أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين - اصول الفلسفة الماركسية . الدرس التاسع















المزيد.....



اصول الفلسفة الماركسية . الدرس التاسع


جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين

الحوار المتمدن-العدد: 2504 - 2008 / 12 / 23 - 09:54
المحور: الارشيف الماركسي
    


الدّرسُ التاسع

ميزة النّزعة المادّية الماركسيَّة الأولى
مَادّية العَالم


1 – الموقف المثالي
2 – النظرة الماركسية
3 – المادة والحركة
4 – الضرورة الطبيعية
5 – الماركسية والدين
6 – الخلاصة

1 – المَوقِفُ المِثالي
تقوم أقدم صورة للنزعة المثالية على شرح الظواهر الطبيعية بواسطة فعل قوى غير مادية، واعتبار الطبيعة مزودة "بأرواح" تسيرها.
ويبدو أنه ليس من الصعب محاربة هذه الصورة من النزعة المثالية. فلقد أدى تقدم الإنتاج والوسائل التقنية وتقدم العلم إلى القضاء على هذه الشروح بالتدريج. فإذا بالشعوب المتقدمة تقضي، منذ أمد بعيد، على جنيات النار والماء والهواء، وعلى القوى الغريبة التي يسيطر عليها السحر فتمسي قصص الجنيات حكايات تردد على مسامع الأطفال.
وهكذا وّلى عهد الاعتقاد بوجود "الأرواح" أو "النفوس" ولم نعد نقول بأن "الطبيعة تكره الفراغ" كلما صعد الزئبق في ميزان الطقس (البارومتر) كما لم نعد نقول بأن الأفيون ينوم لأن يملك "فضيلة التنويم" لأن الأطفال وحدهم هم الذين يثورون على الأشياء التي آذتهم كما لو كانت هذه الأشياء تملك ارادة شريرة تدفعها للأذى فإذا بهم أشبه بأولئك الذين يتملكهم الغيظ ضد "الحظ السيء" أو يستخدمون جوالب الحظوظ.
لقد أزال نيوتن من أرجاء الفضاء الملاك الحارس الذي كانت العناية الألهية قد أقامته على كل كوكب ليسيره في فلكه. كما قضى الفلاسفة الديكاريتون، من جانبهم، على الزعم القائل بأن للحيوانات "نفسا" فتساءل ديدرو ساخرا عما إذا كان العضو المبتور من الحيوان لا يزال مركز الحركات العضلية، لأنه يجب أن نتصور وجود "قطعة من النفس" في ذلك العضو لتفسير حركته.
ومع ذلك فانه إذا كانت الفكرة، القائلة بأن كل ظاهرة في الطبيعة تتطلب فعل روح خاص، غريبة عنا اليوم، فأن الفكرة القائلة بأن العالم في مجمله بحاجة، كي يوجد، لروح أسمى شامل لا تزال حتى اليوم حية في الأديان الموحدة .
يعترف التوحيد المسيحي مثلا بوجود الواقع المادي في العالم، ولكن هذا الواقع المادي حقيقة ثانوية مخلوقة. أما الكون الحقيقي والواقع النهائي العميق فهو الروح، والله روح صرف شامل. وهاك مثالا لما يسمى بالمثالية الموضوعية.
اتخذت هذه النظرة الفلسفية عدة صور وأشكال. إذ ليس الواقع المادي، في نظر أفلاطون، سوى انعكاس للعالم المثالي، عالم الأفكار، حيث يحلق الفكر الصرف الذي لا يحتاج للعالم المادي في وجوده. ولم يكن العالم في نظر السوفسطائيين سوى كائن حي هائل، تحييه نار الهية داخلية، أما هيجل فهو يعتقد أن الطبيعة وتطور المجتمعات الإنسانية ليس سوى الغلاف الخارجي والمظهر المرئي وتجسد الفكر المطلق الشامل الذي يوجد نفسه.
وهكذا نرى أن العالم في نظر جميع هذه الفلسفات مادي في ظاهره، أما سبب وجوده الحقيقي فهو في وجود الروح. وهذا الروح مستقل عن وعينا الإنساني الفردي ولهذا ضُمت هذه الفلسفات إلى النزعة المثالية الموضوعية.
ويمكن أن نشير أيضا إلى أن النزعة المثالية الموضوعية تؤدي غالبا، فيما يتعلق بالإنسان، إلى التمييز بين النفس والجسد فتصل النفس بالعالم الروحي وتصل الجسد بالعالم المادي. تلك هي حال النزعة المثالية المسيحية. وكذلك تسمى النظرية التي تجعل الإنسان مرتبطا بمبدأين النزعة الثنائية (dualisme). وتقوم النزعة الثنائية، في العلوم الإنسانية، على النزعة المثالية.
أ) لأنها تفسر الكائن الطبيعي بوجود "نفس" في داخل هذا للكائن.
ب) لأنها تعلق وجود هذه "النفس" على وجود روح أعلى، لأنها لو علقت وجود هذه النفس على وجود مبدأ مادي لما كانت ثنائية بل موحدة.
وهكذا نرى أن النزعة الملحدة الساذجة تنتمي للنزعة الثنائية. فهي تنكر وجود الله ولكنها لا تعتمد على نظرية مادية علمية. بل تتحدث عن "الروح الإنساني" و "الوعي الإنساني" كما لو كان هذا الروح مبدأ مستقلا بذاته، فهي بذلك مدينة للنزعة المثالية، وتلك هي حال فلاسفتنا الجامعيين علمانيين كانوا أم روحيين. ولهذا لا تجزع الكنيسة كثيرا من هؤلاء الملحدين المثاليين: أمثال مين دوبيران(Main de Biran) في عهد نابوليون وبرجسون (Bergson) وفرويد (Freud) أو كامو (Camus) في عهد الاستعمار. لأنها تعرف وتقول بحق أن هؤلاء الفلاسفة ليسوا سوى نعاج ضالة، وكثيرا ما نرى هذه النعاج، تعود إلى الحظيرة، في نهاية المطاف.
إذا كانت النزعة الموضوعية، في بعض العصور، قد أدت إلى وجود فلسفات كبرى ذات نواة عقلانية (Rationnel) كالفلسفة الاستعمارية في عصرنا حين تشعر البرجوازية في رمقها الأخير أنها بحاجة لتضليل الجماهير وإبعادها عن التفسير المادي للعالم بجميع الطرق والوسائل فان النزعة المثالية تمسي نزعة غير عقلية.
يفسر فرويد، مثلا، الإنسان وظواهر الحياة الاجتماعية بوجود قوة غير مادية في الإنسان تظهر في نوازعه الخفية يسميها "اللاوعي". وهكذا يتيح فرويد فرصة نادرة للمشعوذين لاستغلال السذج من الناس. ذلك الآن "اللاوعي" هو آخر صورة للاعتقاد بوجود القوى اللامادية في العالم.
ويقضي برجسون من جهته على مادية العالم. ذلك لأن مادية العالم بالنسبة إليه أنما هي ثمرة فعل خلاق. وهي في جوهر حياة. فكل مادة هي ثمرة "دفعة حيوية" هائلة تدفع بالعالم. والحياة نفسها ما هي في نظر برجسون؟ هي "الوعي" والفكر والروح. فهو يقول: "الوعي عامة ملازم لوجود الروح الشامل ".
الوعي هو مبدأ الحياة. وبدلا من أن تكون المادة هي الأساس الضروري لنمو الوعي، فأن الوعي، على العكس، هو الذي يفسر لنا نمو المادة حين يتجسد منها.
ذلك هو برجسون الفيلسوف "العبقري" المعاصر الذي جعلته البرجوازية المعاصرة من أعظم الفلاسفة، وتلك هي الفلسفة التي يدحض بها النزعة العلمية المغالية (Scientisme) محاولا التقليل من شأن العلم.
وتتابع النزعة المثالية هجومها في الميدان العلمي فإذا بنا نرى بعض العلماء المثاليين الأميركان يحاولون التدليل "علمياً" على خلق الكون، وعلى عمر الكون وعلى الزمن الذي استغرقه هذا الخلق، وأعادة بناء النظرية القديمة حول "موت العالم" الخ!
وإذا ما تنبهنا أخيرا إلى عودة "العلوم الغيبية" للظهور من جديد وتلك النزعة الروحانية (Spiritisme) التي شجعها برجسون وأنصار فرويد للحيلولة دون الجهلة والأغبياء والتفسير المادي للأمراض الاجتماعية التي يقاسونها، أدركنا بوضوح أهمية النظرية الماركسية حول مادية العالم.

2 – النَظْرَة الماركسِيَّة
تقوم النزعة المادية الفلسفية عند ماركس، على عكس النزعة المثالية التي تعتبر العالم "تجسيدا" "للفكرة المطلقة" و "الروح الشامل" و "الوعي"، على المبدأ القائل بأن العالم، بطبيعته، مادي، وأن مختلف ظواهر الكون أنما هي جوانب مختلفة للمادة في حركتها، وأن العلاقات والشروط بين الظواهر التي يكشف عنها المنهج الجدلي هي القوانيين الضرورية لنمو المادة المتحركة، وأن العالم ينمو حسب قوانين حركة المادة وهو ليس بحاجة لأي "روح شامل ".
يشير ستالين هنا، في حديثه عن النزعة المثالية، إلى فلسفة هيجل الذي تحدثنا عنه آنفا. ذلك لأن فلسفة هيجل تمثل آخر فلسفة مثالية في تاريخ الفلسفة، وهي تمثل مختصرا منسجما لجميع الميزات التاريخية للنزعة المثالية الموضوعية، في ميدان الطبيعة والمجتمع.
ويلاحظ ستالين أن مختلف ظواهر الكون لا تحدث بفضل تدخل أرواح وقوى "لا مادية" بل هي جوانب مختلفة من المادة المتحركة.
ويشير ستالين كذلك إلى ضرورة طبيعية كامنة في المادة، وهي أساس قوانين الكون التي يقيمها المنهج الجدلي.
وأخيرا يشير ستالين إلى خلود العالم وخلود المادة المتحركة التي تتحول باستمرار.
3 – المَاديَّة وَالحَرَكَة
أن مسألة علاقات المادية بالحركة مسألة خطيرة في تحديد كل من النزعة المثالية والنزعة المادية.
ذلك لأن النزعة المثالية تعتقد أن الحركة والنشاط والقدرة الخلاقة أنما هي من ميزات الروح فقط. وهي ترى أن المادة عبارة عن كتلة جامدة سلبية لا صورة لها. وهي بحاجة لميسم الروح الذي يحييها كي تتخذ صورة معينة. وهكذا ترى النزعة المثالية أن المادة لا يمكن أن تنتج أي شيء بنفسها فإذا ما أخذت تتحرك فأن ذلك بفضل الله أو الروح.
ولهذا فأن فصل المادة عن الحركة طابع مميز للفكر الميتافيزيقي. كما أنه منهج ضروري في بداية العلوم كلما كانت المادة الثابتة أسهل في الدراسة من المادة المتحركة.
حتى إذا ما ازدهرت العلوم الحديثة ظلت الفكرة القائلة بأن الحركة قد وهبها الله للمادة عند الخليقة.
وهكذا تخيل نيوتن، وهو الذي طور علم حركة الأجسام السماوية، الكون على أنه ساعة ضخمة محكمة الصنع، ولكنها كانت بحاجة لهزة أولية سيرت آلاتها.
ذلك لأن أول علم أصاب حظاً من الكمال هو علم الميكانيكا أي علم تحركات الأجسام الصلبة في الفضاء، سواء كانت سماوية أم أرضية. ويمكن لأول وهلة أن نفترض في علم الميكانيكا أن كمية المادة في جسم من الأجسام تتحرك مستقلة عن السرعة التي يتحرك بها. ويبدو هذا تأكيدا للفكرة الميتافيزيقية القائلة بأن المادة والحركة حقيقتان متميزتان.
أما النزعة المادية فهي تقول، على العكس، بأن الحركة صفة أساسية للمادة و أن المادة هي حركة، وتخيل ديمقريط الذرات التي تكون العالم تدفعها حركة خالدة.
ولقد أثرت هذه الأفكار في عصر النهضة، وقام غاليلي، في مطلع القرن السابع، بدراسة سقوط الأجسام دراسة علمية، كما أدى تطور الرياضيات إلى التدليل، لأول مرة، على حركة الجسم الذي يهوي إلى الأرض بصورة مرضية. وهكذا أدى تقدم العلوم إلى تقدم النزعة المادية، وظهور الفلاسفة، ومنهم ديكارت، الذين قالوا بأن كل شيء في الطبيعة تفسره قوانين حركة الأجسام. فحل محل تأثير الفعل الإلهي حتمية صارمة.
يفسر لنا هذا النزعة المادية الفرنسية في القرن السابع عشر، وهي تمثل تقدما عظيما بالنسبة لمختلف صور النزعة المثالية الدينية. ومع ذلك فقد كانت هذه النزعة المادية ناقصة، ذلك لأن علم الميكانيكا، كما رأينا، كان يساعد آنذاك على افتراض أن الحركة قد جاءت إلى المادة "منذ بدء الخليقة" مما يترك المجال لعودة النزعة المثالية الدينية. ومع ذلك فقد دافع أقوى المفكرين، أمثال ديدرو، بنجاح عن الفكرة القائلة بأن الحركة صفة كامنة في المادة.
غير أنه يجب هنا أن نشير إلى واقع تاريخي وهو أن الناس لم يكونوا يعرفون سوى قوانين الحركة في المكان بصورة علمية. ولم تكن صور حركة المادة الأخرى قد كشفت عن قوانينها، ولم تكن علوم الكيمياء، والحرارة، والحياة قد ظهرت للوجود. ولهذا فسرت جميع الظواهر التي تدرسها هذه العلوم بواسطة أسباب ميكانيكية. فضل العلماء في جهلهم ميزة كل شكل من أشكال الحركة في المادة، ومن هنا نشأ اسم النزعة المادية الميكانيكية المغالية (Materialisme mecaniste) الذي أطلق على النزعة المادية في ذلك العصر. ويلاحظ انجلز أن ذلك يدل على ضيق أفق النزعة المادية السابقة على ماركس.
ولهذا لم تنجح هذه النزعة المادية في تفسير الأشكال العليا لحركة المادة، كالحياة والفكر.
فقد كان الديكارتيون، مثلا، يعتقدون أن الحيوانات لا روح لها، فهي أشبه بالآلات. فكان أن أخذ العلماء يحاولون صنع الإنسان الآلة (Robot) لتقليدها. غير أنه من الواضح أن الجسم الحي لا يشبه الآلة مهما كان نصيبها من الدقة والأحكام، وبالرغم من أن "بطة فوكانسون" الشهيرة (Canar de vaucanson) كانت تقوم بجميع وظائف الحياة فأنها كانت تهمل وظيفة التناسل.
وهكذا تشوه النزعة المادية الواقع. كما أنها تجعل من الإنسان ثمرة سلبية للطبيعة لا تأثير له في المادة ولا حول له ولا حرية.
وتعتمد النزعة المثالية في هجماتها في الواقع على النزعة المادية الآلية التي تتيح لها فرصة نادرة لمثل هذه الهجمات فتلح في القول على جوانب الواقع التي تشوهها النزعة المادية الآلية.
ومن هنا كان القول "عن النزعة المادية التي تجعل من الإنسان آلة وإنسانا آليا" حتى إذا ما أخذنا بدراسة صور الحركة المادية الأخرى كالحرارة والكهرباء والمغناطيس والعمليات الكيمائية والحياة لم تعترف النزعة المثالية بهزيمتها. فهي تعلن، معتمدة على القول بأن المادة جامدة، أن الله قد وهب المادة "قوى" كالقوة الكهربائية والقوة المغناطيسية والقوة الكيمائية والحياة والروح وأن المادة لا تستطيع خلق جميع هذه القوى. ذلك هو رأي الفيزيائي الإنجليزي جول (1818 ـ 1889).
ولقد استطاعت النزعة المادية الجدلية أن تفسير هذه الظواهر تفسيراً مرضياً فدلت على أن هذه الظواهر أنما هي صور لحركة المادة، وأن المادة لا تستطيع فقط إحداث الحركة بل تستطيع أيضا إحداث تغييرات نوعية، وأنها تملك ديناميكية داخلية نشيطة وقدرة على الخلق تعتمد على وجود التناقض داخل الأشياء ذاتها.
وصفنا هذه النظرة الجدلية لحركة المادة عند دراستنا للجدلية، ولقد أثبتت العلوم صحة هذه النظرة. ولهذا يؤكد ستالين في النص الذي ذكرناه آنفا أن مادية مختلف ظواهر الكون لا يمكن فهمها علمياً إلا إذا قامت قوانينها على نهجٍ جدلي، والا أتاح العلم الفرصة لكل تفسير مثالي.
والاكتشافات العلمية الكبرى التي أظهرت بوضوح جدلية الطبيعة وأتاحت تجاوز النزعة المادية الآلية وأقامة النزعة المادية الجدلية هي ثلاثة اكتشافات:
أ) اكتشاف تحول الطاقة الذي أوجد فكرة التغير النوعي وأظهر مختلف القوى الفيزيائية على أنها مظاهر لحركة المادة.
ب) اكتشاف الخلية الحية الذي كشف سر تكون الأجسام الحية وأتاح تصور الانتقال من الجسم الكيمائي إلى الجسم الحيوي، وإدراك نمو الكائنات الحية.
ج) اكتشاف تطور الأنواع الحية الذي قضى على الحاجز الميتافيزيقي بين مختلف الأنواع، بين الإنسان وسائر أنواع الطبيعة، وكذلك اكتشاف نظرية التطور عامة التي أظهرت الكون جميعاً، والمجتمع الإنساني، على أنه تطور تاريخي طبيعي، فإذا بالمادة تبدو وكأنها تصاعد في نمو تاريخي.
ومع ذلك كان لا بد من إنتهاج المنهج الجدلي بقوةٍ لإدراك أهمية هذا الاكتشاف وهذا ما فعله ماركس وانجلز.
وهكذا يبدو أن النزعة الجدلية هي الوحدة التي استطاعت أن تفسر الظواهر العليا كالحياة والفكر تفسيراً طبيعياً دون أن تنزع من هذه الظواهر أية ميزة خاصة أو تعتمد على مساعدة "مبدأ حيوي" أو "روحي" فما هي تفاصيل هذا التفسير؟ يجيب العلم على هذا السؤال، ذلك العلم الذي تنير طريقه النزعة المادية الجدلية، العلم الذي نادى به ميتشورين وليسكنوا وأولجا لبيشنسكايا وستشنوف وبافلوف وأمثالهم.
تؤمن النزعة المادية الجدلية بالعلم، بينما تسرع النزعة المثالية إلى إعلان عجزها كما لو أنها كانت تنتظر جوابا جاهزا. ولا يطلب جواباً مباشراً على المشاكل التي تقف في وجه العلم إلا الأغبياء. وليس لدى العلم جواب جاهز، وأما النزعة المثالية فلديها مثل هذا الجواب وهو القول بوجود "الروح". ولكن هذا القول ليس سوى كلمة تخفي الجهل وراءها. ولما كانت "الروح" لا تمتاز بأية صفة من الصفات المادية المعروفة فأنها تسمح "بتفسير" كل ما يتعلق بصفات المادة المجهولة. ولهذا يقول المثالي:
"أنسب كل ما اجهله إلى الروح".
يتصور المثالي، الذي يأخذ على النزعة المادية أنها لم تتطور منذ ألفي سنة(!) وأنها تردد دائما نفس الشيء، المادة بصورة جامدة لا تتغير. حتى إذا ما اكتشف العلم وجها جديدا لحركة المادة الشاملة وضاق مجال "التفسير" المثالي أسرع المثالي إلى القول بأن "المادة" قد زالت وتبخرت الخ. أما الذي تبخر حقيقة فهي الفكرة الضيقة الآلية الميتافيزيقية التي تصورها عن المادة ولا غير. إذ لا يجب أن نخلط بين الأفكار العلمية المثالية عن المادة التي تعبر عن حالة معلوماتنا في فترة معينة من الزمن وبين الفكرة الفلسفية عن المادة التي تقوم عليها الأبحاث العلمية.
قال انجلز: "يجب على النزعة المادية أن تتخذ طابعاً جديداً مع كل اكتشاف كبير جديد".
نخلص من ذلك إلى القول مع انجلز بأن "الحركة هي صورة الوجود للمادة" وأن منبع الحركة والديناميكية قائم في المادة نفسها.
ولهذا لا تعني النظرة المادية للطبيعة سوى فهم الطبيعة كما هي بدون أي عامل أجنبي .
4 – الضَرُورَةُ الطَبيعيَّة
يجب أن نوضح القول من جديد إذ أردنا أن ندرك تماما فكرة "الحركة الذاتية" للمادة. إذ أن هذه الحركة الذاتية تؤدي لظهور كائنات طبيعية لها صور معينة مما يتيح الفرصة لهجوم جديد تشنه النزعة المثالية.
كيف نفسر مثلا أن قطع الثلج تتبلور دائما بصورة هندسية معينة؟ وكيف أن بيضة الدجاجة تفقس صوصاً وبيضة الطير تفقس طيراً صغيراً بينما هذان الحيوانان لا يوجدان في البيضتين؟ لأن هاتين البيضتين لا تختلفان في المادة وإنما في الصورة فقط. نرى أن هذا السؤال عام يمكن إثارته في جميع أجزاء العلوم "الوصفية" لأنها تدرس الصورة والأشكال، الأشكال الجغرافية والأشكال المتبلورة والصور النباتية والحيوانية والنحوية ولا تهمل ضروب الحركة والسلوك التي تسمى "بالغرائز" في الحيوانات.
ترد النزعة المثالية على ذلك بقولها أن صورة الشيء الطبيعي تتحقق بواسطة المادة، ولكنها موجودة قبل هذا "التحقق"، وأن الصورة هي التي تقرر نمو الكائن الطبيعي، فهي تكون "مصيره" وإذا بالطبيعة تخضع "لمخطط" سابق عليها.
وكذلك "يُوجه" التطور مسبقاً، فهو لا يتقرر بواسطة ظروف حياة الأجسام الحالية بل بواسطة "هدف" تسعى للوصول إليه، فإذا "بالغريزة" عبارة عن مظهر "لقصد" ((lntention الحيوانات الأعمى. وهكذا تكشف الطبيعة عن وجود "عقل" في داخلها. ولكن أين يمكن أن توجد "الصورة" و "المخطط" و "الهدف" و "العقل" إذا كانت سابقة على نمو المادة الناقص؟ لا يمكن أن توجد الا داخل "عقل" سام يتصورها. هذه العقيدة هي عقيدة الغائية (Finalite). ونحن نرى بذلك أن "الغائية" هي نتيجة للنزعة المثالية التي تعتبر العالم تجسيداً لفكرة.
أما جواب النزعة المادية الجدلية فهو يختلف عن ذلك (أما النزعة المادية الآلية فهي تعجز عن الإجابة).
بل تترك المجال واسعاً أمام القول بوجود الغائية. ترى النزعة المادية الجدلية أن الصورة (La forme) تتعين بواسطة المحتوي (Le Contenu) الحالي أي بواسطة "العلاقات والظروف المتبادلة بين الظواهر"، بواسطة الحالة الراهنة للمادة وحال التناقضات التي تنمو داخلها والتي ترتبط بظروف البيئة المحيطة بها. وأفضل دليل على ذلك أنه يمكننا أن نتدخل في نمو صورة معينة.
ولقد برهن علماء الحياة (البيولوجيون)، بواسطة التجربة، على العلاقة بين الصورة والمحتوى. فلو أننا نقلنا جزءاً صغيراً من مادة بيضة تنمو الى مكان آخر من البيضة لشاهدنا نمو قدم في غير مكانها. وهكذا نخلق بصورة صناعية كائناً غريباً ولا تتميز مختلف أجزاء مادة البيضة عن بعضها، خلال العملية، الا بصفاتها الكيمائية وبطبيعة المواد التي تتجمع فيها. ويتنوع هذا المحتوى الكيمائي بتأثير الظروف الخارجية (كالحرارة مثلا)، وعلى أساس تناقضاته الداخلية. فالذي يعين صورة جسم الحيوان هي الطبيعة الحيوية الكيمائية لمادة مختلف بيوض الأنواع المتعددة. وهكذا نرى أن نمو المحتَوى يسبق نمو "الصورة" وليس هناك أي تصوير سابق (Preformation) مثالي. وليس هناك أية صورة بذاتها (Forme- en-soi) معينة سابقاً. ولو كان الأمر كذلك لوجب أن يكون جميع أفراد نوع ما متشابهين تماماً.
أما النزعة المادية الجدلية فهي ترى أن الصورة لا يمكن أن توجد بدون محتوى معين، كما أن المحتوى لا يمكن أن يوجد بدون صورة معينة.
ولا يعني القول بأن المحتوى لا يمكن أن يوجد بدون الصورة أن الصورة هي التي تعينه وتحدده؛ بل هو الذي يعينها ويحددها. يعني ذلك أن الصورة ليست سابقة في الوجود، ولا هي أزلية بل تتغير حسب التغيرات التي تطرأ على المحتوى. يتغير المحتوى أولا بتغير ظروف البيئة المحيطة به. ثم تتغير الصورة حسب تغير المحتوى، ونمو التناقضات الداخلية في المحتوى. نتج عن ذلك أن الصورة بدلا من أن تسبق النمو في الوجود، تعكسه لنا فتتأخر بذلك عن المحتوى.
يسبق المحتوى الصورة خلال النمو وتتأخر الصورة عن المحتوى: ولا يمكن وجود المحتوى بدون الصورة ومع ذلك فأن الصورة لا تتفق تماماً مع المحتوى لتأخرها عنه ولهذا "يضطر" المحتوى الجديد لاتخاذ الصورة القديمة مؤقتا فينشأ عن ذلك النزاع بينهما .
فكيف يحدث في كل حالة وفي كل ميدان من ميادين الطبيعة والمجتمع ظهور صورة جديدة تحت ضغط المحتوى التالي الذي يبحث عن صورة جديدة ويسعى نحوها؟ (ستالين).
على العلوم أن تجيب على ذلك، تلك العلوم التي تضيء النزعة المادية الجدلية الطريق أمامها، والشيء الثابت أن تأخر الصورة عن المحتوى يحدث عدم الانسجام في الطبيعة. وهكذا بدلا من أن تشيع الانسجام في الطبيعة، فأنها مفعمة "بالتناقضات" والعيوب.
نرى أن النزعة المادية الجدلية تقضي على النظرية المثالية في الغائية قضاءً مبرماً. كما أنها ترفض الحتمية الآلية التي تتصور فعل مختلف الظواهر بعضها في البعض بصورة آلية لا تتبدل.
تحمل النزعة المادية الماركسية إلى العلم عقيدة مثمرة تقوم على القول بأن القوانين التي تكتشفها والعلاقات التي تقيمها بواسطة المنهج الجدلي ليست علاقات اعتباطية بل هي قوانين ضرورية للمادية في حركتها.
يجهل العلم المادي قلق "التجريبيين" الذين يكتفون بمراقبة تتابع الظواهر فيتساءلون دائما إذا كانت الشمس ستشرق غداً!
ويعتمد العلم المادي على الفكرة القائلة بأن القانون العلمي يعبر عن ميزة موضوعية للمادة، كما يعبر عن حتمية ظهور ظاهرة معينة خلال تطور في ظروف معينة.
ولقد أشار انجلز إلى حتمية ظهور الحياة فوق كوكب معين حين تجتمع الشروط الضرورية، وحتمية ظهور الإنسان خلال تطور الأنواع، ومن ذلك ظهور الإنسان فوق كوكب آخر وفي وقت آخر إذا ما توفرت الظروف الضرورية لظهوره.
هذا ما يجب فهمه من الضرورة الطبيعية، ومن وحدة الكون وشمول قوانين المادة.
ينتج عن ذلك أنه لا يمكننا خلق قوانين الطبيعة أو المجتمع أو القضاء عليها بل كل ما يمكننا هو اكتشافها.
يمكن اكتشاف هذه القوانين ومعرفتها ودراستها والأخذ بها في أفعالنا واستغلالها لخير المجتمع، ولكن لا يمكننا تغييرها أو القضاء عليها. فلا يمكننا إذن خلق قوانين جديدة للعلم .
فالنزعة المادية الجدلية إذن هي وحدها التي تمدنا بأساس نظري متين للتنبؤ العلمي بظواهر الطبيعة والمجتمع، وتقضي على الشك بنتائج عمل نقوم به على أساس معرفة علمية للواقع. فهي تضمن للإنسان، إذن، أقصى اليقين وأقصى الحرية إذ تمكنه من العمل باطمئنان ويقين.
5 – المَارْكسِيَّة وَالدّين
يتيح لنا كل ما رأيناه حتى الآن أن نقدر ضعف الصورة الذائعة للنزعة المثالية الموضوعية ألا وهو الدين.
نعرف مثلا أن الدين المسيحي يتطلب تدخل أله خلاق لتفسير العالم. ونرى الآن علام يقوم هذا الطلب:
أ) تعتقد النزعة المثالية أن المادة سلبية جامدة: لهذا وجب أن تتلقى حركتها عن الروح.
ب) تعتقد النزعة المثالية أن المادة لا تملك بنفسها أية ضرورة طبيعية أو أية وحدة. ولهذا وجب أن يقوم روح آخر بالمحافظة على قوانين المادة.
ت) تعتقد النزعة المثالية أن المادة لا تمر بتطور تاريخي في نموها: للعالم إذن بداية كما ستكون له نهاية، ولهذا وجب أن يكون قد خلق على يد كائن أبدي.
أما النزعة المادية فأن نظرتها إلى المادة ونموها الداخلي الضروري يؤدي بها إلى النظرية القائلة بخلود الكون ولا نهائيته في تحوله المستمر، والقول بأن المادة لا تفنى وليست مخلوقة.
ولهذا طالب ديدرو بأن لا يُفسر العالم حتى لا يصعب فهم خلود المادة عن طريق خلود آخر أصعب من الأول.
ولقد زعزعت الاكتشافات العلمية، منذ عهد ديدرو، مكانة القائلين بالخلق. كما وضع الفيلسوف الألماني "كانت"، منذ القرن السابع عشر، فرضيته المشهورة حول تطور النظام الشمسي، ثم دلل عليها فيما بعد لابلاس الفرنسي بصورة علمية ورد على نابوليون، الذي كان يشكو من أنه لا يرى الله. بهدوء قائلا:
"سيدي! لست بحاجة إلى هذه الفرضية". كما أن اكتشاف ليل (Lyele) الإنجليزي في ميدان تطور الأرض، ولامارك الفرنسي، ولا سيما دارون في ميدان تطور الأنواع الحية، قد أدت إلى قيام نظرية التطور العامة، وخلقت وراءها النزعة المادية القديمة التي كانت تفتقر إلى هذه النظرية التاريخية عن الكون. وكان ذلك هو النقص الثاني فيها الدال على ضيقها المحتم .
وأخيراً امتدت هذه النظرية التاريخية بفضل اكتشافات ماركس وانجلز في ميدان العلوم الاجتماعية الى جميع ظواهر الحياة الاجتماعية وقضت على النقص الثالث في النزعة المادية القديمة التي لم تكن تعتبر المجتمع الإنساني كتطور تاريخي طبيعي.
ولقد كتب لينين يقول: "أن نظرية الفيلسوف القديم هيرقليط المادية ـ الذي كان يرى أن العالم واحد لم يخلقه آله أو إنسان، كان وسوف يظل شعلة خالدة حية تتوهج وتنطفىء حسب قوانين معينة ـ أنما هي عرض رائع لمبادىء النزعة المادية الجدلية .
ولقد غير ظهور النزعة المادية الجدلية النقد الديني والفقهي، اذ كان الفلاسفة العقليون فيما مضى ينتقدون الإله المسيحي فيوضحون التناقضات العديدة التي تؤدي إليها تلك الفكرة.
إذا كيف يمكن لروح صرف أن يولِّد المادة؟ وكيف يمكن لكائن لا يخضع للزمن وللصيرورة والتغير، بل يظل سرمدياً في خلوده الأبدي، أن يخلق العالم في لحظة معينة من الزمن؟ وكيف أمكن لكائن "خير" أن يخلق الحيوانات المضرة والهزات الأرضية والأمراض التي يرمز إليها الفرسان الثلاثة السود في النبوءة.
هل كان بامكان الله القوي الجبار أن يجعل مجموع اثنين مع اثنين خمسة، وأن يمسي الصحيح خطأ؟ وإذا لم يستطع ذلك فهل هو قوي جبار؟ وإذا كان كاملاً فهل يستطع معاقبة الظلم؟ وإذا كان خيراً فهل يمكنه أن لا يكون رؤوفاً ومن ثم ظالماً؟ الخ...
أظهر النقد العقلي بحق جميع المستحيلات التي تحتوي عليها فكرة "الله" وجميع التناقضات التي تكشف عنها، تلك التي يعترف بها علم الكلام ويستعين من أجلها بفكرة "السر" الإلهي الذي لا يمكن للخليقة أن تسبر غوره، كما يستعين بفكرة الشيطان لوضع فكرة الخطيئة الأصلية المزعومة.
أخذ الفلاسفة المثاليون العقليون إذن على أنفسهم أن يعيدوا النظر في فكرة الإله المسيحي فجاءوا بأفكار يستحيل كل منها أكثر من الأخرى وإذا بها تثير صعوبات جديدة كلما خيل إلينا أن الصعوبات السابقة الذكر قد زالت.
أما الماديون السابقون على الماركسيين فقد اصطدموا أيضا بجميع الصعوبات التي اشرنا إليها سابقا: كتفسير الحياة والفكر وتفسير ضرورة العالم وما في الطبيعة والظواهر الاجتماعية، من تناقض، وما عادت به من آلام على الإنسانية كالمرض والموت والجوع والحرب.
ولقد أثارت النزعة المادية الجدلية هذه الصعوبات وفقدت فكرة "الله" كل محتواها: ولم يعد النقاش حول وجود الله أو عدم وجوده، ذلك النقاش الذي أثارته النزعة الإلحادية الساذجة غير الماركسية، يثار كما أشير سابقاً. لقد أصبح الله، كما قال لابلاس، فرضية لا نفع فيها. وحل محل مشكلة وجود الله مشكلة وجود فكرة الله في رؤوس الناس. هاتان مشكلتان لا تميز النزعة المثالية الموضوعية بينهما.
ولا شك في أن فكرة الله والعواطف الدينية والديانة موجودة، وهي تتطلب تفسيراً: وبدلا من القول بأن الإنسان كائن "الهي" يجمع في ذاته العنصر الطبيعي والعنصر الإلهي، كما يجمع عنصر الموت والخلود في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى، يجب القول بأن "الله" و"الديانة" هما ظاهرتان إنسانيتان لأن العنصر الإلهي هو من إبداع الإنسان وليس الإنسان هو من إبداع الله.
ولقد قال فولتير في حديثه عن الأديان بأنه "إذا كان الله قد خلق الإنسان فأن الإنسان قد رد له هذا الجميل". ولقد بدأ المادي الألماني فورباخ بنقد الظاهرة الدينية من زاوية جديدة، ثم جاءت النزعة الماركسية بالعناصر النهائية لتفسير الدين وهاك مبادىء هذا التفسير:
1) أن الصور البدائية للديانة، وكذلك المراسيم السحرية والتفسيرالمثالي البدائي للظواهر الطبيعية والاجتماعية، وكذلك أسمى صور الديانة التي تقوم على نظريات فلسفية وأخلاقية ومراسيم سحرية "روحانية" كالصلاة والاضحيات التصوفية تعبر جميعاً عن معطى معين حقيقي عن الفعل الإنساني الا وهو عجزه النسبي الكبير في مطلع الإنسانية، وهو عجز أمام الطبيعة، ذلك العجز الذي يتعلق بنمو الإنتاج الضعيف . وهو أيضاً عجز أمام الظواهر الاجتماعية الذي يتعلق بالاضطهاد الطبقي وفقدان الأمل وضعف الوعي الاجتماعي.
يعرف كل واحد منا أن على المراسيم الدينية أن تضمن النجاح والفوز "في الأعمال" والانتصار على العدو، وأن تعود بالسعادة الأبدية، الخ.. وهكذا تبدو الديانة كأنها وسيلة يستخدمها الإنسان لبلوغ أهدافه، وهي مراسيم تتعلق بجهل أسباب شفائه وسعيه نحو السعادة.
ولكن إذا كانت الديانة تعكس لنا معطيات الحياة العملية فأنها تصور هذه المعطيات معكوسة. وهي لا تعكسها حسب المعطيات الموضوعية بل حسب المعطيات الذاتية. فهي تعكس لنا رؤى الأحلام ورغبات الإنسان الذي وقع فريسة للجهل. فيصبح "الله" المنقذ الأسمى، وأكمل الكمالات. ولا تعبر التناقضات التي وجدناها في فكرة "الله" الا عن التناقضات الداخلية في أفكار "الكمال المطلق" و "المعرفة المطلقة" و "السعادة المطلقة" التي يصنعها الإنسان لنفسه. وهي أفكار خيالية ميتافيزيقية يعكس فيها تناقضات العالم الواقعي والرغبات الخيالية التي تصورها في جهله.
وتختصر فكرة الله جميع التناقضات التي تصبح ميتافيزيقية مطلقة لا يمكن حلها.
فالديانة إذن هي نقيض العلم المادي الجدلي الذي يعكس لنا تناقضات الواقع باخلاص وبدون أية زيادات غريبة خيالية كما قال انجلز:
"تكمن أصول الديانة في النظريات المحدودة الجاهلة التي تنشأ في حالة الهمجية ".
2) يجب مع ذلك أن نقدر أهمية عامل آخر في دراستنا للدين، ذلك لأن الديانة لما كانت تتولد من الجهل فأنها تحل محل التفسيرات العلمية تفسيرات خيالية فتعمل بذلك على ستر الواقع وإسدال الستار على التفسير الموضوعي للظواهر، ولهذا كان الرجل المتدين مناوئاً لمبادىء العلم التي هي عمل الشيطان لأنه حريص على أوهامه. وتستخدم الطبقات المستغلة هذه الخاصية لاهتمامها بإخفاء استغلالها عن أعين الطبقات الكادحة كما أشرنا إلى ذلك في الدرس السابق. فهي بحاجة إلى سلبية هذه الطبقات وجمودها كي يستمر اضطهادها، كما أنها بحاجة لخضوعها وايمانها بالقضاء المحتوم. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية يجب توجيه أمل الجماهير بالسعادة نحو العالم الآخر. وهكذا يعرض الأمل والعزاء بدخول الجنة على أنهما تعويض عما بذلته الطبقات الشعبية من تضحيات على الأرض. فيتحول الاعتقاد بخلود النفس، الذي كان ينظر إليه في القدم على أنه مصيبة مرهقة، إلى أمل بالخلاص في الآخرة.
استخدمت الديانة، إذن، منذ أقدم العصور كقوة فكرية "للمحافظة على النظام" وكأفيون للشعب حسب قول ماركس بالرغم من أن الطبقات الحاكمة المستنيرة لم تعد تعتقد بأية كلمة من النظريات التي كانت تعمل على استمرار تاثيرها في الطبقات الشعبية.
فكان الكهان في مصر القديمة "يختلقون" المعجزات بتحريك تماثيل الآلهة، كما كان الرومان يؤكدون أن هناك "فألين لا يمكن النظر إليهما بدون الضحك" كما كان شيشرون يقول بأن الديانة مفيدة للنساء والعبيد. وكذلك استخدام الرجعيون الديانة في النظام القديم للتخفيف من تقدم العلم فسعوا إلى منع الأبحاث الطبية كالتشريح والتلقيح كما عملوا على الحكم على غاليله لأنه أدعى بأن الأرض ليست مركز العالم، كما أتهم متشورين في القرن العشرين في روسيا القيصرية بأنه خارج على الدين أمام شرطة القياصرة لأنه كان يقوم "بتطعيم" الأنواع النباتية!
ولقد وجهت النزعة المادية الفرنسية في القرن الثامن عشر ضربات قاسية إلى الديانة. ثم عادت الديانة إلى سابق عهدها في بلادنا بفضل سلسلة من القرارات السياسية الرجعية بعد الثورة وفي خلال القرن التاسع عشر، ولا سيما بعد سقوط الإمبراطورية الأولى بعد حزيران عام 1848 أثر كومون باريس. وعلى عهد فيشي وكان إخراج المعجزات المختلفة من وسائل الاستعمار.
ويمثل "كنت" معاصر ثورة 1789 الاستخدام السياسي للديانة، على المستوى النظري، بالرغم من فشل مضمون الديانة الفلسفي. فهو يعتقد أن وجود الله لا يمكن البرهنة عليه. ومع ذلك يجب "قبول" هذا الوجود لأنه بدون هذه الفكرة يصبح كل شيء مباحا، فيزول القاضي العادل الأكبر، وتزول الشرطة السماوية، كما يزول الثواب والعقاب، فيتخاذل الشرير ويتجرأ. وهكذا يتزعزع النظام البرجوازي. الله إذن سلاح الثورة، وليس من الضروري التأكد نظريا من وجوده، بل يكفي قبول هذا الوجود عملياً ونفعياً. أليست تلك عادة البرجوازية الدائمة في المسائل الدينية؟ وهل هناك دليل أروع على فشل النزعة المثالية الدينية النظرية؟
لقد وضع انتصار النزعة الاشتراكية التاريخي حداً لسيطرة الطبقات الرجعية. وهكذا فقدت الديانة قاعدتها الاجتماعية كقوة فكرية في خدمة هذه الطبقات. ولكنها ظلت بعض الوقت في ضمائر الناس.
ولهذا يستمر في النظام الاشتراكي نضال نظري بين العلم والدين، بين الجهل والمعرفة. وهذا النضال جانب من جوانب عملية المعرفة، لأن المعرفة تتقدم بواسطة النضال . ذلك هو مضمون مبدأ حرية الوعي في الاتحاد السوفياتي.

6 – الخلاصة
نخرج من هذا الدرس بفكرة عن مادية العالم. فالنزعة المادية الجدلية في أيامنا هي النزعة الثورية الوحيدة. فإذا كانت "فكرة الله" أو فكرة "الروح" الخ... ليست سوى فكرة فارغة ورمز للدلالة على جميع ألوان الجهل الماضية للإنسان "فليس هناك أي منقذ أعلى" كمال تقول العالمية.
ليس للإنسان ما يرتجيه ألا ما يكسبه بنفسه في هذه الحياة الدنيا، والنزعة المادية تعلمه أن يرى "العالم كما هو"، العالم في وضعه الصحيح وليس بالمقلوب.
وبدلا من أن يقضي النزعة المادية على الإنسان فأنها على العكس تظهر له أن ليس هناك "مصير" أو "قدر" وأنه يستطيع، بواسطة المعرفة العلمية للواقع، أن يتمتع بحياة جديدة، وأن يتعرف على السعادة في الحياة.
وكما كان يقول الفيلسوف المادي اليوناني أبيقور فأن النزعة المادية تحرر المعرفة الإنسانية المضطهدة منذ آلاف السنين لخوفها من الغضب الإلهي والخوف من الدولة و "النظام القائم" اللذين يتمثل فيهما ما يسمى بقوى "العناية الآلهية".
كما أن النزعة المادية تؤدي، كما قال ماركس، إلى الاشتراكية.
وليس هناك من تكفير عن خطيئة، كما أدعى بيتان، كما أنه ليس هناك من قضاء مقدر "مكتوب" وليس هناك أبد خالد سوى المادة المتحركة. وكما أن علم الأمراض يساعد على محاربة هذه الأمراض بمحاربة أسبابها فكذلك معرفة أسباب الحرب تساعد على محاربة الحرب. وكلما كانت معرفتنا أفضل بالأسباب التي تؤدي إلى الحروب حتما كلما ازداد تسلحنا لمحاربتها بصورة فعالة.
الحرب إذن ليست قضاءً لا يمكن الهروب منه. وبدلا من أن تولد النزعة المادية السلبية والاستسلام فأنها دعوة للعمل فهي تتيح لنا معرفة ما هو ممكن، كما تتيح لنا تحديد مقدرة الإنسانية الفعلية. هذه هي الحرية فهي ليست أعلانا أجوف بل هي قدرة فعَّالة.
تعريب شعبان بركات
المكتبة العصرية صيدا. بيروت




#جورج_بوليتزر_وجي_بيس_وموريس_كافين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثامن
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس السابع
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس السادس
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الخامس
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الرابع
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثالث
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثاني
- اصول الفلسفة الماركسية


المزيد.....




- عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و ...
- في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در ...
- حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
- تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا ...
- تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال ...
- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...


المزيد.....

- مقدمة في -المخطوطات الرياضية- لكارل ماركس / حسين علوان حسين
- العصبوية والوسطية والأممية الرابعة / ليون تروتسكي
- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين - اصول الفلسفة الماركسية . الدرس التاسع