|
نزيهة سليم كما عرفتها
خالص عزمي
الحوار المتمدن-العدد: 2200 - 2008 / 2 / 23 - 11:10
المحور:
الادب والفن
أربعة اولاد وبنت واحدة ؛ جميعهم يتشابهون في السحنة فلا تكاد تفرق واحدا عن الآخر في المظهر الخارجي ؛ شعورهم سوداء مجعدة ملتفة على بعضها كأنها حزمة متشابكة ؛ وجبهاتهم عالية الوسط منبسطة على الجانبين ؛ اما أنوفــــــــهم فضخامتها مشهود بها ؛ بل هي نسخة طبق الاصل مما كان يتباهى به والدهم بقوله ( شم ألانوف ) . أما اصواتهم المتدهجة المتلعثمة احيانا و الضاحكة كثيرا فهي تمنح المصغين رقة وتقربا .
كان بيت الفنان الحاج( محمد سليم علي الموصلي ) ؛ يعج بالحركة ؛ لما عرف به رب الاسرة من كرم واريحية ؛ .. حدثني سعاد الرسام والمصمم البارع عن اسرته مرة فقال : ( لايكاد المرء يدخل بيتنا القديم الا ويرى بعض الفنانين من زملاء الوالد في الجيش ؛ كمحمد صالح زكي وعاصم عبد الحافظ وعبد القادر رسام ؛ او حتى من الجيل التالي لهم كفتحي صفوت وناصر عوني , بل ولوالدي علاقات متينة ببعض كبار قراء التراتيل الدينية و المقامات العراقية؛ ولطالما رحبنا بهم في بيتنا ) .
فتحت نزيهة عينيها على دنيا زاخرة بالحيوية والتعاطف الاسري المؤطرة بالوان من العشق الحقيقي للفنون ؛ وحينما أختارت الاسرة بيتا حديثا في محلة الوزيرية عاشت نزيهة واشقاؤها بذات العمق من المحبة والتواصل والألفة . في بداية الاربعينات ؛ اصبح ذلك البيت أكثر تطورا مع صيغ الحياة العصرية ؛ حيث حل الراديو الخشبي من نوع ( ويستنجهاوس )على الاسرة كغيث ربيعي منعش ؛ واضافة الى ذلك ؛ فقد افاض جواد على اسرته هو ايضا من ينابيع فنه حينما راح يعزف على الجيتار الحانا من تأليف فنانين عالميين وبخاصة ما حفظه من موسيقا ( الفلمنكو) المشهورة في جنوب اسبانيا .
في عام 1947 أكملت نزيهة دراستها في الرسم وتخرجت في معهد الفنون الجميلة ؛ واتيح لها ان تغادر الى فرنسا لاكمال تعليمها شأنها شأن بعض الذين سبقوها ؛ كفائق حسن ؛ وجواد سليم او كالذين زاملوها في تلك الفترة مثل جميل حمودي وحميد المحل واسماعيل الشيخلي ... الخ ؛ وبعد دراسة جادة ونجاح متفوق في فن الرسم ؛ عادت الى بغداد عام 1951 لتندمج في التدريس ؛ ولتتعرف بشكل مباشر على نشاطات التجمعات الفنية ؛ كأصدقاء الفن ؛ والرواد ؛ والانطباعيين ؛ و جماعة بغداد للفن الحديث ؛ فتجد نفسها الاقرب فنيا وتراثيا الى التجمع الاخير الذي كان يقوده شقيقها المثقف المبدع جواد سليم ؛ فشاركت بكل طاقاتها في مختلف المعارض التي اقامتها تلك المجموعة الفعالة النشطة .
اما على الصعيد الاسري فقد كانت قريبة جدا من جميع اشقائها في حياتهم العائلية والاجتماعية ؛ ومن نماذجه هذه اللمحة الخاصة التي لمستها شخصيا : ـ في جلسة فنية أدبية من عام 1953 اهداني جواد سليم لوحة تخطيطية فريدة بعنوان ( الرحيل عن الوطن) لتأخذ مكانها على غلاف مجلتي ( الاسبوع ) (1) حيث خصص العدد لمحنة اللاجئين الفلسطينيين ؛ وهو ما تبرعنا بريعه لرابطة المناضل الجريح في فلسطين ( 2) ؛ وفي ذات الفترة ؛ نال جواد الجائزة الاولى عربيا ؛ والسادسة عالميا ؛ وذلك عن عمله النحتي المشهور ( السجين السياسي ) من خلال المسابقة الدولية التي اقيمت في ( تيت كلري ) في لندن ؛ فوجدتها فرصة ثمينة لكي افرد له في ذات العدد نصف صفحة عليها صورة ذلك الانجاز مع تفاصيل كافية عن المسابقة ونتائجها المشرفة للعراق . وازاء هذا دعانا جواد الى بيته لقضاء سهرة كريمة بتلك المناسبة ؛ وما كدنا نأخذ اماكننا ؛ حتى دخلت نزيهة وقد بان عليها التعب والارهاق من جراء انجازها لوحة للمعرض القادم ؛ وان هي الا لحظات حتى تحولت نزيهة الى شخصية مرحة لطيفة النكتة نشطة الحركة ؛ بل وتولت ايضا مهمات الضيافة الاساسية لوحدها لكي تفسح المجال لزوجة اخيها الفنانة لورنا لتعزف على الكمان مشاركة زوجها جوادفي عزفه على الجيتار . وأكثر من ذلك هو ما لاحظته لاحقا اثناء ترددي وزوجتي المستمر على بيت نزار في المنصور فقد كنا قريبين بصداقتنا مع اسرته حيث وجدتها ـ ولاكثر من مرة ـ مندفعة وسباقة بحنان متميز في مشاركتها باعياد ميلاد شقيقها نزار ؛ او زوجــــــــته ( جنهلد ) او اولاده ( رشاد وسليم وريا وربا ) . وما رسائلها المتبادلة مع اشقائها ؛ ألا صورة حقيقية عن مدى اصالة و تلازم هذه الاسرة النموذجية في علاقاتها الحميمية في السراء والضراء وعبر مختلف المناسبات (3)
ان ارتباطها المتين باشقائها الذي اشرنا اليه ؛ لايعنى بتاتا عدم استقلالية شخصيتها في اتخاذ القرارت الخاصة بمواقفها (كما تبادر للبعض )؛ والحادث الذي أروي واقعته هنا مثال واقعي على متانة قناعتها وبمعزل عن اي تأثير جانبي آخر : ـ تقرر عقد اجتماع لبعض الفنانين التشكيليين في دار الراحل الفنان خالد الجادر يوم 17 /1 /1955 لغرض الاتفاق على تأسيس ( جمعية الفنانيين العراقيين ) وقد لبى حضور هذا اللقاء التأريخي عدد من ابرز الوجوه الفنية وكان عددهم (16 ) فردا ؛ كان من بينهم ا ثلاث سيدات هن ؛ نزيهة سليم و زوجة محمود صبري ؛و عالية القره غولي ؛ وبعد نقاش وتداول وافق االمجتمعون على التقدم الى وزارة للموافقة على اجازة الجمعية . . وكان الملفت للنظر هو توقيع نزيهة سليم على المحضر لقناعتها بما جاء فيه ومن دون الرجوع الى اشقائها الفنانين ( سعاد ؛ جواد ؛ نزار ) كما توقع الآخرون (4)
لقد كانت نزيهة سليم شديدة الالتزام بالمشاركة في مختلف معارض الرسم داخل العراق او خارجه ومع انها قضت زمنا طويلا في اوربا ؛ الا انها بقيت نبعا صافيا من ينابيع العراق في الفكرة ؛ والاسلوب ؛ واللون ؛ فلو نظرت الى لوحاتها التي امتلأ بها بيتها في الوزيرية وفاض على مئات المعارض ؛ لوجدتها متفردة ا ليس في اختيارها للمرأة العراقية في لوحاتها وحسب ؛ بل وفي مختلف مواضيع الطبيعة او المحلات البغدادية او الحياة الاسرية او الموروث الشعبي حيث اضفت على كثير من لوحاتها الوانا زاهية براقة نابعة من ذاتها وخزينها المتراكم ؛ وان براعتها في كل هذه الاوجه يضاف اليها اجادتها المشهورة في رسم لوحات (البورتريت ) . ومنها تلك اللوحة الفريدة التي رسمتها لزوجتي عام 1992 ووشحتها بتوقيعها.. والتي ما زلنا نحتفظ بها فخـــرا واعتزازا في صدر غرفة الجلوس .
كان آخر لقاء لي مع نزيهة سليم وانا اودع الوطن ؛ في ذات البيت من حي الوزيرية ؛.. والذي التقينا به كثيراكما أسلفت ؛ كانت هذه الزيارة ( الوداعية ) مع صديقي الاقتصادي الآكاديمي الدكتور طارق العزاوي والذي كانت اسرته هو الآخر مجاورة لآل سليم في ذات الحي ؛ ما كدنا ندخل البيت الغارق باللوحات المنجزة وتلك التي اجلت موعدها مع الفرشاة الى زمن مجهول ؛ حتى التقيناها (مع شقيقها الفنان الكبير سعاد سليم )؛ وهي لاتستطيع ان تتحرك الا بصعوبة بالغة من كثرما عانت من اوصاب وامراض ومحن ؛ في تلك اللحظة المؤلمة وانا انظر اليها وهي مهدمة متداعية : مرت على الذاكرة صورتها مع ست من زميلاتها ( فراشات الخمسينات) وهن بملابسهن العصرية الملونة الزاهية لتأدية دورهن كتشريفات في حفلة البولو التي اقيمت برعاية الملك فيصل الثاني في بداية عام 1957والتي خصص ريعها لدعم جمعية الفنانين العراقيين .
وقبل ايام ؛ ودعتنا الفنانة الكبيرة الرائدة نزيهة سليم ؛ بعد ان تركت أورادها الزيتية الملونة وهي تنثر شذاها على النادر مما تبقى من لوحاتها اللائذة بالطبيعة الخلابة ؛ والهاربة الى عوالم الحرية ..بعيدا ... بعيدا ...عن وحوش غابة النهب . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ــ مجلة الاسبوع العراقية ـ العدد19الصادرة بتاريخ 15 نيسان 1953 ـ بغداد (2) خالص عزمي ـ صدى السنين ؛ رابطة المناضل الجريح ـ الحوار المتمــــدن العدد (274) بتاريخ 2 / 8 / 2005 (3) خالص عزمي ـ نزار سليم رساما ـ مطبوعات وزارة الثقافة والاعلام ـ 1988 (4) ـ موقع جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ؛ حكاية التأسيس
#خالص_عزمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فضاء وانطلاق
-
يوم أعتقلنا في النادي الاولمبي
-
محو الامية في التربية الديمقراطية
-
أدب القضاة ( 22 ) حازم سعيد
-
التربية المسرحية في العراق
-
لكي لاتضيع ثروة الالحان
-
أدب القضاة ( 21 )
-
موجز لما نشرت عام 2007( 4 ) الخاتمة
-
اليوبيل الذهبي لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين
-
موجز لما نشرت عام 2007(3)
-
موجز لبعض ما نشرت عام 2007 (2 )
-
موجز لبعض ما نشرت عام 2007 (1 )
-
تطور الصراع الدرامي المسرحي
-
لقطات غير عابرة
-
مسيرة شركاء الحرف
-
المُهجرون
-
الساسة المصفدون
-
سلمان شكر شاعر الموسيقى
-
الى قيثارة الشاعر العراقي الكبير حافظ جميل
-
مشروع تقسيم العراق وتجاهل القانون الدولي
المزيد.....
-
أم كلثوم.. هل كانت من أقوى الأصوات في تاريخ الغناء؟
-
بعد نصف قرن على رحيلها.. سحر أم كلثوم لايزال حيا!
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|