أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - على أعتاب المكاشفة














المزيد.....

على أعتاب المكاشفة


مصطفى لغتيري

الحوار المتمدن-العدد: 2395 - 2008 / 9 / 5 - 04:55
المحور: الادب والفن
    



حين حط الرحال بالمدينة، لم يتباطأ في التوجه نحو الآثار المحاذية لها. شغف بالأبنية القديمة اكتسحه من حيث لا يدري، فإلى عهد قريب أبدا لم يحفل بوجودها، لم تكن – بالنسبة له – سوى حجارة صماء لا معنى لها، بل هي تافهة وزائدة عن اللزوم. في المدة الأخيرة، ونتيجة لعملية كميائية ما، حدثت في دواخله، لمس ميلا غامضا نحو هذه المعالم الأثرية، نظرته نحوها ما فتئت تتغير.. شيئا فشيئا استبد به عشقها، فانبثق له المعنى من ثناياها. هكذا، أصبح كلما زار إحداها، أصاخ السمع برهافة، ليلتقط ذبذباتها الصامتة، حينها تنكشف له أسرار من ماض، يأبى أن يظل طي الكتمان.. لا يدري كيف حدث ذلك ؟ فقط, هو متأكد، أنه بشكل ما نطق الحجر، تلقف بوحه، فانتسجت علاقة حميمية بينهما.. لم يكن بد – حينئذ – من أن يفقد حياده نحو الآثار، بشتى أنواعها.
حين أشرف على البقايا المتناثرة، لاحت له غافية في رحاب التلال.. هبت على سحنته بعض من نسائهما، فاختلج الفرح في أعماقه .. كان حريصا أن يكون المكان خاليا من البشر، فاختار اللقاء قبيل الغروب .. الشمس أضحت برتقالة كبيرة معلقة في الفراغ، ظلال كابية تنتشر على امتداد البصر، تمازجها حمرة أرجوانية ، تكلل ذرى النجود، وتستلقي في بعض الفجاج والفجوات.. شيء من الرهبة داهمه، وهو يطأ أرض المدينـة المنسية .. السواري المتبقية والخلفية – من ورائها – تقدمان نفسيهما كلوحة ولا أجمل .. طفق يخطر بين الجدران والأعمدة، يتطلع في الفجوات، يترصد بقايا الأرصفة، يستحضر أقداما بلا حصر، من الزمن الغابر، وطأت هذا المكان.
بعد لحظات من التجوال، اختار موقعا مناسبا، يسعفه في احتضان المشهد، كل المشهد بعينيه المتعطشتين.. أبدا لم يكتف بالنظرة العامة، الشاملة، التقط بصره أدق التفاصيل: الخطوط الدقيقة المنتشرة عبر الأبنية، أنواع الحجارة وأشكالها، تنوع هندستها.. الأقواس الدارس أكثرها .. كل ذلك أشعره بانتشاء لا يقارن .. حينها فقط، أحس أنه على أعتاب المكاشفة، هسهسة الريح وطدت لديه اليقين، بأنه حثيثا يدنو من مبتغاه، مدد أطرافه في ارتخاء تام، الخدر أخذ يتسلل إلى كيانه، لم يقاومه، بل تماهى معه إلى أقصى الحدود .. فجأة لاحت له أطياف ملتبسة، تدريجيا راحت تحتل المكان من حوله، لم يرعبه ذلك، بل فاجأه .. برباطه جأش حافظ علـى هدوئه .. فقط اكتفى باختلاس النظر.. إحساس قوي تبرعم داخله، بأن أي نأمة قد تطيح بكل شيء.. ابتسامة خفرة احتلت شفتيه.. ها هو ذا الوعد السري يتحقق من جديد، الآثار تكشف له أسرارها دون مواربة.. بمرور الزمن أخذت ملامح الأطياف تتضح، البنايات المهدمة تكتسب أجزاءها الضائعة، والأقواس في أتم اكتمالها، إنها في أبهى عنفوانها، الجدران، كل الجدران تنتصب قائمة، كأنها بنيت منذ زمن قريب ..طازجة لم تزل تفوح طراوة وبأسا .. هاهي الصور تتدفق جلية. أول ما ميز منها حراسا .. على رؤوسهم خودات صقيلة، يمتشقون رماحا مسننة، سيقانهم عارية، ينتظمون في طابور صغير، محافظين على تناسق حركاتهم .. أبهجه المشهد إلى أبعد الحدود، التزم الصمت وهو يرنو إليهم، بغتة توجه أحدهم نحوه، خفق قلبه .. تحفزت أعصابه، مستعدا لكل طارئ .. مر الجندي أمامه، لم يحفل بوجوده. حينذاك تيقن أن وجوده ليس مؤكدا، فما علي إلا أن يلزم مكانه دون أن يخدش هذا العالم، الذي يقدم له نفسه دون تحفظ .. بحرص، استرق النظر نحو الجهة الشرقية من موقعه، امرأة ترتدي ملابس مختلفة، لم يلمس قاسما مشتركا يجمعهما بالجنود.. على رأسها تحمل سلة ممتلئة، قدر أن فيها خضرا أو فواكه .. إنها بلا شك، امرأة محلية.. لفتت انتباهه ضفيرتاها المستلقيتان على كتفيها، أنواع من الحلي تتوزع على امتداد الجسد، حين أمعن النظر، راعه كثرة الوشم على وجهها ويديها.. كانت ترطن بكلمات مبهمة، تتوجه بها نحو الجنود لإثارة انتباههم .. بائعة هي، بلا ريب، تعرض بضاعتها، جمالها لافت، وإن كانت الأسمال على جسدها لا تفي بالمطلوب.. خلفها كلب من فصيلة محلية، يقتفي خطواتها.. حين مرت بجانبه، تطلع إليها بكل جسارة. لم تحفل بوجوده. بحسرة تذكر أن وجوده زئبقي، مخاتل، فاكتفى بالمشاهدة، هي أكثر ما يصبو إليه. تجاوزته المرأة مستمرة في ندائها .. لم يمض زمن طويل على عبورها حتى ارتفع ضجيج في الأجواء.. فزعا التفت نحو مصدره، التقطت عيناه مشهدا استفزه، جنديان يسحبان رجلا، يبدو أنه من السكان المحليين، يستغيث بلا جدوى، هكذا قدر كلماته التي لم يفهم منها شيئا. كان الجنديان فظين، متسلطين.. فكر أنه باسم قانون ما يفرضان على الرجل سطوتهما. إحساس بالمرارة اكتسحه، إنه عاجز عن فعل أي شيء. فقط تألم وهو يتابع خطوات الرجل المرتبكة.. لا يدري كيف استقر في خلده لحظتها أن الأمور لم تتغير، وأن العالم – منذ الأزل – محكوم بنفس المنطق، الأشكال تتبدل، أما العمق فواحد.
في تلك الأثناء، وهو يتماهى مع أحاسيسه، رّّجه صوت مختلف لا ينتمي إلى العالم الذي يكشف له نفسه.
" أسي محمد، آسي محمد "
بشدة انتشل نفسه مما هو فيه، فإذا برجل من زمانه الآني يناديه. كان يبعد عنه بأمتار قليلة. تدريجيا لملم شتات ذهنه، أحس وكأنه يستفيق من نوم عميق، لم يفسح الرجل له المجال حتى يرتب العالم من حوله، خاطبه بشيء من الغلظة:

-ممنوع الجلوس في هذا المكان بعد غروب الشمس.

اعتذر من الرجل، مسح الأبنية بنظرة وديعة، ثم حمل كيانه، غادر المكان، وعلى ملامح وجهه يستلقي شرود، لم يقو على انتزاع نفسه منه، إلا وهو في أحضان المدينة، التي حط بهاالرحال صبيحة ذلك اليوم.



#مصطفى_لغتيري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسائل إلى أديب ناشئ
- الإبداع القصصي عند يوسف إدريس
- أنطولوجيا القصة المغربية
- تسونامي - قصص قصيرة جدا - الكتاب كاملا-
- الكرسي -مسرحية من فصل واحد-
- إبداعات مغربية 2
- ضفائر للطيفة لبصير
- إبداعات مغربية
- السرد الروائي في رواية - رجال وكلاب- لمصطفى لغتيري
- روايات مغربية.. 2
- مميزات القصة القصيرة جدا ومرجعياتها الثقافية والواقعية (أضمو ...
- روايات مغربية
- التخييل القصصي القصير جدا في تسونامي
- ملامح شعرية في المجموعة القصصية -تفاح الظل- لياسين عدنان*
- قصص قصيرة جدا من - مظلة في قبر-
- حوار مع مصطفى لغتيري بمناسبة صدور -تسونامي-
- -الشيء ونقيضه -ثنائية فلسفية عميقة تؤثث ديوان -بين -ذراعي قم ...
- المفارقة والسخرية في مجموعة (تسونامي)*
- قصص قصيرة جدا من تسونامي
- قراءة في حب على طريقة الكبار لعزالدين الماعزي


المزيد.....




- -لإنكار الجرائم الأسدية-.. نقابة الفنانين تشطب سلاف فواخرجي ...
- شطب قيد سلاف فواخرجي من نقابة الفنانين في سوريا لـ-إصرارها ع ...
- بمناسبة مرور 50 عامًا على رحيلها.. بدء التحضيرات لمسرحية موس ...
- “بيان إلى سكان هذه الصحراء”جديد الكاتب الموريتاني المختار ال ...
- فيديو جديد من داخل منزل الممثل جين هاكمان بعد العثور على جثت ...
- نقابة الفنانين السورية تشطب قيد الفنانة سلاف فواخرجي
- قلعة القشلة.. معلم أثري يمني أصابته الغارات الأميركية
- سرقة -سينمائية- في لوس أنجلوس.. لصوص يحفرون نفقا ويستولون عل ...
- الممثلة الأميركية سينثيا نيكسون ترتدي العلم الفلسطيني في إعل ...
- -المعرض الدولي للنشر والكتاب- بالرباط ينطلق الخميس بمشاركة ع ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - على أعتاب المكاشفة