئيس صوري او ناطق رسمي بلسان جماعة او رمز لقضية ، او حركة ، او موقف . ثمة دائما اثر شخصي وحساسية خاصة ، وذلك ما يعطي معنى لما يقال او يكتب ) . اذن ان المثقف النقدي ينطوي على ما هو ثنائي : عام / خاص .. مادي / فكري .. موضوعي / ذاتي ، بل ودنيوي / أخروي إذ ليس من المنطقي فصل مملكة السماء عن مملكة الأرض حينما نتحدث عن الثنائي او المركب بوصفه بنية مزدوجة . ومن سمات هكذا مثقف ، هو نزعته الحوارية ، مما يجعل بيته الحقيقي هو ( الفضاء العمومي ) الذي الذي نحته الفيلسوف الألماني ( كانت) وبلوره تواصلياً ( يورغن هابرماس ) وهو فضاء يتم فيه الوصول إلى جملة من الحقائق عن طريق توافق الآراء وانسجامها حيث تجرد الحقيقة من ( الف لام ) التعريف تلافياً لهيمنة حقيقة على اخرى والسقوط في فخ الجوهرانية والإطلاق : ( لان الأهم ليس ماادعيه انا او انت من الحقائق ، بل ما نستطيع الوصول اليه معا ونتفق عليه بشأنها ) مما تقدم ، نلحظ ان معظم المثقفين ، باستثناء المثقف النقدي الملتزم وفقا لما وصفناه به انفا ، يدورون في فلك الايدولوجية بوصفها نسقاًً شمولياً من الأفكار والمعتقدات ، والثوابت ، والتوجهات ذات ا لطابع ا لبنيوي ا لمحدد وا لمصمم مسبقاً ، حسب مقاساتها السوسيو ـ ثقافية والسياسية ... بينما يقع المثقف النقدي بالضرورة خارج اطار أي نسق شمولي ، او مؤسسة ثقافية بعينها ، وهو ليس بحاجة لبطاقة دعوة لحظورأي مناسبة ، لشعوره بانه معنياً بحيثياتها انطلاقاً من فكرة الالتزام الاخلاقي ، وهو لايتورع من الاصطفاف مع الضد حينما يشعر بان هذا الاخير يتعرض لمأزق ما ، من باب المبدأ الأخلاقي والعضوية الإنسانية بوصفها روابط ووشائج طبيعية مشتركة بين انسان وآخر ، دون ان يعني ذلك تخندقه وارتباطه كليا بافكار وتوجهات هذا الاخر .. لكن مثقفا نقدياً بهذه الصورة الصريحة الفعلية ، يحتاج الى ارضية مناسبة وفضاء مفتوح يمكنه من اداء مهامه على افضل وجه ، ونقصد بذلك توافر اكثر من هامش للديمقراطية الفعلية التي لاتنفصل عن مفهوم الحرية ، والوجود كما ينبغي ويليق بالكائن البشري بوصفه اعلى قيمة في سلم القيم الكونية . هنا علينا الاعتراف بان الكائن البشري وفي افضل الدول انفتاحاً وديمقراطية لايتمتع بالهامش الذي يرتقي وطموحه الذي لاتحده حدود في اداء مهامه الانسانية ، وذلك لان العالم وبشكل عام تحكمه الان ومن قبل ، منظومة من الايدولوجيات العلنية والنظريات الاجتماعية الكبرى وما تفرضه هذه الإيديولوجيات من وضع خطوط حمر وتابوات تتقاطع ومصالحها العليا وسياساتها العامة القائمة على الاعتقادات الراسخه ، إذ إن : ( الاعتقادات الراسخة هي أعداء الحقيقة وهي اكثر خطرا من الاكاذيب ) . مع ذلك فهناك هامش أو وسط صحي ما لكي يتحرك المثقف النقدي فيه و من خلاله ويمرر الكثير من فعالياته وأنشطته ونتاجاته تحت غطاء من المهارة والمناورة و التوريات الذكية ،وافتعال اكثر من إشكالية لجر الآخر للحوار والجلوس حول طاولة الجدل . محلياً وإقليميا نعتقد بان هكذا مثقف نادر الوجود بين ظهرانينا في الوقت الراهن ، وان وجد فانه سيحتاج الى طاقم من الأقنعة للحفاظ على كيانه من التهميش والإقصاء والتجاهل والفناء حينما يطفح به الكيل ويتخلى عن اقنعته ، وذلك لوجوده في الارض الحرام الملغومة بالأجهزة الإيديولوجية القاتلة والفايروسات البشرية المدعومة بالخطابات التي تشرعن هكذا ممارسات قمعية ، وتوفر لها الغطاء المادي والمعنوي والدعم اللوجستي ، وضمان عدم القصاص ـ هذا ان كان هناك قصاص ـ .. فهكذا ايديولوجيات وعلى سبيل المثال ، تنظر الى الاختلاف على انه تهديد خارجي من الممكن ان يخترق جسدها ويهدد كيانها ، ويمزق هويتها وبالتالي الاستحواذ على مصالحها ، بينما الاختلاف مناسبة للتعارف بدلالة قوله عز وجل : ( وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) . كما ان الاختلاف شرط اساسي لكل صيرورة وتقدم بحكم بنيته الحركية ، التي يقابلها التماثل والمطابقة التي تقود الى السكونية والتجوهر حول فكرة او موقف ما ، فبغير الاختلاف تفقد الحياة سر ديمومتها ووجهها المشرق ، وستصبح حياة بلا معنى ، وذلك : ( ان الاختلاف بنية لانتاج المعنى ) وفي حالة ضياع المعنى ، سيسود الغموض والعبث والارتجالية كل مفاصل الحياة ، التي ستتحول الى مجرد لعبة بلا قوانين او ضوابط ، أي حالة من الفوضى العارمة والتبلد والجهل : ( فلو لم تتميز الاشياء بعضها عن بعض ، لما كان ثمة إمكان لمعرفة شيء ولحل العماء ، ولو لم تتبدل الأشياء وتتباين لما كان ثمة تجديد وتطور ، ولولا اختلاف المراتب والدرجات لما انتظم امر ولسادت الفوضى ) . مع ذلك تتغاضى الايديولوجيات المتصلبة القاتلة عن سمة الاختلاف الإنسانية ، وتقدم بدلاً عنه ، او بشكل ادق ، تتبنى مفهوم ( الخلاف ) وهو مفهوم متوحش لاحضاري ، بسببه عانت البشرية من ويلات الحروب والحصارت ، وافرزت أنظمة استبدادية لاتقيم وزنا للإنسان ولاتعتمد القيم الأخلاقية الكونية المعروفة معياراً ، مثل الخير والعدالة والمساواة والحرية .. الخ . لذلك يبدو الراهن الثقافي العراقي بمعناه الشامل ، راهناً مظلماً كما لو انه نفق طويل لابصيص ضوء في نهايته ... وهذه ليست نظرة تشاؤمية ، انما الواقع ومعطياته هو من يؤكد ذلك ، سواء على مستوى الأغلبية ووعيها السائد بوصفه وعياً اداتياً ،مستلباً ومطواعاً للموجهات والايعازات الايديولوجية ، او بكتله ومكوناته السياسية والاجتماعية المتجاذبة و كذلك على مستوى النخب والقيادات التي تعمل وفقاً لمصالحها ومصالح المنضوين تحت لوائها ، دون ادنى شعور بوخزة ضمير وطنية او انسانية عدا استثناءات قليلة جداً .. هكذا يجد المثقف النقدي نفسه حارثا ً في الارض الحرام وراهنها الخانق ، ذلك الراهن الذي لايشجع ، بل لايسمح بولادة افكار جديدة ، او اسلوب حياتي مغاير لما هو سائد ومتواضع عليه ، وتلك الارض التي لاتنتج سوى الموت والخراب وبيادر الظلام ... مع ذلك فشرف المحاولة لايقل شأناً عن النجاح المتحقق لأنه متعلق بالأمل ، ولاعزاء لهذا المثقف المغترب بالضرورة ، سوى ان يحتسب دلالات العبارة العميقة التي تقول : ( عش اليوم لتقاتل غداً )
#حسن_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ضجة في إسرائيل بسبب صدور أمر بالتحقيق مع زوجة نتنياهو
-
-هذا لا يمكن أن يستمر-.. الجنود الأوكرانيون يأملون في التوص
...
-
زلزال قوي يضرب جنوب شرق جزيرة هونشو اليابانية
-
قتلى في غارات إسرائيلية على اليمن استهدفت مطار صنعاء ومواقع
...
-
كارثة بيئية في البحر الأسود: إنقاذ أكثر من 1200 طائر بعد غرق
...
-
اليمن.. ارتفاع حصيلة ضحايا الغارات الإسرائيلية على صنعاء وال
...
-
-تلغراف-: على ترامب أن يعرض على بريطانيا صفقة الانضمام إلى ا
...
-
فنلندا تحقق في -تخريب- كابل كهرباء بحري يربطها بإستونيا وسط
...
-
اتهامات للسلطات التونسية بالتنكيل بقيادي في حركة النهضة
-
كازاخستان تحسم الجدل عن سبب تحطم الطائرة الأذربيجانية في أكت
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|