|
إنها المرأة
حنان كوتاري
الحوار المتمدن-العدد: 2348 - 2008 / 7 / 20 - 08:15
المحور:
الادب والفن
لم يكن يحب أن يراها مريضة و تتألم .. كان مرضها يمنعه من تعذيبها و يضطره إلى الانتظار حتى تسترجع شيئا من قواها ليعاود تعذيبها.. كان طويل القامة.. ضخم الجسد.. غليظ الرأس.. ذا وجه قاس الملامح . و كنت إذا نظرت إليه للوهلة الأولى حسبته وحشا من تلك الوحوش التي وصلتنا أخبارها عبر بريد الجدات ، فتخاف أن تمد يدك لتسلم عليه.. أما هي فقد كان جسدها نحيفا ، يخيل إليك من شدة نحافته أن الهواء الخفيف قد يسقطه ، فتشعر بقلبك يخفق من الخوف كلما مر بجانبك ، و تجد يدك تمتد بدون شعور منك إليه لتحميه من السقوط .. كان وجهها هادئا تسكنه الطيبوبة و الحنان، أخذت الأحزان من نظارته الكثير، فأضحى أشبه بشجرة جفت عروقها و تساقطت أوراقها و هي لا تزال في بدايات النمو. كانا نقيضين جمع بينهما تحت سقف واحد مع ما جمعت الحياة بين ثناياها من المتناقضات، و لله في كل ما يقضي به حكم قد تغيب عنا. لم يكتب الله لهما الإنجاب ، و شاءت حكمته أن يكون هو بهيئته العظيمة السبب في هذا الجذب. لم يصدق الطبيب عندما أخبره بذلك، فأخذ يضحك بصوته الغليظ حتى ارتعش الكرسي من تحته ، ثم قال باستهزاء و هو يمسح دمعة سقطت على خده من شدة الضحك : كذب المنجمون و لو صدقوا. نظر الطبيب إليه من وراء نظاراته السميكة باستغراب ، ثم قال بهدوء و هو يعبث ببعض الأوراق المبعثرة أمامه : أحيانا يكون من الصعب علينا تصديق الحقيقة ، لكن في جميع الأحوال تبقى الحقيقة هي الحقيقة. خيل إليه أن الطبيب يسخر من غروره و رجولته و كبريائه، و أنه قبل التفوه بهذه الكلمات نظر إليه مقارنا بينه و بين زوجته ، ثم همس إلى نفسه ساخرا : مسكين . فحدثته نفسه بالانقضاض عليه و تحطيم رأسه .. لكنه لم يفعل .. و غادر الغرفة غاضبا غير آبه بندائه ، و دون أن يأخذ أوراقه الطبية ، ! و بعد أن تجاوز الشارع الذي تقع فيه العيادة ، سار في اتجاه غير الاتجاه المؤدي إلى البيت. لم يكن يدري إلى أين يذهب؟ ظل يلف في شوارع البلدة على غير هدى إلى أن أنهكه التعب ، ثم جلس بإحدى المقاهي الصغيرة ، من تلك التي تكون كراسيها المنتشرة في الخارج أكثر من الموجودة بالداخل. جلس يراقب الناس ... و يلتهم الوجوه ... عله يقرأ بين سطور ملامحها ما يطمئن قلبه، و يخبره بأنه ليس الوحيد المبتلى في هذا العالم. كانت مشكلته ... كيف يخبر زوجته بالأمر؟ لطالما سخر منها و عيرها بضعفها و تباهى أمامها بقوته... لكنهما الليلة سوف يتبادلان الأدوار . حاول أن يتخيل رد فعلها ، فرآها تستغرق في الضحك ثم تقول و هي تضرب كفا بكف : مسكين .... مد يديه في الهواء ليمسك بجسدها النحيف و يدق عظامه بينهما ، فأسقط كوب الشاي الموضوع أمامه فوق المائدة . جاء النادل و أخذ يصرخ في وجهه و يلومه على تحطيم الكوب و طالبه بدفع ثمنه ، نظر إليه بغضب ثم انقض عليه و انهال عليه ضربا، كان كمن ظل لساعات طويلة يبحث عن شيء فقده، و بعد أن يئس من العثور عليه و انصرف عن البحث عنه، وجده فجأة أمامه.... اجتمع الناس و تدخل بعضهم لحسم الشجار. *** عاد إلى البيت فوجدها في انتظاره ، استقبلته بعيون متسائلة، تجاهل الأمر و سأل عن العشاء، فلم تجد مناصا من مبادرته بالسؤال : ماذا قال الطبيب ؟ كيف كانت النتيجة؟ لم ينبس بكلمة .... ظل واقفا أمامها صامتا . جامدا و هو ينظر إلى الأرض.... لم يقوى على الاعتراف لها بضعفه و بحاجته إليها. و كانت المفاجأة عندما تناهى إلى سمعه صوتها مرتعشا و هي تقول : لم أنت صامت ؟ أتشفق علي من إخباري بحقيقة عقمي ، لقد كنت أتوقع ذلك ، إنها مشيئة الله ... اعلم أنني لن أعترض أو ألومك .. كيفما كان قرارك ، ثم تركته و دخلت إلى غرفة النوم. حاول أن يلحق بها و يخبرها الحقيقة ، لكنه لم يستطع .... شعر بارتياح غريب ، و أحس بغروره يرقص فرحا.... و مضت الأيام دون أن يطلقها ، و دون أن يطلعها على حقيقة الأمر، و أصبح كلما رأى في عينيها نظرة شكر و امتنان ، شعر بضآلته و حقارته فعذبها عذابا صامتا خفيا لا يستشعر ألمه سواها.... عسى النظرة تتحول إلى نظرة حقد و كراهية. لكن النظرة لم تتغير... و ظلت هي دائما شاكرة .. و ظل هو دائما جبانا .... و لم يكن يدري أنها علمت الحقيقة من الطبيب ، و اختارت أن تظل معه ... و لم تشأ التخلي عنه . فكانت رغم نحافتها إنسانا عظيما ، و كان رغم ضخامته قزما حقيرا .
#حنان_كوتاري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصائدي
-
يونس بين القرآن و سفر يونان قراءة في تجربة يونس الإنسانية
-
ألم يقل الله عيسى ابن مريم؟
-
زهور الأقحوان
-
دموع حائرة
-
إمرأة ... أنا
-
القرآن و الإنسان
-
وهم
المزيد.....
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|