|
أستورياس في ( الريح القوية )
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 2300 - 2008 / 6 / 2 - 08:52
المحور:
الادب والفن
هنا، يولد الإنسان في وسط طبيعة معادية، ووضع طارد.. كل شيء ينطوي على عنصر تهديد. وصراع المرء من أجل البقاء يعد بطولياً ومأساوياً في الوقت نفسه. وثمة بُعد عبثي في ما يجري.. إن ( الريح القوية ) ستفتك، في النهاية، بكل شيء.. قوة عمياء كاسحة مدمرة تكشف عن هشاشة الوجود الإنساني وضعفه. تذلّ الإنسان، وتكسر إرادته، وتتركه في عراء الحيرة والهوان بلا حول، بلا معين، بلا بصيص هداية، وبلا رجاء حتى. وكلٌ يتساءل إنْ كان عليه الامتثال لداعي الهزيمة والموت، لهذا القدر الأعمى والأصم والقاسي؟ وإنْ كان يجب على هذا الكائن المصنف إنساناً أن يفعل، ويستسلم؟ أم تراه يمتلك طاقة النهوض ثانية، وإنْ بعسر، وإنْ على مضض، كي يحاول ويراهن على مصيره مرة أخرى؟. منذ البدء يعطينا ميغل آنخل استورياس في روايته هذه ( الريح القوية )* إشارات مربكة، غير سارة، وغير مطمئنة؛ إن ريحاً قوية ستهب لتقضي على حالة قائمة وعالم كان يبدو للوهلة الأولى مستقراً راسخاً. ولكن هل سيقوم بدلاً عنه حالة أفضل وعالم أكثر عطاءً وأماناً وحميمية؟. نحن إزاء رواية مركّبة تنشغل بأبعد من متنها السردي المباشر. فإذا قلنا أن أبطالها يخوضون كفاحهم البطولي واليائس من أجل البقاء أولاً، والارتقاء في نهاية الأمر، فإنهم ممزقون بين محدودية فرصهم من جهة وأحلامهم التي هي كبيرة أحياناً وصغيرة أحياناً من جهة ثانية. الأحلام التي ستتساقط تباعاً وتضيق في رؤوسهم إلى حجم رغيف من الخبز قبل أن تتلاشى أمام ( الريح القوية ) المميتة. يستهل الكاتب روايته بمشهد عن الجموع المؤرقة، الخامدة، المتوحدة، المبعثرة. أي أن التراجيديا التي ستتناولها الرواية لا تخص شخصاً بعينه أو عائلة معينة.. إنها تعني الجميع. لكن ثمة تغييراً قد حصل.. الإنسان والآلة بدّلت وغيّرت شكل الأرض. وكانت هناك سعادة الانتصار توزعها الشركة بين الجميع " فالكبار والصغار في تراتبية العمل، يشاركون في تلك السعادة.. سعادة الرجل الذي يهزم العدو لأن الجميع يشعرون بالتساوي بأنهم مساهمون في ذلك الانتصار المتحقق" غير أن غنائم الانتصار لن توزع بالتساوي، لن يُعطى كل شخص ما يستحق، بل إن الذين هم هناك، في نيويورك سيستحوذون على النصيب الأعظم، وسيبقى العاملون الحقيقيون يكابدون تحت وطأة العوز والفقر. وهنا نتعرف على حياة جيلين في علاقتهما بشركة ( تروبيكال الأميركية للموز )... تلك الشركة التي تقرر كل شيء، وتتحكم في الإنتاج والأسعار، وتحصل على العائد الأوفر وهي تحرك خيوط السوق من بعيد. شريحة عمال وعائلات تشقى وتزرع وتعرض إنتاجها، لكن الشركة تتحكم بالسوق وتشتري بأبخس الأثمان، أو إنها لا تشتري أبداً.. ومن يدير الشركة يسمونه في منطقة المزارع بالبابا الأخضر، والبابا الأخضر هذا "لا يعبأ بالحياة البشرية، إنه كائن من أرقام، إنه رقم مخطوط بالطباشير على الألواح السوداء في بورصة نيويورك". يتحول الجميع إلى أجزاء في الآلة الصماء، آلة الاستغلال التي تفرم الإرادات والآمال والأجساد؛ "عمال، عرفاء، آمرون، إداريون، فالتنظيم البشري يصل حتى الإداريين. يمكن القول إنه ابتداء من هناك تبدأ الآلية العمياء، القاسية، برجال آخرين، الآلية الثابتة، الموقوتة، الدقيقة التي تحوّل كل شيء إلى أرقام في سجلاتها". يأتون إلى الساحل بحثاً عن عمل، عن الخبز، عن فرص للثراء.. يأتون في القطارات، في الشاحنات، وسيراً على الأقدام. وقد ترك كثر منهم عائلاتهم بعيداً، ولا ينالون في النهاية سوى الإحباط والمرض والعاهات والموت.. "بقي ميد يراقب موكب الجثث الحية. عظام بشرية تسعل، تبصق دماً. عيون خارجة من الوجوه المبللة بعرق ينضح بمرارة الكينين. أسنان تجرب ضحكة مأساوية ما بين الشفتين اليابستين. نتانة دموع وإسهالات. وكان المرضى الذين يستطيعون المشي يحملون ملابس الآخرين المحمولين على نقالات قماشية بلون القهوة، يُنزلهم من سيارة الإسعاف ممرضون حفاة يرتدون أرواباً بيضاء". وحتى أولئك الذين ينجون.. يتزوجون ويشيدون بيوتاً وينشئون أسراً وينجبون أولاداً ويملكون مزارع صغيرة فإنهم أيضاً لا يضمنون أن يستمر كل شيء على ما يرام. سيحصل ما سيفتك بما حققوه بعد جهود وتضحيات وآلام عظيمة. ففي عالم يتحكم به راس المال ويقوم على الاستغلال وأمام طبيعة متقلبة لا تؤتمن لا شيء مضمون على الإطلاق. ليست في الرواية شخصية واحدة رئيسة، بل شخصيات عديدة، تحظى كل منها بفرص محدودة في الظهور في قلب المشاهد السردية. والشخصية الأولى التي نلتقيها هي ( أديلايدو لوثيرو ) عامل صلب العود، رشيق، متحمس.. شاب قوي يورطه أحدهم في موقف مفبرك ويجبره على الزواج من ابنته ( روسيليا دي ليون ) يصفها الراوي، في ساعة المكيدة، ببهيمة صغيرة لها عينا بشر. بعدها يرضى لوثيرو عن نصيبه ويبني بيته ويؤسس عائلته.. إن الرواية في وجه من وجوهها هي قصة صعود وسقوط هذه العائلة التي ستنتقل من وضع اجتماعي إلى آخر.. من طبقة البروليتاريا الرثة إلى الطبقة الوسطى المالكة لمزرعتها الخاصة. وبذا فهي رواية عائلات ومجتمع يكافح ببسالة في سبيل حياة أفضل، لكنه لن يحقق من ذلك شيئاً لأنه رازح تحت رحمة قوانين الرأسمالية المفرغة من أي محتوى إنساني. والنظام السياسي الفاسد يؤازر الشركات بالضد من مصالح أبناء البلد، والثورة التي يحكون عنها ربما لن تحقق سوى مزيد من القتلى والمعاقين، ولن تتأثر الشركة، ولا البابا الأخضر.. فالناس يموتون من العوز والفقر والجوع، ومن لدغات الأفاعي، وتقلبات الأنواء. والبابا الأخضر لا يأبه حتى وإن كان ثمة غضب وتململ، وإشارات لثورة لا تبقي ولا تذر. تقول إحدى شخصيات الرواية؛ " ويجب أن تعلموا أن البابا الأخضر هو سيد يقبع في مكتب ويملك تحت تصرفه ملايين الدولارات. يحرّك إصبعاً فتنطلق أو تتوقف سفينة. ينطق كلمة فيشتري جمهورية. يعطس فيسقط رئيس أو جنرال.. يحك مؤخرته على المقعد فتندلع ثورة. سيكون علينا أن نخوض الصراع ضد هذا السيد. ومن الممكن ألا نرى النصر..". وتقول شخصية أخرى؛ "آه يا بني! هذا البابا مثل البابا الآخر الذي في روما، لا تبدو له نهاية، لأنه إذا مات أحدهم يأتي آخر ليحتل الموقع نفسه". في هذه الرواية لن نكون إزاء فائض من الأطروحات السياسية المباشرة.. ستكون السياسة خفية، فاعلة فيما وراء الأحداث.. خلف الستار، على عكس ما كان حاصلاً في سبيل المثال، في رواية ( السيد الرئيس ) لأستورياس نفسه. حيث في ( الريح القوية ) يجد الإنسان ذاته ويختبرها في ضعفها وقوتها، في تطلعها ورضوخها، وتأرجحها بين قوانين قوتين عاتيتين؛ الطبيعة بمزاجها العكر وغير المنضبط والشرس والرأسمالية المهووسة بالربح والسلطة ومهما كان الثمن الإنساني والأخلاقي باهظاً. وعلى الرغم من هذا نتلمس نذر الثورة.. ثورة العمال الفقراء الوشيكة على المالكين الأجانب، الثورة التي تنطلق بعض شراراتها لكنها لن تحدث، أو هي تؤجل لأن ( الريح القوية ) ستسبقها. وربما كانت الريح رمزاً، أو كناية عن الثورة المرتقبة.. ساعة القصاص؛ الريح القوية التي ستهب في أية لحظة.. ساعة الرب الآتية، وساعة الإنسان.. هذا ما يقوله ليستر ميد، أحد الأجانب الذين يديرون أملاكهم هنا، وميد يدرك أنهم من أجل حفنة من المال خسروا العالم.. هيمنوا عليه لكنهم لم يكسبوه. وهذان، مثلما يعتقد، أمران مختلفان. هذه العائلات تتحدر من أصول مختلفة، غير أنها تعيش الظرف نفسه وتواجه المصير نفسه وفي النهاية يصف الراوي مقتل ليستر ميد وزوجته ليلاند فوستر والدمار الذي ألحقته بمنزلهما العاصفة، إذ لم يبق سوى "المكان المهجور، المكنوس، كما لو أن مكنسة غضب قد كنست كل تلك الفتنة". يترك أستورياس شيئاً من الغموض على مسار الأحداث. مسحة من الغرائبية التي تمنح لغته السردية القوة والإثارة، وتقرّبها من الأسطورة.. إن النهاية التراجيدية مقدّرة، حيث كل ما بني وزُرع وأثمر يستحيل قاعاً صفصفاً، وحيث يسبق غضب الطبيعة غضب البشر ويرجئ تفجره. ولابد من الإشارة إلى بصمات المترجم المبدع صالح علماني المطبوعة على لغة هذا العمل السردي الكبير ونحن نقرأه بعربية رائقة ومتدفقة. وحين نطوي الصفحة الأخيرة من الرواية فإن الرواية لا تكون قد انتهت بعد، بأي حال. * ( الريح القوية ) رواية؛ ميغل آنخل أستورياس.. ترجمة؛ صالح علماني.. دار المدى/دمشق 2000.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسعار النفط !!
-
ثقافة الصورة.. ثقافة المشاهدة
-
المثقفون وفوبيا الحرية
-
صورة المثقف مخذولاً وضحية
-
إذا ما غابت الثقة
-
ماركس الحالم.. ماركس العالم
-
فتاة في المطر
-
حواف الإيدز، أو؛ خالد في الصحراء
-
ماريو بارغاس يوسا في؛ ( رسائل إلى روائي شاب )
-
شبح ماركس
-
أخلاقيات الحوار
-
حواف الإيدز؛ أو خالد في الصحراء
-
الإعلام القاتل
-
ضد ماركس
-
كلام في الحب
-
هنتنغتون وفوكوياما ومسار التاريخ
-
المثقف ومعادلة السلطة المعرفة
-
فقدان حس الحاضر
-
موضوعة -السأم- في الأدب الروائي
-
أفواه الزمن؛ هذا الكتاب الساحر
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|