|
مقالة
مازن جاسم الحلو
الحوار المتمدن-العدد: 2200 - 2008 / 2 / 23 - 09:54
المحور:
الادب والفن
يشعر المرء بالتقزم والخجل وهو يكتب عن قامة شامخة ، ونخلة باسقة في روضة الفكر والأدب والحياة الأكاديمية .. فقد مرت قبل أيام قلائل ذكرى أربعينية الأستاذ الدكتور سلمان داود الواسطي ، وهي مناسبة تستدعي أن نتوقف عندها قليلا لنستذكر بعضا من فكر وعلم وأخلاق عملاق من عمالقة الأدب ليس في العراق فحسب ، بل في العالم العربي أجمع .. فالراحل الكبير يحمل أعلى الشهادات الأكاديمية في حقل أختصاصه وهو الأدب الأنكليزي ، وفي حقل الشعر تحديدا ، وله باع طويل في اثراء الثقافة العربية والأنسانية من خلال مؤلفاته وترجماته الأدبية التي طالما شغفنا بها ، والتي كانت بمستوى رقيه ومثله الأنسانية العليا التي دأب على غرسها فيمن حوله وتجسيدها عمليا في ممارساته ، سواء معنا ، نحن طلبته ، أو مع محيطه الأدبي والأكاديمي . كان ، رحمه الله ، يعج بالحيوية وبذاكرة متوثبة وقادة ، وأسلوب سلس راق ، يتميز بالموسوعية في محاضراته التي طالما كانت تمثل الواحدة منها حضارة بكل معناها ؛ يأسرك بشروحاته الجزلة السهلة الممتنعة ، فيأخذك بأحالات متشعبة ممتعة لكي يوضح لك مفردة أو ليزيل الغموض عن فكرة ما ! والدكتور الواسطي من الباحثين والنقاد القلائل الذين يتميزون بأتقانهم اللغتين العربية والأنكليزية والعارفين بأسرار هاتين اللغتين على المستويات الكلامية والنحوية ،والدلالية، والتداولية بنفس الجودة والأتقان ؛ وله في هذا الخصوص دراسات وندوات طالما أشبعت فينا شيئا من حب المعرفة وغرست الرغبة في الأستزادة من ذلك المعين وسدت ثغرات في ذلك الحقل من الدراسات . . أما الميدان الذي كان يجد فيه نفسه بصورة واضحة وكان له فيه قصب السبق والريادة والتميز ، فهو بلا شك الشعر وترجمته .فقد استمر في تدريس مادة الشعر الأنكليزي الحديث والمعاصر لفترة جاوزت عقودا ثلاث ، أرسى فيها مبادئ ، وأوضح من خلالها الدروس والعبر وما يمكن أن نستخلصه من بطون الكتب ونوظفه لحياة أفضل ؛ فالأدب بالنسبة له ، لا يمكن ألا أن يكون في خدمة الحياة ، يرفدها بكل ما يجملها من خلال مقارنات وتشبيهات وتجارب مستقاة من تجارب الشعوب الأخرى . كان دائما ما يأخذ بتلابيب انتباهنا وهو يسافر بأخيلتنا بين بحور الشعر الأنكليزي وأيقاعاته الساحرة ، ليعقد مقارنات آنية بين ذلك السطر من القصيدة وبين سطور القصائد العربية وايقاع بحورها المتهادية .. أما في ميدان الترجمة ، فهو ربان لا يبارى ، وعلم خفاق طالما أسهم بيراعه الملهم في رفد الثقافة العربية وردم الهوة الثقافية بين الحضارات من خلال ترجماته التي تراوحت بين الكتب العلمية والأدبية والدراسات المتنوعة في شتى الميادين ، فضلا عن تآليفه في ميدان الترجمة ، حيث كانت له كتب منهجية تدرس في أقسام اللغة الأنكليزية والترجمة في الجامعات العراقية . ولا زالت كلماته تدغدغ أسماعنا وهو ينبهنا الى خطورة ترجمة الشعر وما يمكن أن يلحق بالقصيدة من ضرر جسيم اذا ما تصدى أحدنا لترجمة نص شعري دون التسلح بما يلزم من أدوات تمكن الناقل من ايصال ما تمور به القصيدة المصدر من صور وأخيلة وموسيقى ، حيث يمكن أن تتحول كل تلك المحسنات البديعية الى مجرد صورة فوتوغرافية بالأسود والأبيض فقط ! فالأستاذ الواسطي يرى أن روح الشعر تتبخر عند نقله من اناء الى آخر ، وتتحول رشاقته في لغته الأصلية الى مشي ثقيل بأقدام مكبلة بالقيود في اللغة الثانية ؛ وكان يردد على الدوام مقولة الجاحظ العصماء الجامعة المانعة : والشعر لا يستطاع أن يترجم ولايجوز عليه النقل ، ومتى ماحوًل تقطع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجب منه . حيث اشكالية العلاقة بين قيود الأمانة للنص الأصلي وحرية التصرف فيه تؤول بالمترجم الى خيانة الأمانة !!! غير أن أستاذنا الجليل ، والحق نشهد ، كان زارع أصيل في كلتا التربتين ، وناقل أمين ، تحس حين تقرأ له وكأنك تقرأ لمؤلف بارع في اللغتين المصدر والهدف ؛ أما عشقه للغة العربية فكان عشق أزلي ، وكان يبدي أفتتنانه بالمنجز الأبداعي للغة القرآن وما تركته في حياة الأمة من آثار فريدة يندر لها مثيل في اللغات الأخرى سواء من حيث الكم أو التنوع والجمال . لم يكن موقفه هذا نابع من العاطفة ، بل نتاج وعي كامل وثقافة رصينة وذوق أدبي رفيع . بقي أن نشير في هذه العجالة الى أن فقيد العلم والأدب الدكتور الواسطي كان قد تسنم العديد من المناصب الأدارية سواء الأكاديمية منها أو على مستوى الأتحادات والجمعيات ،أثبت فيها ألمعية تساوقت مع ألمعيته على مستوى التأليف والترجمة . كما أنه قد أشرف على العديد من الرسائل الجامعية ، وله الآلاف من التلاميذ الذين يحملونه في قلوبهم وعقولهم وذاكرتهم .
رحل الأستاذ الواسطي ، وبقي تاريخه الحافل بالأنجاز الأدبي الثر، والذي سيبقى شاهدا حقيقيا على جيل خالد ، كان جل دأبه ايقاد شمعة على طريق النهضة المستنيرة .. ومن أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة ... رحم الله أستاذنا الواسطي وأسكنه فسيح جناته ،ولأسرته ولتلامذته ومحبيه الصبر والسلوان .
#مازن_جاسم_الحلو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|