|
أمسية ..في شارع أبي نؤاس
قاسم حسين صالح
(Qassim Hussein Salih)
الحوار المتمدن-العدد: 2484 - 2008 / 12 / 3 - 10:13
المحور:
الادب والفن
دعيت للحضور الى بغداد للمشاركة في " مؤتمر تحكيم مسابقة تصميم علم جمهورية العراق " فضيفوني ـ مشكورين ـ في فندق عشتار شيراتون المطلّ على نهر دجلة من شارع ابي نؤاس . ولأول مرة ، بعد ثلاث سنوات ، اطلّ على بغداد من شرفة غرفتي في الطابق الرابع عشر. كانت شوارعها القريبة مني مضاءة باللون الأصفر علمت بعدها انها تعمل بالطاقة الشمسية . ها هي بغداد ما تزال جميلة " حتى ليلج لونه صافي مزوك بحمرة حلاتج جنه ما لابس سواد يحرسج الله شبت النار على طولج وانتي ما صرتي رماد ". كانت هي هي ... من الف ليلة وليلة الى الاف الليالي من الوجع المرّ . مدينة عجيبة بقدرتها على البقاء عبر ما اصابها من كوارث ونكبات واحتلالات ، وساحرة بالاحتفاظ بجمالها برغم ما فعله بها محترفو القبح من الغزاة ، وزاهية بتاريخها ، وواعدة بانها ستعود كما كانت .. دارا" للسلام والحب والجمال . عصر اليوم الثاني عبرت الشارع متوجها الى دجلة . وكنت مثل عاشق حمله الشوق الى حبيبته ، أو طفل محروم من امه .. رأها عن بعد فطار لها بأجنحة الفرح . وصلت سفحه .. فجلست وخاطبته : " حييت سفحك عن قرب فحييني .. يادجلة الخير يا أم البساتين " . وتدفقت الدموع .. وحصرتني شهقه ، اطلقتها بصرخه بعد ان تلفتّ ولم ار احدا" . ومن هوسي " او خبالي " انني مسحت دموعي بيدي وغطسّتها بدجلة لتمتزج بمائه ، واخذت حفنة منه غسلت بها وجهي وكأنني ابغي التوحّد به ! . افرغت دموعي وتفحصت دجلة بعد ان ملأت رئتي بهوائه المعطّر برائحة طينه الحرّي . كان الماء فيه شحيحا" .. وتخيلت انه لولا دموع العراقيين لكان قد نشف ، فالجزرات الوسطيه فيه توسعت ، وجرفه من جهة ابي نؤاس زحف متجها الى عمقه . مالت الشمس الى الغروب فاكتست الاشجار بلون ذهبي انعكس على موجات مائه الخفيفه .. فصار يبدو لي فتاة جميلة بعينين ملونتين بالأصفر والبرتقالي والأخضر . واكتشفت لحظتها ان دجلة كان مصدر الهام شعراء الغزل من ايام القائل " عيون المها بين الرصافة والجسر .. جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري " الى عشرات الشعراء الذين هاجر كثيرون منهم الى أوربا الجمال وما زالوا يحنّون أليه . وحين صار الغروب .. بدا لي دجلة حزينا" .. كئيبا" .. مغتربا" يشكو من وحشة فراق الأحبه . واستعدت صور ايامه ولياليه .. كيف كان يمتلىء بزوارق صيادي السمك .. وكيف كانت الافراح تبحر فيه بزوارق وسفن ويخوت تحمل الصبايا والشباب ، وتصدح فيه اصوات يوسف عمر وناظم الغزالي وزهور حسين واغاني الاعراس . ومن بعيد لمحت زورقين يبحران فيه وشبابا" يتمشون قريبا من سفحه ، فتأكدت عن يقين ان زمن الافراح آت لحقيقتين : ان دجلة كان من أيام هولاكو الى أيام بوش عصّيا" على الاندثار ، وان ما بين دجلة والبغداديين علاقة عشق توحدي وحياة ابديه! . * عصر اليوم الثالث خصصته لشارع ابي نؤاس . تمشيت في الشارع الوسطي بين دجلة والطريق المحاذي لفندق شيراتون ، فوجدت الاشجار تحف به من جانب دجلة ، وحدائق خضراء من جهة الشارع فيها ملاعب للاطفال " ومراجيح " هنا وهناك ، لكن روادها من الاطفال والعوائل كانوا قليلين . وعلى قلتهم فان الشارع يزف لك البشرى بان الحياة قد عادت تدب فيه . وفرحت حين رأيت عددا من الشباب يمشون " وموبايلاتهم " بايديهم تصدح منها اغاني عراقية ، وهذا مؤشر على ان التطرف الديني قد تراجع . ومؤشر آخر ، انني كنت جالسا" بالمقهى فرأيت شابا" وشابه " سافره " يمشيان يدا" بيد ، فسألت عامل المقهى ما اذا كان مثل هذا المشهد يحدث كثيرا" فاجابني " نعم " واضاف : بس عمو ترى هذا الشاب ابن عمي ! ودخلا المقهى مارين برجل يصلّي بداخله! ليجلسا في المكان المخصص للعوائل . وكأي بغدادي ، أو عاش عمرا" في بغداد ، فأنه لابد لمن يتمشى الان في شارع ابي نؤاس ان تسحب ذاكرته صور ما كان عليه ايام السبعينات والثمانينات . فانت حين كنت تدخل اليه من جهة شارع الرشيد ، يستقبلك صوت ام كلثوم ورائحة السمك المسقوف وعطر المحبين والعشاق وضحك الاطفال وفرح العوائل المتنوعة الالوان . كانت ام كلثوم تشدو من اول كازينو فيه " كاردينيا على ما اتذكر " الى آخر كازينو فيه ، فتحلّق معها على امتداد الشارع بين : انت عمري ، يا ظالمني ، هجرتك يمكن انسى هواك ، الف ليلة وليله ... ويعيش الجميع باجواء شاعريه ورومانسيه جماهيريه ! . وان كنت من محبي " العرق العراقي " فما عليك الا ان تنعطف يسارا" وتدخل اية كازينو فتجد ما لذّ وطاب من " المزّات " التي تملأ المائدة ، مصحوبه ـ ان احببت ـ بشيش معلاق او تكّه ! وان كنت تعدّ " حليب السباع " منكرا" فلك أن تنعطف بعائلتك الكريمة الى اليمين لتجلسوا في مكان محترم تستمتعون فيه على راحتكم . وبعد ان " تخلصوا سوالف " ويشبع الأطفال من المراجيح يأتيك السمك المسقوف فتأكل مع المدام والاطفال بشهيه عراقية مختومة بشاي مهيّل وكلمة " عوافي " . هكذا كان شارع ابي نؤاس .. ملتقى الناس من كل الاجناس . والعجيب في هذا الشارع انه كان يجمع المختلفين في السياسة والدين والمذهب والعشيرة ... وان الجميع ما كان يفطن الى ذلك ، لأن الاجواء النفسية المشبعة بالفرح والمرح تشيع الحب بين الناس وتلغي الهوية .. وتلك كانت وظيفة شارع ابي نؤاس ! . صار الوقت السابعة مساءا" ، وما زلت اتمشى في الشارع . كانت مساحات منه مظلمة .. وشعرت بشيء من الخوف بدده ثلاثة من الشباب المسلحين بالكلاشنكوف وبايديهم اجهزة اتصال ، علمت بعدها ان شركة امنية عراقية قد تولت امر توفير الأمن فيه . وعلى امتداد نصف الشارع الذي تمشيت فيه لم يكن فيه سوى واحد يبيع " الشاميه " وآخر يبيع " شعر بنات " . وانعطفت نحو مقهى مكتوب على واجهته " المقهى البغدادي " . واشتقت ان اسمع ام كلثوم وآكل السمك المسقوف ، فقلت لعامل المقهى : + اريد سمك مسكوف .. بس بشرط .. ان اسمع ام كلثوم . اجابني بابتسامه لطيفه : - ولا يهمك عمو.. يجرالك . بعد لحظات .. انطلق صوت ام كلثوم " اروح لمين " . + رائع .. اذن ام كلثوم لم تعد من الممنوعات في شارع ابي نؤاس !. وانطلقت مع " اروح لمين " وجاوبتها : نروح لبوش ، للقاعدة ، للمتطرفين ونقول لهم : بغداد لنا .. حبيبتنا .. أمّنا ، ودجلة لنا .. متوحدون به ومتوحد بنا . وبعكس ما تمنيتم ، ها هي الحياة بدأت تدب في شارع الرومانسيه بأهم عنصرين فيها : الخضرة والاطفال . فالأشجار قد نبتت فيه ومراجيح الاطفال منصوبة على امتداد حدائقه ، ورائحة السمك المسقوف تعطر اجواءه . وبرغم قبحكم واستهدافكم تعطيل الحياة فان مصادر الجمال " الماء والخضرة والوجه الحسن " ستبقى عامرة فيه . وسيعود الناس من كل الاجناس يقضون فيه امسياتهم كل على هواه ، بمن فيهم ابو نؤاس .. سندعه يحتسي الخمر " حتى يرى الديك حمارا " وذنبه على جنبه !.
#قاسم_حسين_صالح (هاشتاغ)
Qassim_Hussein_Salih#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مخطوطة للدكتور علي الوردي معروضة للبيع
-
تنبؤ سيكولوجي بفوز أوباما
-
الارهابيون بعيون أكاديمية - ايضاح ..واقتراح-
-
الارهابيون .. بعيون أكاديمية
-
سيكولجيا الصراع في المجتمع العراقي
-
كنت في الجولان
-
في سيكولوجيا الفساد المالي والاداري 3-3
-
الى الشاعرة لميعه عباس عماره
-
في سيكولوجيا مسلسل الباشا
-
أمسية دمشقية مع ..مظفر النواب
-
حملة الحوار المتمدن - البديل المنقذ ..مرّة أخرى
-
في سيكولوجيا الفساد المالي والاداري 2-3
-
في سيكولوجيا الفساد المالي والاداري 1-3
-
دور وسائل الاعلام في اشاعة ثقافة تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة
-
هيئة النزاهة تستخدم جهاز كشف الكذب
-
الشخصية العراقية ..وسيكولوجيا الخلاف مع الآخر
-
الاتفاقية العراقية الأمريكية ..وسيكولوجيا الورطه !
-
نحو بناء نظرية في الابداع وتذوق الجمال في العالم العربي (الح
...
-
في سيكولوجيا الدين والتعصب
-
دروس من 9 ابريل / 4- العراقيون ..وسيكولوجيا الانتخابات
المزيد.....
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|