|
جادّة الدِعَة والدّم 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2421 - 2008 / 10 / 1 - 06:47
المحور:
الادب والفن
ـ " كان صديقكَ ، " ناسو " ، مُشتبكاً قبل قليل مع آخرين ، ثمة في الجادّة " قلتُ لأخي الكبير بنبرة لا مبالية وأنا أناوله لفة سندويش الفلافل ، التي جلبتها من مطعم " أبي علوش " ، الكائن على ناصية تلك الجادّة . ولكنّ " جينكو " ، لدهشتي ، إنتفضَ من فوره مُتناهضاً ، مهملاً عشاءه جانباً ، ليطلبَ مني بحنق أن أحدّد مكانَ المشادة . كنا عندئذٍ في فلوة المساء ، الخريفيّ ، المترامي الظلال على الحديقة العامة ، التي يعملُ فيها والدنا مُراقباً . عادة ً ، حينما يتفقُ ذهاب الأب إلى تعزيةٍ ما ، أو أيّ شاغل ضروريّ ، فإنه يكلّف شقيقي الكبير بالحلول محله في الحديقة . وغالباً ما كان يُسمَح لي بتلك التسلية ؛ خصوصاً ، أنّ ذلك يضمن للوالد عيناً على تصرفات الإبن الأخرق ، المُتهوّر . بيْدَ أنّ أخي ، إذ كان غالباً ما يتملّص من مساءلة أبينا ، الصارمة ، فلكونه ولا ريب مديناً لي ؛ طالما أنني لا أشي به ، أو على الأقل ، أستر على أعماله الأكثر طيشاً خلال فترة المناوبة ، المُعيّنة . " إنتظرني هنا ، وإياكَ أن تغادرَ مكانكَ ! " ، خاطبني " جينكو " وهوَ يتفقد القامَة ( السيف القصير ، الشركسيّ ) التي لا تفارق قط طيّات ملابسه . على أني ، وقد مسّني حماسُهُ للعراك ، رأيتني من ثمّ أغادر موقفي متأثراً عن بعدٍ ، مناسب ، خطاه المهرولة بإتجاه ذلك المكان ، الذي سبق وعيّنته له . كانت المشادة قد إنتهتْ على ما يبدو إلى التفاهم ، الوديّ ، حينما تناهى أخي إلى رصيف الجادّة الأنيقة ، المُحتبيَة جمعَ الفتية أولئك . النتيجة هذه ، الموصوفة ، لم ترُق بطبيعة الحال لعتيّ الزقاق ، الأكثر سطوة : فلا غروَ إذاً أن يقبض " جينكو " على تلابيب أوّل شخص جرؤ على إجابته ، منهالاً عليه بالصفع المُدوّي ، إلى أن تدخل " ناسو " بينهما . بعدما أفرغ شقيقي غلّه بهؤلاء الفتية ، الذين ينعتهم بإحتقار " أبناء البنايات " ، فإنه أمَرَهم بمغادرة المكان فوراً .
*** ـ " قلْ " أبويي " ولا تقل " بابا " ، مثلما يلفظها أولئك الناس ! " هتفَ بي " ناسو " ساخطاً ، يُذكرني بضرورة عدم تقليد لهجة أولاد الجادّة تلك ، الأنيقة ، الذين إعترك معهم للتوّ . كانت شلّة أخي ، الجديدة ، قد إكمتلَ نصابها قبل قليل : وعلاوة على إبن " عرب " ذاكَ ، حضر إلى الحديقة ليلتئذٍ كلٌّ من " فوفو " و " مستو " . هذا الأخير ، الذي يكبر أخي ببضعة أعوام ، كان قبلاً من عصبة الزقاق المجاور ، المنعوت بإسم عشيرته ؛ " آلرشي " . إنه شخصٌ صموت وكتومٌ ، ذو ملامح ملغزة . صفاته هذه ، لا علاقة لها على الأرجح بإنحرافه ؛ لأنّ الآخرين أيضاً كانوا كذلك ، وما هوَ أسوأ ربما : " كَيا و تشيليا ! " ( وتعني بالكرديّة ، الحشيش والأولاد ) ؛ وهوَ التعبير ، المشنوع ، المألوف عند أهلينا ، في إشارةٍ لتعاطي المخدرات وممارسة المثلية . هذا ما أتذكره من ملامح الشابّ ، الغامض ، الذي سبّبَ للحارَة أكبر هزة في مستهلّ سبعينات القرن ، الآفل : كان يجب أن تمضي أيام اخرى ، قليلة ، قبل أن يأتلفَ شملُ شلّة شقيقي الكبير . عندئذٍ كان الوقتُ ظهراً ، وكانوا خارجين لتوّهم من البستان ، فمروا حذاء ملعب طفولتنا ، القديم ، القائم في أسفل منطقة " الجوزة " ، والذي إستولى عليه عنوة ً أشبالُ " فتح " . هؤلاء الفتية ، الفلسطينيون ، كانوا هنا إذاً مع مدرّب فريقهم ، الكرويّ ؛ وهوَ شابٌ بالكاد بلغ العشرين من عمره . نظراتُ إزدراءٍ قذفها العتاة ُ ، العابرون ، بإتجاه الشاب ذاك ، الذي أفاضتْ طلعته وسامة ً بشقرة شعره وخضرة عينيه . هذه النظرات ، الشزرَة ، بترها تقافز الكرة عرَضاً من الملعب إلى حيث موقف أخي . " جينكو " ببرودة طبعه ، المعروف ، إلتقط تلك اللعبة ، الرياضية ، ثمّ ما لبث أن إستلّ قامَته ، الماضيَة ، بهدوء ورويّة . أشلاء الكرة ، كانت ثمة على طرف الملعب ، حينما غادرَ العتاة المكانَ دونما أن يعترضهم أحدٌ ، ولو بمجرّد نأمة .
*** ـ " دَمّ ! أيّ دم ؟ " قالها أخي بإرتياع ، فيما بصره تائهاً عن عينيّ أمّنا ، وكأنما دُهِمَ بغشاوة العمى . كان " جينكو " في ذلك الغروب ، الخريفيّ ، قد عادَ للتوّ من الخارج ، وكان مُبكراً على غير عادته . حضور أخي العجول ، الملهوج ، حُبيَ بإهتمام الأمّ ، فإندفعتْ قلقة بإثره نحو الحجرة الصغيرة ، التي يتقاسم سكناها معي . " ويْرَبّنيْ ! ما هذه الدماء على ملابسكَ ؟ ماذا جرى معكَ ، بحقّ الربّ ؟ " ، خاطبته أمّي بالكرديّة صارخة ً ومعولة . ثبّط في عزيمة عتيّ الزقاق ، كما بدا لي لحظتئذٍ . وها هيَ علامات الجزع ، المُبينة ، تتمادى في فضح قسماته وصوته ، على السواء . بيْدَ أنّ كبرياء أخي ما عتمَ أن إنتفضَ ، على حين غرّة ، فتناهض نحوَ باب الحجرة ليوصده بوجه الأمّ ، المسكينة ، المنهمدة ثمة . ثمّ إلتفتَ إليّ هذه المرة ، لكي يأمرني بجلب ملابس له ، جديدة ، من خزانة الثياب المركونة في حجرة الجلوس . من جهتي ، وبالرغم من حداثة سني ، فإنني توجّستُ من أمر ما ، مهول ، سيتبع هذه المضاضة ، المتماهية بصياح الأمّ وصمت الإبن الضال . هذا الأخير ، ما أسرع أن غادرَ المنزل بدون إبطاء ، وحالما غيّر ملابسه تلك ، المُلطخة بنجيع الجريمة .
*** ـ " يبدو أنّ أولادنا كانوا في مشادة هناك ، في الجادّة ، وأنهم أصابوا أحداً بجرح قاتل " ـ " جرح قاتل ! ماذا تعنين ، بالله عليكِ ؟ " ، سألت أمّي جارتها ، الخياطة . ومن النافل وصف حالة والدتنا ، حينما أجابتها الجارة بصوت واهٍ ، متقطع : " يُقال أنّ أحد " أولاد البنايات " أولئك ، قد قتل " . ولكن ما لم يكن بحسبانها ، أنّ " الولد القتيل " كان كادراً في أقوى المنظمات الفلسطينية ؛ وأنّ جماعته سيهبّون فيما بعد بقوّة طلباً للثأر والإنتقام . من جهته ، فإنّ " فوفو " ، صديق أخي الأقرب ، كان على الأرجح قد إنهار تماماً في حضرة والدته تلك ، الخياطة ، وباح لها بالتالي بالتفاصيل الدمويّة لما جرى في مساء اليوم ذاته : إبن " حج عبده " هذا ، كان إذاً في البستان صحبَة " جينكو " ، عندما إنضمّ إليهما ، لاحقا ، كلّ من " ناسو " و " مستو " . بما أنّ الدخان الأزرق ، المتغلغل وفتئذٍ في عروق أخي ، قد جعله متأهباً حتى لمهاوشة ظلّه ، فلا غروَ أن يتناهض من فوره ، داعياً الآخرين لجولةٍ مسائية خلل البنايات الحديثة ، علهم يحظون بطريدةٍ ما أو مشادة . غادروا على ذلك البقعة الساحرة ، المخضوضرة ، كيما يتمخطرون في طول وعرض الجادّة تلك ، الوادعة ، المشمولة بظلال العتمة وفي آن بأضواء المركبات والأوتوبيسات ، العابرة . ثمة ، عند موقف " آدم " وأمام مدخل البناء ذي الأدوار الأربعة ، القائم على ناصية الشارع " ، كان جمعٌ من الفتيَة قد بدأ بالتململ ما أن مرّ أولئك العتاة بالقرب منهم . عندئذٍ ، إالتقتْ عينا " جينكو " السوداوان ، المؤطرتان بحَوَر ناصع ، مع العينين الخضراوين ، الصافيتين ، لمدرّب أشبال " فتح " ذاك ؛ الذي سبق أن تحدّاه في ظهيرة اليوم السابق .
*** شتيمة مقذعة ، قذفها أحد الفتية أولئك ، بإثر عتيّ الزقاق . ثوان حسب وقبضة أخي ، الماحقة ، ستشعل ـ كدأبها دوماً ـ أوارَ موقعةٍ عنيفة ؛ خصوصاً ، أنّ نفوس الطرفين كانت أصلاً حطباً جافاً ، مناسباً . بدوره ، كان " مستو " قد وجدَ نفسه في حمأة النزاع ؛ هوَ الشاب المتحفظ والصموت . وما فتأ لغزاً ، ولا شك ، الموجبُ الحاسم ، الطاريء ، الذي دفع إبن زقاق " آلرشي " هذا ، الهاديء ، إلى منقلبٍ وحشيّ ، مباغت . فما أن مضى زمن هيّن على العراك ، حتى شعرَ " جينكو " بيد صديقه " مستو " وهيَ تمتدّ إلى جيب معطفه ، الداخلية ، لتستلّ القامَة المفضضة ، البتارة ؛ سلاح الفرسان ، القديم ، التي نقش عليها بحروف واضحة إسم " جميل " ، والدنا . المدرّب الفلسطينيّ ، المبخوس الحظ ، كان يُنافح يائساً ، شبه أعزل ، الومضات البارقة لذلك السلاح الماضي ، المتجهة صوبه بحقدٍ مًصمّم . ثلاث مرات ، متتالية ، إنهال " مستو " بالقامة على نحر الضحيّة ، قبل أن يدعها تتهاوى مترنحة ، مدميّة ، على أرضيّة الجادّة ، الإسفلتية . مُعتمداً على مرفق ٍ صديق ٍ ، تناهض المُحتضِرُ فيما جروحه تنزف بغزارة ـ كينابيع ثلاثة ، مُعينة . إلا أنّ التعس آن له ، أخيراً ، أن ينهار تماماً ، ما أن دبّ على عتبة الصيدلية الكبيرة ، الموسومة بنعت شارع " إبن النفيس " نفسه .
للسيرة بقية ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مَراكش ؛ واحَة المسرّة
-
جادّة الدِعَة والدّم 2
-
مَراكش ؛ ساحَة الحُبّ
-
نزار قباني ؛ نموذج لزيف الدراما الرمضانية
-
لن تطأ روكسانا
-
مَراكش ؛ مَلكوت المُنشدين والمُتسكعين
-
فلتسلُ أبَداً أوغاريتَ
-
ثمرَة الشرّ : جادّة الدِعَة والدّم
-
برجُ الحلول وتواريخُ اخرى : الخاتمة
-
العَذراء والبرج 4
-
العَذراء والبرج 3
-
العَذراء والبرج 2
-
العَذراء والبرج *
-
الطلسَم السابع 6
-
محمود درويش ، الآخر
-
الطلسَم السابع 5
-
الطلسَم السابع 4
-
زمن السّراب ، للشاعر الكردي هندرين
-
الطلسَم السابع 3
-
الطلسَم السابع 2
المزيد.....
-
علاء مبارك يهاجم ممارسات فنانين مصريين
-
وزير الثقافة التركي: يجب تحويل غوبكلي تبه الأثرية إلى علامة
...
-
فيلم -استنساخ-.. غياب المنطق والهلع من الذكاء الاصطناعي
-
بردية إدوين سميث.. الجراحة بعين العقل في مصر القديمة
-
اليمن يسترد قطعة أثرية عمرها أكثر من ألفي عام
-
-قره غوز.. الخروج من الظل-.. افتتاح معرض دمى المسرح التركي ف
...
-
لقطات -مؤلمة- من داخل منزل جين هاكمان وزوجته وتفاصيل مثيرة ح
...
-
من السعودية إلى غزة.. قصة ’فنانة غزية’ تروي معاناة شعبها بري
...
-
سفير روسيا في واشنطن: الثقافة يجب أن تصبح جسرا بين الدول
-
شطب سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين السوريين -لإنكارها الجرائ
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|