|
دعاء الكروان : تحفة الفن السابع
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2186 - 2008 / 2 / 9 - 10:11
المحور:
الادب والفن
1 في مثل هذه الأيام ، قبل خمسين عاماً ، كان العملُ جارياً بدأبٍ وهمّة في ستوديو القاهرة إستعداداً لأخراج فيلم " دعاء الكروان " ، عن قصة طويلة لطه حسين ؛ عميد الأدب العربي . إتسمَ هذا العمل ، العظيم ، في إرتباطه بأسماء ثلاثة من مبدعي الكلمة والصورة . ففضلاً عن الكاتب ، الموسوم ، لدينا كلّ من هنري بركات ؛ شيخ المخرجين المصريين ، وفاتن حمامة ؛ سيّدة الشاشة . والقصة هذه ، ذيّلها كاتبها بتاريخ 1934 ، وكان قد لمّح في أكثر من مقابلة بأنها مستقاة من حكاية حقيقية ، جرت فصولها في مسقط رأسه بالذات ؛ بإحدى قرى الصعيد . إنها حكاية ثأر ، تتأثل العادة المرتبطة بتقاليد تلك المنطقة ؛ وهيَ قبل كل شيء ، حكاية عن جريمة شرف . وكاتبنا هنا ، في قصته ، غلّب السردَ على الحوار ، بما أنه جعلَ البطلة ، " آمنة " ، تروي الواقعة بضمير المتكلم . ويمكن لنا ، على رأيٍ ٍ شخصيّ ، تصنيف هذه القصة في مراتب الأسلوب الواقعي الوجودي ، ليسَ فقط لما نعلمه عن تأثر طه حسين بمعلمه أندريه جيد ، بل وخاصة ً لما تطرحه الحكاية من مشكلة " التغريب " ، العصيّة الإشكالات : إنّ الأمّ " زهرة " ، المبتلية بزوج مستهتر ، سيكون عليها بعيد موته أن ترحلَ عن قريتها ، مُجبرة ً ، والتشرّد من ثمّ مع إبنتيها المراهقتين في الطريق إلى المدينة الصغيرة ؛ مركز المديرية . هذا الإنتقال ، المفاجيء ، من نمط الحياة الريفيّ ، شبه البدويّ ، إلى نقيضه المدينيّ ، كان بمثابة بؤرة الحدث . وبما أنّ الأمّ قد فقدت برحيلها الأرضَ ؛ مصدرَ عملها ورزقها ، فلا خيار أمامها هنا ، في المدينة ، إلا التغاضي عن صرامة التقاليد ، والقبول بجعل كبرى بنتيها ، " هنادي " ، خادمة لدى أحد المهندسين ، المتنفذين . أما عقدة القصة ، فتمثلت في إنتهاك " الباشمهندس " لعرض خادمته ، وما كان من سعي شقيقتها للإنتقام لدمها ، المباح ، إثرَ مقتلها على يد الخال ، الظالم ؛ هذه التي تقسم على الثأر في الفجر التالي للجريمة ، والمتناهي فيه تغريدُ طائر الكروان . هيَ قصة ، ما فتأتْ معاصرة اليوم ونعايشُ وقائعَ مشابهة لها ، لا في مجتمعاتنا المشرقية وحسب ، وإنما أيضاً في تجمعات المهاجرين في قلب أوروبة : هذه المرتبطة فيها " جرائم الشرف " بقوم معيّن ، بشكل خاص ، من يتحدر معظم أبنائه ، المغتربين ، من أقاليم تسودها ذات التقاليد ، شديدة المحافظة ، المشابهة لما أوردناه آنفاً بشأن منطقة الصعيد ، في موطن النيل .
2 قلنا أنّ السردَ في " دعاء الكروان " إختار طريقة ضمير المتكلم . وبما أنّ بنية الفيلم تعتمد بشكل أساس على الحوار ، فما كان من المخرج ، هنري بركات ، إلا العهد بالقصة للسيناريست المعروف ، يوسف جوهر ، لكي يتمّ إعدادها سينمائياً . ولكنّ صوتَ الراوي ، في الفيلم ، بقيَ يتناهى إلينا بين كل فينة واخرى ، من خلال " آمنة " التي دأبتْ على بثّ شجونها ومعاناتها عبرَ مونولوج شجيّ . وحِرَفيّة المخرج بركات ، الأصيلة ، أوحتْ له الإشتراك في كتابة السيناريو والقيام من ثمّ ببعض التعديلات على القصة ، الأصليّة ، كيما تكون متوافقة ، إلى هذا الحدّ أو ذاك ، مع شرط إنتاجها سينمائياً . ويمكن لنا ، خصوصاً ، معاينة جهد كلّ من كاتبَيْ السيناريو في نهاية القصة ، المعدلة ، حينما تمّ تقديمها بشكل حتم فيه على " الباشمهندس " الموت برصاص الخال ، إفتداءً لحياة الحبيبة " هنادي " . هذا المشهد ، الختاميّ ، كان صالحاً تماماً لفيلم ذي رؤية رومانسيّة ، ومتجاوباً كذلك مع عواطف جمهور هذا النوع من الأفلام . بيْدَ أنّ ما غاب عن ذهن السيناريست والمخرج سواءً بسواء ، أنّ النهاية هذه ، المقترحة ، قد أضرتْ بهدف العمل الروائيّ ؛ ألا وهوَ تشديدُ مؤلفه على إدانة فكرة الثأر ، المترسّخة في بلداننا ، عموماً ، من خلال التأكيد على قدرة الإنسان على التسامح ، حتى في أقصى حالات التظلم والغبن والإضطهاد . ولكن ، من جهة اخرى ، فالعمل العبقريّ هذا لطه حسين ، ربما ما كان قد حظيَ بتلك الشعبيّة ، المطلوبة ، لولا إنتاجها سينمائياً . وهذا نجيب محفوظ ، الأديب الكبير ، يقول في إحدى مقابلاته الصحفية عن دور " آمنة " ، المؤدى من لدن فاتن حمامة : " كان شيئاً رهيباً ورائعاً " . ويجوز لنا هنا الإفتراضَ ، بأنّ تأثر حامل " نوبل " العربيّ بقصة هذا الفيلم وأجوائه ، الملحمية ، كما بدور بطلته ، إنما كان من واردات شخصيّة " ريري " ، في رواية " السمّان والخريف " ؛ الفتاة المومس ، التي جعلها بطل الرواية ، " عيسى " ، خادمة وعشيقة في آن ، حتى إذا حملتْ منه قامَ بطردها إلى الشارع على الفور . وكذلك الأمر ، في قصة " قاع المدينة " للأديب يوسف أدريس ، المقدّمة شخصيّة المرأة التي يُجبرها زوجها ، العاطل عن العمل ، أن تخدم في منزل أحد القضاة ، فتضحي إثرئذٍ ضحية ً لنزواته الجنسية وعقدته النفسية . من ناحية اخرى ، وبما أننا في حدود القول السينمائيّ ، فيجدر التنويه بأنّ حسام الدين مصطفى ، مخرج كل من القصّتين هاتين ، كان قد تعامل مع النص ، هنا وهناك ، بمفهوم السينما التجارية ، مما أفقده روحه وهدفه . فكان إهتمام المخرج محصوراً بالتفاصيل الثانوية للحكاية ، وتركيز الكاميرا على مشاهد العري الأنثويّ كما على جوانب من العلاقة الجسدية بين البطلين . هذا وعلى الرغم من الأداء المميّز ، الرائع ، في كلا الفيلمين ، للبطلة ؛ الممثلة القديرة نادية لطفي ، والتي نالت عن أحدهما ( قاع المدينة ) جائزة التقدير الذهبي ، المغربية ، عام 1968 .
3 وبطلة فيلم " دعاء الكروان " ، فاتن حمامة ، هيَ بطبيعة الحال ، غنيّة عن التعريف . إنّ نجاح الفيلم ، الداوي ، والعائد تحديداً لأدائها المذهل ، المُعجز ، قد واشجَ إسمها بإسم مخرجه هنري بركات ( 1912 ـ 1997 ) . فشكلا معاً ، لاحقاً ، ثنائياً فنياً ، أسهمَ في العديد من الأفلام الجيّدة ، الإجتماعية المواضيع ، في العقدين الممتدين بين الستينات والثمانينات ؛ مثل " الباب المفتوح " ، " الحرام " ، " الخيط الرفيع " ، " لا عزاء للسيدات " ، و " ليلة القبض على فاطمة " . لا غروَ إذاً أن يُصَنف " دعاء الكروان " ، في إستفتاء صحفيّ ، محليّ ، كواحد من أفضل عشرة أفلام مصرية . فضلاً عن ترشيح الفيلم لجائزة " الأوسكار " ، ضمن خمسة أعمال أجنبية ، ثمّ تمثيله بلده في مهرجان برلين السينمائي . حين البدء بتصوير " دعاء الكروان " ، كانت فاتن حمامة في أواسط العشرينات من عمرها . على أنّ براءة وطفوليّة ملامحها ، علاوة على عفوية حركاتها ، قد أهلها لدور " آمنة " ؛ البنت المراهقة ، الأمية ، ومن كانت في مستهل الحكاية ذات حضور غير ملفت . حتى إذا وقعت الحادثة المأساة ، المودية ظلماً بحياة شقيقتها الكبرى ، " هنادي " ( الممثلة زهرة العلا ) ، قرباناً للتقاليد البدوية ، فإنّ بطلتنا ما أسرعَ أن حسرتْ اللثام عن شخصيتها القوية ، العنيدة ، الساعية للإنتقام والثأر . مشاهد الفيلم ، والمُرافقة بموسيقا مؤثرة ، ملحمية ، من وضع أندريه رايدر ؛ هذه المشاهد ، كانت من القوّة في التعبير أنها تصدم مشاعر المتفرج . كما في تلك الحركة ، المفاجئة ، التي يغدر فيها الخال بإبنة أخته . وما تبعها من هروب " آمنة " ، ومرورها بذات البقعة الصحراوية ، الشاهدة على الجريمة ، وما كان من دوران الكاميرا بأشجار النخيل ، العملاقة ، حول بطلتنا المنهارة ، والمُتبدّية لبصرها كأشباح أولئك الظالمين ، من مجتمعها الذكوري . ثمّ واتتها الفرصة للإنتقام من " الباشمهندس " ( النجم أحمد مظهر ) ، الباعث لمأساة أسرتها ، حينما تخدم لدى عائلة ميسورة في المدينة . إذ يتقدّم الرجل لخطبة إبنة العائلة ، ولا تلبث هذه أن تواجهه بالرفض ، بعدما تكشف لها " آمنة " دوره في مقتل شقيقتها . وكان مما له مغزاه هنا ، أنّ البطلة حينما توجهت لاحقاً للعمل كخادمة لدى " الباشمهندس " ، فإنها كانت قد نالت قسطاً معقولاً من التعليم على يد إبنة العائلة تلك . هذه الحقيقة ، تفسّر لنا إحجامها ، المرة تلو الاخرى ، عن إيقاع العقاب العادل بمخدومها ، ما دامت أضحتْ أكثرَ وعياً لقيمة حياة الإنسان ؛ وهيَ الحياة غير ذات القيمة بحسب التقاليد المتعسفة لريفها ، شبه البدويّ ، التي تربّت عليها . على أنّ جزاءَ " الباشمهندس " لم يتأخر ، في واقع الحال ؛ هوَ من كان قد توله بحبّ " آمنة " ، ثمّ ما عتمَ أن علمَ منها الحقيقة وأنّ " هنادي " ، التي هتكَ عذريتها ، كانت أختها . ويمكن القول ، أنّ ثنائية القرية / المدينة ، شكلتْ أساس ثيمة " المكان " ، المرهونة لها مصائر الأسرة المشرّدة . فالمرأة الريفية " زهرة " ( الفنانة أمينة رزق ) ، تحاول إنقاذ بنتيها من الوقوع في شرك الإغراءات المدينية . ولكنها لا تلبث أن تقف عاجزة ، سلبية ، أمام مأساة " هنادي " ، ومن ثمّ فرار شقيقتها وعودتها للمدينة طلباً للثأر . وعلى ذلك ، فثمة قطبا الخير والشرّ يتمثلان الثنائية تلك : الريف ؛ بنموذجَيْ الأب المستهتر والخال الظالم ( الذكورة ) / الأمّ المتفانية وإبنتيها المسكينتين ( الأنوثة ) = المدينة ؛ بنموذج المهندس ، المتهتك ( الذكورة ) / إبنة العائلة ، الطيبة والمثقفة ( الأنوثة ) . وخاتمة الفيلم ، بدورها ، تقدّم لنا مفارقة بيّنة ، مماثلة لبدايته : " هنادي " المغتصَبة ، تقتل في بداية الحدث بيد الخال / المهندس المغتصِب ، ينجو من العقاب ويتابع سيرته المستهترة = " آمنة " المُستهدفة من لدن خالها تنجو في نهاية الحدث وتتابع مسيرة حياتها كإنسانة حرة / المهندس المحبّ يكفر عن خطيئته بحق الشقيقة الراحلة ، حينما إفتدى " آمنة " بحياته ووقع صريعاً برصاص الخال المنتقم .
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ميرَاثٌ مَلعون 5
-
ميرَاثٌ مَلعون 4
-
ذهبٌ لأبوابها
-
ميرَاثٌ مَلعون 3
-
ميرَاثٌ مَلعون 2
-
ميرَاثٌ مَلعون *
-
كيف نستعيد أسيرنا السوري ؟
-
أختنا الباكستانية ، الجسورة
-
جنس وأجناس 4 : تصحير السينما المصرية
-
زهْرُ الصَبّار : عوضاً عن النهاية
-
زهْرُ الصَبّار 13 : المقام ، الغرماء
-
الإتجار المعاكس : حلقة عن الحقيقة
-
زهْرُ الصَبّار 12 : الغار ، الغرباء
-
نافذتي على الآخر ، ونافذته عليّ
-
من سيكون خليفتنا الفاطمي ؟
-
طيف تحت الرخام
-
زهْرُ الصَبّار 11 : المسراب ، المساكين
-
زهْرُ الصَبّار 10 : الغيضة ، المغامرون
-
جنس وأجناس 3 : تسخير السينما المصرية
-
الحل النهائي للمسألة اللبنانية
المزيد.....
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|