|
الغائب
يعقوب زامل الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 2126 - 2007 / 12 / 11 - 08:29
المحور:
الادب والفن
لم يكن في حياته حاظرا كما هو في غيابه الأبدي ، انما كان كالماء متدفقا
أدار المفتاح في قفل الباب من الداخل . أطفأ النور ، وفي العتمة صر السرير تحته . لحظة ألقى على الوسادة رأسه الصلب بارتخاء للنوم .. كان الظلام صلباً في الأنحاء ، كأنه الغابة ، أعمى . الأشياء التي تلاشت في العمى ، غدت شيئية باردة ، مظلمة ، توالدت في السر كأنها بداية اللحظة الأولى ! الصمت الوخم ، المغامرة التي خلفت أبان انتشارها كبرياءة رقيقة .. خشخشة موحشة .. متلفعة . ومن مكان سحيق ، هست أدران الهوس المارثوني ، طنيناً ثابتاً ، كأنه من شيطان صغير ملصوق في جدار الظلمة . في أقل من ثانية استدار الزمن قاسياً ، ألف دورة . ليسقط عقبها في زاوية ميتة . الزاوية التي كان فيها جسمه طافياً ، بارداً ، مسترخٍ ، ومتنفس في العدم المدهش .. في الحاضر المتفوق ، الساكن ، المتخشب . مثل نخلة معمرة خلفت مستقبلها تحت . الحياة التي تسكن طافية في الأعلى ، ان مرت .. فأنها لن تتكرر أبداً . وكان هو في الظلمة مثل جدار .. لا يعرف ان كان قائماً .. أو مائلا . مستلقٍ على ظهره ، أو منكفيء على وجهه . بلا مستقبل . حاضر فقط انه حاضر الماضي الدائم . يوم من رحم الأمس . مثل الواو المتصلة بالياء الأولى ، ومرفوضة بتثاقل عن ميم متعجرفة … متعالية . متكور . أحس بالحرارة تأتيه من الفراش الذي انطرح عليه. قبل أن يتكشف الظلام ، كانت له هيأة أخرى ، متشنجة ، ملمومة ، فم صغير منكمش على أسنان مصطكة ، مثل فأر خائف ، وجفنين جامدين على جانبي نظر ناشف ، مخبوء في العتمة ، وجانبي وجه مخددين ، تحت أنف ناتيء . وكان يائساً ، بائساً أكثر من الجمع الحاشد ، عيناه مثل عيني دجاجة عجوز ، صغيرتين ، ضيقتين ، تبحثان في الجوف المعتم البعيد ، بانتظار ( كودو ) النبأ الطيب ، عن شيْ يأتيه . محتشدين ، محلقين ، كانوا أمام نافذة الاستعلامات . النافذة السمراء المعتمة ، كانت يائسة أيضاً ، وكانت مغلفة بالرؤوس والأيدي المشرعة ، يتصايحون ، مأخوذين بالدهشة المتورمة . وكان هو خلف الحشد ، مقذوفاً . يتطاول على الظهور ، مشرعاً ساقيه تحته ، مثل ديك يائس يهم بالإنقضاض كرة أخرى . كان لحاء متصلب من نظر أخيه المهيأ للرحيل يسقط ثقيلاً بين دفتي ظهره . ـ سأذهب .. وكان جسده مشغولاً بتسوية أرض حديقة المنزل ، البور ، هارباً من حركة الوداع معه . وكان يشعر به خلف ظهره المنحني ، كرر قوله : ـ سأذهب .. وكان يحس بالفراغ الممتليء بالقسوة : (( لاأستطيع أن أن أحول بينك ، وبينه .. )) وكان يحس بوجوده خارج البيت ، تحت نثيث المطر الناعم .. واقفاً ، لايريم ، ينتظر خروجه النهائي . والآخر بيده كيس صغير من النايلون . أزرق , وبالأخرى بيرية سوداء . وكان الفقدان ثالثاً في مكان آخر ، ناءٍ . ينتظر هو الآخر. وثالثة قال ، حين استدار نصف دورة على نفسه : ـ سأذهب ! وتحت مظلة من الدموع أشاح بوجهه هامسا : " إذهب " الشيء الفارغ لاينطق ، وافترقا . الوجه الملّوح بالحزن على الظهر المنقوع بالمطر والخيبة . وعلى ذات الإنحناءة القاسية ’ إنغلق بلعومه على بحة بكاء أخرس . كان يسمع شخط حذائه على إسفلت الطريق المبلولة بالمطر . نظر في ظهره ، وفي ظهر الآخر ، فتيقن ان الذي يجرجر خلف سويداء الرحيل رجليه ، لن يعود ثانية . كان مع رحيله يسيران معاً ، أليفين إنقلب على جانبه ، كان ظهره محروراً . شيء فشيء ، تكشفت العتمة عن ظلال كالحة . كانت ترتجف بلا أجنحة . الوجوه المنعمة بالصبر ، إندلقت ، تطايرت ، توسدت أكتاف غيرها ، مثل ثمار دفلى ميتةٍ .. في تواز ثابت نحو النافذة المصبوغة بالعتمة الواهنة . بإنتظار القادم . طيور واطئة ، داكنة ، تتدلى في طيرانٍ ميت . وكانت أسنانه مصطكة , تغور بداخل شفتيه المزمومتين . الوجه الساكن ، اليقظ بلا حراك ، ينتظر بقنوط ، عبثية اللامنطق . وببطء متدرج كان جسده يرتخي أحياناً ، وقبل أن يتقلص من جديد عاجلاً . يكتسب قدرة عجيبة على امتصاص الشر ، الشرالمتدحرج كنقطة زئبق . بين الرؤوس التي تشبه مزرعة البصل . كان رأسه في الخلف ، يشاهد مثل الجميع أثريات متحجرة في قوالب كارتونية قديمة ، مركونة في جوانب الواجهات الزجاجية ، كأنها في متحف . أثريات سبقت تاريخ الجميع . شيء كالتسلية المجمدة .. الضائعة كالمستقبل. لكنها وبهذا الأجتياز المضني ، استحقت كل هذه الأحتفالية المندهشة . وكان الجميع يلّوحون اليها بمناديلهم وفاءً ـ سأذهب ! قال وقد أحس بالجزع والملل . ـ (( لاتذهب ..ستأتي قائمة أخرى .. )) صوت من بين الواجهات الزجاجية قال ـ عيب يا جماعة أنتم كبار ، ولستم صبية . قال آخر معقباً : ـ الأطفال أعقل ، والله اندفع ثالث صائحاً : - إرفع كوعك عن رأسي . ومن جوف الزحمة الغائرة بين الأقدام ، تناه صوت : ـ أخوان من رأى فردة حذائي ؟ أما الذي تسفَّد بحديد النافذة ، صاح مستغيثاً : ـ أنتم عميان ؟ لاأحد في الغرفة وباستسلام ، هدأ الحشد . سكنوا متلاصقين للمرة الـ …. وتحت أقدامهم ، سقطت خيبة ، فأخذوا يتجاملون ملوحين بالنظر الباسم ، والعرق النتن . مظلة وقوف الباص ، كانت فارغة ، كأنها أعدت لأستقبالهما ، والبيوت المبللة واجهاتها ، كأنها مقرورة بدت يائسة ، مصطفة على جانبي الطريق كانت تشهد مرور ( المعجزة ) ، المتفاخرة ، تحت المطر . وثمة أطفال تراكضوا تحت النثيث بطيش منفعل . وغيوم سوداء ماتزال تتجمع منذ الصباح الباكر في سدرة السماء الغائمة . وثمة ضوء منزو يبقر جانب من عتمة الأشياء . الاشتقاقات الكئيبة ، السائحة في الأعالي ، والجوانب ، وعلى الأرض ، صنعت كرنفالاً للنظر الجامد الأشياء التي ترنو بلا أسباب ، تبدو غير حقيقية . وكان يتأملها على نحو بَرِم ، ناشفاً ، غائماً بغموض . كأنه القناع الهادئ ، وكان الفراق جانحاً ، وسط الطريق المبقع بالماء ، ضاج ، حائر ، مثل جرح تحت المطر . ومن خلف سياج الدارة البليلة ، كان يقف كالتمثال ، لم يقل شيئاً في الوداع .. ليس سوى أكثر من النظر. على جانبي النظر المخبوء في العتمة ، وبين الطيور الواطئة ، الداكنة ، تسرب فكره : (( ذهب .. نعم ، لكنه لم يعد ، هل هذا حق ؟ .. )) . وكانت الوحدة ، مثل الكرة ، مستلقية على بطنه . كرة مدهشة ، تتنفس ، (( ماالذي جعله لايعود .. مثل آخرين ؟ ، )) الكرة النائمة على بطنه ، لها أكثر من عنصر إغراء لايقاوم ((.. رأيته بعيني يذهب وإياه ، ماالذي أخره عن العودة معه ؟ )) رغوة الغياب، الغياب الأملس ، الولود ، تخفق كأجنحة فراشة ، إنقلب على الجانب الذي كان فيها هسيسها واضحاً (( أليس للفعل ..ردة فعل ؟ .. أين الردة الأكيدة ؟ كل الأشياء لها طرفين في المعادلة ، حين تكون حقيقية ، حتى الرحيل ، فأين الطرف الآخر ياترى ؟ ..)) تطايرت فقاعات الرغوة ، مثل الممكنات .. والقياسات .. والأشباه المعقولة . فكر بالنسبية ومنطق السبب ، وقانون نتائج السليقة ، وفي علل العقدة . لكنه لم يصل للأقتناع ! كان يشعر بغزارة الغربة ، منتظراً للعزاء ، حزيناً . بالأمس كان رقيقاً في مخمل الحزن ..أليفاً ، طرياً . غير أنه ، هذا اليوم .. كان متعصباً ، متصحراً ، جافاً ، مثل ترابٍ في صيف . وكانت له رائحة من حمى الغيظ ، قوية ، (( أية مهزلة ؟ .. )) وكانت به حاجة لبوقٍ من نار ليوقظ الموتى به ، يسألهم عن الذي كان بيده كيس أزرق من النايلون ، صغير ، وبالأخرى بيرية سوداء . منقاداً خلف سويداء الرحيل المضني ، (( أين اختفى ؟.. )) ، كما يسأل الأحياء الذين بدون ذاكرة . والذين يرتجفون الآن تحت الأغطية ، لحظة يضجون مثل النحل في متحف العرض القديم . ( لماذا لم يعد ؟ ) . إنقلب كرة أخرى على ظهره فوق الفراش المحرور ، قال : (( خراء )) فكر : ((إنه طريف ..طريف على نحوٍ غريب ، ومبالغ .. أن أكون طافياً في الفراغ .. الظلام ، أبحث في العلة والسبب والفقدان ، عن رجلٍ ذهب ، ومن غير ما سبب لم يعد …)) ـ ((…أش … إقطع الكلام ! )) فتح عينيه ، كانت ظلال سميكة ، تصنع نفسها في براعم الضوء ، وكان الحشد ، يتحرك مثل نبأ سيء ، مكسوراً ومحروثاً . - (( إقطع الكلام )) أصر الصوت . إنسكبت على الرؤوس ، والأردية ، رخويات من الصمت ، تلذذ ساقي الحانة بها ، فراح يصفر بتناغم ، أحس بطعم الخمرة القمرية ، في حلقه ، تمنى لو يشربها بالكامل ، حتى يثمل . الذي انسحق على سفود الشباك صاح عالياً : ـ جاء النائب ضابط بالورقة . مات كل شيء .. ومن جديد رقصت ميتة ، أيدي الجميع فوق الرؤوس ، وعلى الأكتاف . رخويات طينية . اندلق النظر في كؤوس الصمت .. طفح ، حتى انسكب ، لم يشرب أي منهم ، كانوا بحاجة إلى حماسة للسكر . وإلى طيف للشهوة . ـ سأقرأ … لاتقاطعوا ! والذي يسمع يخرج . وكانت قصيدة عصماء ، أبيات موزونة ، موزونة قوافيها على أهلة النياشين والأوسمة والنجوم والأشرطة . وكان الموتى داخل الغرفة متيبسين في أغلفة قديمة . الصور شاعرية ، شفافة . الرموز الحية والإيحاءات الدالة البارعة تنفرط على الرؤوس والأسماع بكرم لذيذ . ينفرط الحشد ، واحد من هنا ، واثنان من هناك ، وكلما كثرت خلخلة الحشد ، إحتشدت الصور الشعرية لتملأ جو الحماسة البديعة . وكان الجمال فائضاً . يتنفس على مهل بين الأفئدة ، والعيون المأخوذة ، يأخذ المكان في الشهيق ،ويلقي الزمان بالزفير . يشعر الجميع براحة مخدرة ، يتحلل الحشد ، تتماسك القصيدة ، القدم التي داستها الأقدام عفواً ، تحللت ، تماثلت للراحة ، ومثل الرؤى ، طارت التي داستها بعنف وحين دب الخدر فيها ، إنتشت . عربد الباقون (( إقرأ .. إقرأ ..)) وكان الوقر يسد الآذان . وفي الرأس دفق شاذ لتبلد اليقظة والحلم . في الطرف . كان أحدهم يبكي .. لقد تحطمت كأس خمرته ، أدبه رجل قريب منه قال: (( وللأرض من كأس الكرام نصيب ..)) إمتلأت جوانح الباكي ، إعتصر عن عينيه جميل الدمع ، وخرج بعيداً عن الحشد الذي بات صغيراً . وشيئاً فشيئاً .. كان انفلاش الحشد يتوسع .. يتقلص .. شيئاً فشيئاً ، حتى غدى وحده ، نظر إليه شاعر المعلقة الجميلة قال : ـ مايبقيك .. ؟ ـ لاشيء .. أنتظر النهاية .. ـ لقد وزعنا عظام الشهداء على الجميع .. لاشيء باقٍ ، أخرج .
#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
للفرصة وجه آخر
-
بعيدا عن وعورة الحلول البائسة
-
آفة الزمن الأغبر
-
جودت التميمي .. شاعرا وانسانا
-
وحدة المصفدين
-
شهادة أخرى
-
لكي لا نفاجىءبالموت أيضا
-
قصة قصيرة
-
بين نازك وأمي سراط لمواصلة الانسان
-
الفوضى الخلاقة .. لماذا ؟
-
خطوة في الفراغ الجميل
-
خطوة في الفراغ الجميل
-
خطوة في الفراغ الجميل
-
لقاء مع الدكتور ميثم الجنابي
-
لقاء مع المناضلة والكاتبة المعروفة سعاد خيري
-
السلام العادل.. بين الأصالة والثورية
-
لقاء مع الاستاذ سعيد شامايا ـ عضو سكرتارية مجلس كلدوآشور الق
...
-
مع عيسى حسن الياسري رفيق الرحلة في منزل الاسرة العالمية
المزيد.....
-
-المعرض الدولي للنشر والكتاب- بالرباط ينطلق الخميس بمشاركة ع
...
-
اللغة العربية في طريقها الى مدارس نيشوبينغ كلغة حديثة
-
بين الرواية الرسمية وإنكار الإخوان.. مغردون: ماذا يحدث بالأر
...
-
المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف: الصهيونية كانت خطأ منذ البداية
...
-
دول عربية تحظر فيلما بطلته إسرائيلية
-
دول عربية تحظر فيلما بطلته الإسرائيلية
-
عن -الأمالي-.. قراءة في المسار والخط!
-
فلورنس بيو تُلح على السماح لها بقفزة جريئة في فيلم -Thunderb
...
-
مصر.. تأييد لإلزام مطرب المهرجانات حسن شاكوش بدفع نفقة لطليق
...
-
مصممة زي محمد رمضان المثير للجدل في مهرجان -كوتشيلا- ترد على
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|