|
صورة من ذاكرة
محمد حاج صاح
الحوار المتمدن-العدد: 2718 - 2009 / 7 / 25 - 08:06
المحور:
الادب والفن
بوضوح تامٍ كما في أعلى حالات الصحو كان يقرأ الإعلان: " مطلوب كهلٌ نحيفٌ بطول مائة وسبع وسبعين سنتمتراً. يزن أقلّ من ستين كيلو غراماً. حسن الوجه. بلا علّة في الأطراف. ويُستحسن أن يكون مريضاً بمرض غير ظاهرٍ مثل سرطان الكبد أو المعدة، لتعيينه عارض أزياء في القبر". الله أكبر!! لفظها وهو يقتعد المقعد ذي العوارض الخشبيّة في الحديقة التي بثّ في فضائها كلّ أحزانه المزعومة وهواجسه سنةً بعد سنة. لو لم يكن موغلاً في فرحته لأَجْفله صوته الذي انطلق من فمه عالياً مباغتاً، ولتلفّت حوله خجلاً ومعتذراً من الوجوه التي ستلتفت مستغربةً وهي تحدّق برجلٍ يقرأ في صحيفة ثمّ فجأةً يصرخ: الله أكبر… هو يعرف أنّهم لا بدّ مرّتْ عليهم حالاتٌ من الغبطة كهذه تنْفلت فيها أزِمّة كبْح السلوك بوجود الناس فشرعوا بصيحة مثل هذه، لكنّها لسبب ما توقّفتْ في حلوقهم، ولا بدّ أنّهم تلفّتوا رهبة من أنّ الآخرين لاحظوا شروعهم بصرخة استعصتْ قبل أنْ تهزّ حبال الحنجرة وقبل أن تَلوب قطعةُ اللحم العفنة في الفم… الله يلعنها من هبرة نتنة تفوووووووو!! فهي التي كانت السبب في أن يبقى بلا عمل طيلة شبابه… تفووووووووو… تفووووووووو باصقةٌ بلعابٍ على هذا العمر الذي يمضي ببطء سرسوب ماء عفن ضحل المجرى مُغطّى بالأشن… لو لم يكن مزاجه قد تحسّن، بلْ واغتبط بسبب هذا الإعلان لما نعت لسانه " بهبرة اللحم النتنة!! ". صحيحٌ أنّه كان بينه وبين نفسه شديد الحساب واللوم، يقضي يومه في تقريع نفسه على الحدّة الفجّة التي يتناول بها لسانه أموراً تُغضب الآخرين وتجعلهم ينفضّون من حوله كما لو كان به مرضٍ معدٍ؛ صحيحْ… لكنّه أيضاً كان مفخرته. فما كان يملك من الدنيا سوى ثيابه وقوت يومه وهذا اللسان اللاسع… يخون به نفسه في اليوم الواحد مرّات ومرّات، منذ خيانته الأولى عندما وقّع تخلّصاً من الألم على تلك الورقة اللعينة التي تحوّلتْ في ذهنه إلى صحيفة شيطان يظلّ ينخسه إذا ما نام ليوقظه واضعاً الورقة في بؤرة مخيّلته، أو يفرشها على الصحن الذي يتناول منه طعامه تماماً عندما تكون لذّة تذوّق الطعام قد انْسربتْ إلى نفسه، أو يبسطها على وجه العاهرة التي بين الحين والحين يتشهّى مثل كلّ الرجال أنْ يبحث في جسدها عن لذّة يفتقدها. ينسلّ حينذاك في خفاءٍ من نفسه متصوّراً ذاته مثل ذيل كلب يُسبل ذلاً. بدأ انحطاطه، كما يحب أن يصف، بكتابة مقالاتٍ مُصنّعة على هوى مجلات وجرائد لها اتجاهات يكرهها. ثمّ تطوّر إلى كتابةٍ أسخف، تأبى عليه أنْ يوقّعها باسمه بقيّةُ الضمير الذي كان بحجم قاسيون وأصبح الآن بقعةً من طحلب ماء حيائه الآسن. لا يذكر كيف اهتدى إلى أوّل مراسلٍ لجريدة من تلك الجرائد التي تصدر في الخارج المتكاثرة تكاثر السرخس في مياه الخلجان، باعه مقالاً وضيعاً مُصمّماً لهذا الزمان تحت تأثير بطحتين وكميّة من النفاق، ثمّ سرْسَبَ الأمر، ليجد نفسه محاطاً بهؤلاء الكتبة الصغار المستعدّين للدفع… يلتقطهم في المقهى… الأصحّ هم الذين يلتقطونه… يتفق معهم بلا كلام منه. هم يتكلّمون عن ما يريدون، بينما يظلّ هو صامتاً إلى أنْ يهزّ رأسه بالموافقة وهو ينطق بجملةٍ سُمّية، يُقنع نفسه بها كما لو كان يثأر ثأراً ذكيّاً من هذا الذي يستخدمه، مدّعياً في نفسه أنّهم لو كانوا يدركون ما في جملته من إهانة، لانْصعقوا ولانْتحر على الفور البعض منهم ممن لديهم بعض الحياء!!!… " لكنّ ماء الحياء غاض منذ انْهزم جيلٌ… لا… بلْ أجيالٌ أقنعتْ نفسها أنّ العهر هو أيضاً مهنة شريفة!!! "… هكذا يحلو له إنشاء جملٍ كبيرة ذات رنين مطرب لذاته المحتاجة أبداً إلى تعزية وإحسـاسٍ، وإنْ كان كاذباً، بالسـموّ والإدراك المتميّز عن العوامّ… العوام!! تلك المفردة العزيزة التي يختصّها للإدانة سرّاً، ويحبّ أنْ ينعت بها حتى المثقّفين الذين يُثيره مشهدهم حين يراهم، برأيه، منشغلين إمّا ادّعاءً واستعراضاً بقراءة الجرائد، أو مشتبكين في حوارات يسودها كلّ أنواع غصْب الآخر على الاقتناع، من حدْجٍ بعيون تريد القول: " انظروا إلى ما ورائي من جمر ذهن مُتّقدٍ!! " ومن تأشير بالأيدي وبالأصابع المتوتّرة حيث تنثال الأفكار سائلةً في الأعصاب، والأهمّ تلك التشنّجات والالتواءات والتغضّنات المرسومة على الوجوه رسماً متقناً ومُعاداً، فيه رغبةٌ ملحّة في الإقناع، حتى لو كان مشهد وجهي يوحي بأنّكَ يا منْ تحاورني عليكَ السماح لفكرتي بالدخول في رأسكَ قناعةً أو بقوّة مثقابٍ يدور ألف دورة في الثانية… اخترْ أيّهما أحببتَ!!! وفي نقْلةٍ مريرةٍ أخرى، هكذا يُضمر وصف الأمور في نفسه، تطوّر إلى كاتب عرضحالٍ للعاهرات، والبدو، والشوايا، وأصحاب الدكاكين المبهوظين من الضرائب، ومؤجري الغرف في سكن عائلاتهم، والعاطلين عن العمل، وأمّهات المفقودين، والنّشالين الصغار، وذوي العاهات، والمتقاعدين، والطلاب المطرودين من مدارسهم، والحزبيين الذين بارتْ أدوارهم، والأكراد الذين يحاولون الحصول على الجنسيّة، واللاجئين الهاربين من بلادهم، والشغّالين الذين جفّتْ عروقهم قبل أن يحصلوا ثمن تعبهم، والمشعوذين الذين ضُبطتْ بحوزتهم أدوات الشعوذة… يكتب لكلّ هؤلاء إنشاءً لا يجد من أصحاب الشأن في القرار إلا سخريةً من لغة غريبة عليهم، لغةٌ تموت كلماتها تماماً في اللحظة التي تنزاح عنها عيونهم المعتادة على أصولٍ مرعيّة في المكاتبات إلى المقامات الأعلى فيها كمّ من النّفاق الأصيل يجعل صاحب المقام في خجلٍ إنْ هو ردّ عرضحالاً يُنقّط ذلاً واستجداءً، ومع ذلك بالطبع لا يمكن الاستجابة لهذا العدد الهائل من التظلّم المستكين، إذْ لا بدّ وأنْ يكون الكثير منه استمراءٌ لنهب مال الدولة الذي يجب أن يُصرف في مُنجزات تبقى أبد الدهر شواهد!! هكذا بالضبط وبمثل هذه الجملة المأخوذة من الخطاب الإعلامي؛ يعذّب نفسه بنقد مُبغضٍ يأكله من الداخل ولا يجرؤ على إظهاره إلا بلفظ كلمات لا يفهمها أحد غيره… يسخر… ويسخر في السرّ وهو منكبّ على كتابة العرضحال مُدمدماً لشخص في داخله وصريف أسنانه خلف تقلّص عضلات حنكه يظهره كما لو كان مضروساً بوجع سنّ العقل… " مال الدولة هو مال الدولة وإنْ اختصصنا نحن بجزءٍ منه!! لا عيب!! أبداً لا عيب من أن يمتاز البعض عن البعض!! يا أخي حتى النبيّ خصّ نفسه وأهل بيته بخمسٍ. فإذا كان النبيّ وهو نبيّ قد خمّس الأموال فلمَ لا نناصفها نحن؟!!! إذِ الكلّ عائدٌ إنْ عاجلاً أو آجلاً إلى الوطن… قلْ يا من يعيب علنا أين يصرف المال؟!! أليس لبناء بيت وشراء حاجيّات في البلد ومن البلد؟!!…" هكذا يحاور الشخص الذي في داخله بلسانهم، ملتذّاً بألمٍ تصوّرهِ لهم وهم يحيكون في رؤوسهم كلاماً لن ينطقوا به، لكنّه متأكّدٌ من أنهم يتلفّظون به في أذهانهم، بلْ ويحدس شعورهم بالحسد النّافط من حروف الكلمات في العرضحالات الذليلة؛ إذْ لا يمكن للمعوز إلا أن يحسد ذا النعمة!!… " وقديماً كان الحسد بين الناس!! " يقتبس عنهم، مسروراً بذكائه، هذه العبارة التراثيّة الجاهزة التي كانت أيّام شبابه الفائر تنفّره وتجعله يسبّ التراث وكتبه الصفراء لأنها تُسمّي " الصراع الطبقيّ " بزعمه تسميةً مهينةً: الحسد… حسدْ؟!!! يا أبناء الزناة والزانيات… قديماً كان؟!! قديماً كان!! قديماً… !! يهمس في نفسه مكرّراً تلك الجملة الصفيقة لكنْ المكثّفة لخلاصة تجربة بشريّة وكأنّ كلمة " قديماً!! " باتتْ تخصّه وحده ولا تعني سوى ما ابْتلي به من انكسار أحلام وفوْت رغبات وموت أفكار تفوووووووو… لو لم يكن الإعلان مكتوباً بخطّ عريض وبتفصيل دقيقٍ، لما جرؤ على نزول ذاك الدرج الهابط من كلّ الاتجاهات بشكلٍ دائريّ نحو جوفٍ مظلم. درجٌ أثريّ أحجاره مُثلّمةٌ بينها شقوقٌ نبتَ فيها عشبٌ أكرتٌ قصيرٌ على تربة لا بدّ أنّ الرياح حملتْها وألقتها هنا لتكون مهاداً لهذا الطفيليّ الأصفر. عند باب الظلمة اقشعرّ شعر رأسه وتردّد بين أن يقدم أو يعود صاعداً، ففي أعماقه انْدفق شعورٌ مفاجئ يحثّه على النكوص إلى حيث اعتاد، لكنّه وبعزيمة اهتبال فرصة لن تعود في إيجاد عمل شقّ بخطواته القلقة الظلامَ… خطواتٌ قليلة ووجد نفسه فجأةً على حدّ نورٍ يملأ صالةً كبرى تغصّ بناسٍ دائبين في عملهم لا يلتفتون إلى شيء، ومن الغريب أن يلاحظ وهو في موقف الذهول أنّ خطّاً وهميّاً يفصل النّور عن الظلمة، وأنّه هو نفسه ينتصب مقسوماً من قمّة رأسه إلى أسفل قدميه بذاك الخطّ… قفاه في الظلمة ووجهه في النور… ليس ثمّة ما أخسره!! همس لنفسه وخطا، الخطوة التي أوقعتْه في لألاء الصالة الصاخبة بدمدمة الكثرة لا بالصياح. تقدّم بحذر الغريب من امرأة تكاد تكون عاريةً وبشرتها ذات اللون الأخضر المزرقّ تثير فيه استفهاماً. أَتصبيغ البشرة جزءٌ من عدّة الشغل هنا؟!! أم أن في هذا العالم أسراراً لا يعرفها وستكشف له إنْ هو تولّى الشغل؟!!. سألها وصفحة الجريدة مبسوطة على يده. أين…؟ لكنّها لم تنتظر ليكمل سؤاله، إذْ أشارتْ نحو مُنعزل بلّوريّ مميّز فيه مكتبٌ من بلّور يلمع بنورٍ لا يظهر مصدره وخلف المكتب جلس رجالٌ لهم لون البشرة ذاتها بثياب رسميّة مبالغ بها كالتي تُلبس في المحافل منكبّين على أوراق بين أيديهم بكلّ ما فيهم من اهتمام… مُتهيّباً اتجه إلى حيث أشارت المرأة مدركاً أنّ ذاك الجمع من الرجال هم اللجنة الفاحصة، وبمعرفة خفيّة فهمَ ما يتوجّب عليه فعله عندما ألفى نفسه في وسط صالة صغيرة تصطفّ إلى أساس جدرانها الزجاجيّة مقاعد فخيمة مكسيّةٌ بقماشٍ من الدامسكو الفاخر وخشبها الثمين مشغولٌ ومذهّب. يا للعجبْ!! مقاعد مفردة ملوكيّة المظهر للانتظار؟!!. على مقعد منها جلس وهو يحسّ بإلهامٍ أعلمه تمام العلم أنّ هذا المقعد وهذه الطربيزة التي أمامه وفنجان الصينيّ الذي يفوح منه البخار والخزانة الوطيئة المليئة بالمجلات والجرائد كلّها بانتظاره وتخصّه وحده. رشف من الفنجان رائحةً ونكهةً غمرتْه بلذّة لا يمكن أن تكون إلا في الحلم أو في الجنّة، ثمّ استلّ المجلات والجرائد واحدةً واحدة مُلقياً عليها نظرات عجلى، مُستوعباً بلحظات ما كان يمضي فيه أياماً أو شهوراً، مُدركاً بلا اندهاشٍ أنّه يعرف كلّ هذه المعلومات الكثيفة المنشورة في الصفحات، ويعرف وجوه كلّ البشر المصوّرين فيها… صور رجال تحتلّ الصفحة الأولى… يعرفهم… بلى يعرفهم جميعاً، لكنّهم في نضارة شباب لم يعهده فيهم قبل زمن نزول الدرج. على وجوههم ابتسامات مُلغّزة بطيبة غريبة كما لو أنّ أحداً أثناء التقاط الصور أمرهم جميعاً: ابتسموا… فابتسموا. وفي الصفحات الداخليّة صورٌ لنساء ملس البشرات مثل زجاج صاف، مُصبّغات مقيّفات كأنّ خلق الله ما عاد يفي للشهوة فزِدْن عليه… يعرفهنّ أيضاً، بلْ… وداخله شعورٌ بأنّه سيعرف كلّ أصحاب الصور حتى لو كان العدد سيصل إلى الملايين. لُفظ اسمه من مكبّر صوت خافت لكنّه يملأ السمع كأنّه يتكلّم في الأذن مباشرة: عبد الجبّار… تفضّلْ. عادةٌ من لعْثمة المشي من ما قبل نزول الدرج اعترتْه وهو يشهد مُتباغتاً انزياح حاجز البلّور المواجه لخطواته المضطربة… هكذا ألفى عبد الجبار نفسه في مواجهة عيونٍ تروزه وتمسحه من فوق إلى تحت مروراً بصفحة الإعلان حيث رأى بانتباه شديد أنّ عيونهم المتحرّكة بتوافق وانسجام لم تتلبّث عندها، ففزع من أن يكون كلّ هذا الذي يحدث عبث حلم، لكنّه أبعد الشكّ بيقين أنّ الحلم لا يمكنه له أبداً أنْ يحتوي كلّ هذه التفاصيل. بلا إبطاءٍ بادلوه عنايةَ أسئلة بأجوبة لا تعني شيئاً أبداً، لكنّها كانت تمرّ بأذنه، ثمّ إلى باطن دماغه لتستثير فيه نشوة معرفة نفسه، وأنه هو وحده منْ يهتمّ به هؤلاء السادة المحترمون… على شفتي الرجل الذي يجلس في الوسط افترّتْ ابتسامة لا تشبه الابتسامات التي تركها أعلى من الدرج هناك، ابتسامةٌ تعني أنّنا نعرفك جيّداً يا عبد الجبّار!! قال الرجل كمنْ يقرّر حقيقةً دهريّة: " أَهَّهْ… أنت آت بسبب الإعلان " ثمّ سكت وهو يتفحّص عبد الجبّار بعينين تكادان تجسّان جسده. وأضاف: " أجلْ… مؤكّدْ!! " أضاف كلمة " مؤكّد " خوفاً من أنْ تضيع فرصة العمل. " آااااا… آاااااا… " تلفّظ ذاك الشخص. " وهل بك مرضٌ باطن كسرطان الكبد… أو البروستات مثلاً؟!! وهل نقص وزنك سريعاً منذ اعتقدتَ أنّك خنتَ لأوّل مرّة؟!!! " انبهت عبد لجبّار مصعوقاً من انْكشاف سرّه المعذّب، وتأتأ: " فِفْـ… في الْـ… حقـْ… يقْـ… ـهْ… لا أدري!!! لأنّني لا أملك مالاً أستقصي به جسدي. لكنني فقدت خمسة عشر كيلو غراماً في السنة الأخيرة "" عظيم!! عظيم!! " صاح الشخص كما لو أنّه يَغبطه على فعلٍ يستأهل المكافأة. " هيّا إلى العمل " لفظ أحدهم وهو يقوم ويخطو خطوات ليصبح إلى جانب طاولة صُفّتْ علها أدوات قياس، بينما تهيّأ آخر لكتابة النتائج: " 177 سنتمتراً "… " عظيم!! " لفظوا جميعاً. "55 كيلو غراماً "… "عظيم!! " لفظوا جميعاً. " … انتقالاتٌ سرطانية متعدّدة في الكبد منشؤها الأوّل سرطان قصبيّ بسبب التدخين الكثيف "… " عظيم!!! عظيم!!! عظيم!!! " لفظوا جميعاً. " الفحص العمليّ! " همس أحدهم بأبّهة استعراضيّة، وبدا همسه كصوت مهيب ينبع من كلّ الأرجاء… " تعرَّ لو سمحتَ يا عبد الجبّار " … أمرٌ مدهشٌ أنْ لا يرى غضاضة في التعرّي في وسط هذا اللألاء من النور وسط هذه الصالات البلّورية الشافّة التي يرى فيها الناظر من هنا إلى الأفق الأوّل الذي بات عبد الجبار على يقين من أنّ وراءه آفاقاً وآفاقاً. تعرّى عبد الجبّار من كلّ شيء وهو يبادل الجميع ابتسامات سعيدة. ثمّ ألبسوه مختلف أنواع اللباس، وفي كلّ مرّة ينبهتون، ويبدو على ملامحهم إعجاب مثير يشي بأنّكَ يا عبد الجبّار لُقْية وأيّ لقية!! " والآن جرّبْ لنا يا عبد لجبّار هذا الكفن الفرعونيّ المصنوع مـن الكتّان وتخيّلْ نفسـك محنطاً داخله… يعني تخيّلْ دمكَ مُفرّغاً وأحشاءكَ منزوعةً ودماغكَ مسحوباً… نعني أنّك داخل كفن الكتان تتكوّن من جلد وعظم… هل استوعبتَ يا عبد الجبّار؟!! " " بلى تصوّرتُ تماماً " تفاصح عبد الجبّار مغتبطاً ولسان حاله يقول أيّ مهنة جميلة هذه!! إنّها حتى لا تلتزم جهداً!! " عظيم!! رائع!! جميل!! " صاحوا جميعاً عندما تمدّد عب الجبّار في هيئة فرعون محنّط. " عظيم!! هائل!! رائع!! قمْ يا عبد الجبّار. انزعْ هيئة الفرعون عنك… مقبول بامتياز يا عبد الجبّار… اقتربْ يا عبد الجبار… هذا عقد عملك يا عبد الجبار… وقّعْ هنا يا عبد الجبّار…" … بضع خلايا من ذاكرة عبد الجبّار تذكّرتْ تماماً برعبٍ لا يُطاق صورةَ اعترافه في خيانته الأولى، إنّها تكاد تتذكّر حتى الخطوط النسيجيّة للورقة… الورقة ذاتها… الحجم ذاته… الكلمات ذاتها التي لا تفصلها علامات ترقيم ولا تنقيط… " إنّه ليس عقداً لعملٍ، بلْ هو اعترافك ذاته يا عبد الجبّار!! " بهذه الكلمات أرادتْ خلايا الذاكرة أنْ تصرخ على لسان عبد الجبّار… لكنْ… في اللّحظة نفسها كُمّمتْ وماتت لتخلّف ذاكرةً جديدة ناصعة. ومن عجبٍ أنّ عبد الجبّار العاري الجسد وهو يمسك القلم لا حظ بلا استغراب لون جلده الأخضر المزرقّ فما همّه بشيء ولاحظ أيضاً أنّ القلم خطّ توقيعه متقناً. وبإلهام عرفاني أدرك عبد الجبّار أنّ قطعة اللحم التي في فمه… لسانه… ستصبح من الآن فصاعداً ذات وظيفة هيّنة بسيطة لا تزعج أحداً ولا تتعب صاحبها… ستصبح حتماً أداةً نافعةً مثل ملعقة عميقة مخصّصة لتناول الحساء… يا لَلْغبطة!!! د. محمد الحاج صالح
#محمد_حاج_صاح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|