|
فيروزالواقع والحلم
بابلو سعيدة
الحوار المتمدن-العدد: 2103 - 2007 / 11 / 18 - 10:03
المحور:
الادب والفن
الرحابنة ، كلمة ولحن وغناء ، اعتمدوا الجدل، جدل اللغة بالطموح والأمل. وهم ذاكرة وتاريخ وحياة ، وبشر حقيقيون وإنسانيون . أبدعوا في التأليف والتلحين والغناء . يقول نزار قباني: (( فيروز أعطت نكهة الحضارة للقصيدة وأم كلثوم أعطت الجلالة والفخامة للقصيدة وماجدة الرومي أعطتها شفافية النقاء والثقافة )) . أحدث رحيل عاصي فراغاً في موسيقا الرحابنة . وحاول منصور إكمال المشوار وملء الفراغ . وجاء زياد لتوسيع خارطة الرحابنة ، والعمل على تجديدها وتحديثها. لم يدخل الرحابنة عالم السمفونيات ، بل بقي مسرحهم غنائياً واستعراضياً خلال المهرجانات . قام بالتوليف بين الرومانسية والواقعية ، والترييف والتمدين ، والتمدن والماضي والحاضر ، والواقع والطموح ، وبطل النص وبطل الحياة . خلال الحرب الأهلية اللبنانية المأسـاوية في الربـع الأخيـر من القرن الفائت ، بقي مسرح الرحابنة رمزاً للبنان الحر، وللتآلف بين سكانه ، وللإخاء بين فئاته ، وشرائحه وتلويناته . وأينما حلت فيروز ورحلت ، حملت بجعبتها الماضي والذاكرة والتاريخ. ولدت فيروز في بيئة ريفية من عائلة متواضعة ، كانت سـعيدة جــداً. ولم تكن تعرف الزعل في طفولتها وقريتها . ولم تكن تعرف الكهرباء والسيارة. وكانت تذهب إلى نبع الضيعة لجلب المياه . تذهب وتغني وهي وحيدة . وتلعب فيروز مع فيروز لا مـع أطفـال الضيعـة . ولـم يكـن يوجد راديو في بيت أهلها ، وكانت تستمع إلى الموسيقا والأغاني عند بيت الجيران . تعلّمت فيروز الأناشيد والموسيقا في مدرسة الراهبات ، وحياتها كانت رائعة ومريحة ، وطفولتها كانت سعيدة ، وضيعتها جميلة . أحبت فيروز طفولتها وجدتها ، ولم تكن طفولتها تعرف الهموم والأحزان. وقد عرفت الفرح ، وأحبت الطير والدير، والنبع ، والشجر، والطريق، والقمر. وكانت الأعوام تمضي بسرعة ، لأن فيروز كانت تعيش الفرح الدائم . ولم يكن لها في حياتها وذاكرتها ، أصدقاء وصديقات . وفي بداياتها الفنية ، غنت فيروز في كورال الكنيسة ، والإذاعة اللبنانية. وتعرفت على عاصي داخل الإذاعة . وكان نظام حياتها شبيه بنظام جرس الكنيسة ، ويتكرر يومياً ، ويعيد ذاته (أغنية داخل الإذاعة – طريق – بيت) وهي تعرف الطريق والشجر أكثر مما تعـرف البشــر. وتركت عملهـا في الإذاعــة اللبنانيـة تلبية لرغبة عاصي ، وتزوجت منه 1954. وكان عاصي وفيروز متلازمين تلازم الظل لصاحبه ، والرضيع لأمه. وكان الفن هو شغلهما الشاغل ، ليل نهار، وهو حياتهما الخاصة والعامة . وكان عاصي صعباً وقاسياً في التعامل مع فيروز في حياتها ونصوصها . ولم تكن فيروز تختار فعلها . ولم تضع برامجاً ، كان عاصي هو الذي يختار (الاجيندا) لفيروز . لأن عاصي لم يكن مهتماً باللاءات الفيروزية . واستطاع عاصي وفيروز خلق موجة فنية جديدة ضد الموجة القديمة ، وتختلف عن الجملة العربية السائدة . ووجدا صعوبات وتحديات . واثبتا حضورهما الفني في نهاية المطاف. وتابعـــاً طريق الفلاح . واجتازا المرحلة الصعبة ، وأكملا طريق الفن بنجاح كامل . وعملا ليل نهار، وفي الضوء والعتمة ، لإنجاز شغلهما. المستمر داخل الاستديو . ووسعا شغلهما . وانتقلا إلى المسرح . واعتبرت فيروز شــغلها أهم من العبادات . وكانت تهرب من الناس ، وتمكث وقتـاً طويلاً في بيتها . وهي ميالة إلى أن يسمع الناس أغانيها ، لا أن يروها ويتحادثوا معها، لأنها عاشقة للشهرة والوحدة. وتألق نجم الرحابنة على مسرح بعلبك ، كما تألق المسرح على يد الرحابنة . وجملة فيروز المألوفة لعاصي (( أنـا لا أعرف التكـلم ، ولا أعرف المشـي ، ولا أعرف التمثيل )) لم تجعله مهتماً بجملة فيروز اللاأدرية واللاعارفة . وانتقلا إلى السينما ، ونقلا معهما الأشياء الجميلة ، والجغرافية ، والإنسان، والطفولة ، والضيعة ، وجبل لبنان والمطارح ، والذكريات، والبطولة الفردية والشعبوية . وكانت أغاني فيروز تستوحى من مشاعرها وقيمها ، وتمثل نفسيتها ورغباتها وطموحها وذاكرتها وأخلاقها . كان عاصي يستعمر فيروز بطريقة محببة إلى قلبها. وفي رحلات الثنائي /عاصي - فيروز/ إلى البلاد العربية والغربية ، وجدا تجاوباً من الجمهور. وعندما عانق الموت عاصي الرحباني في 21/6/1986 أصيبت فيروز بالمرض وشعرت بالخوف من الغد المجهول ، وعلى أحوالها بالذات ، وبالشغل. وكلما كانت فيروز تغني في مطرح ، كانت تشعر بوجود عاصي إلى جانبها . ولقد أتعب موت عاصي ، السـيدة فيروز ، كما اتعبت الحرب ، أغانيها وذاتها معاً. خرجت فيروز من عزلتها ، وغنت في ســـاحة الشهداء اللبنانية 1994 " سنرجع يوماً إلى حينا . سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا " وعندما غنت فيروز على مسرح بعلبك 1999، شعر الإنسان العربي بدفء الحياة، وبولادة جديدة، وبسلم أهلي ، وبفرح دائم، وبإخاء صار واقعاً ، وبحرب دفنت إلى الأبد . وتربعت فيروز على عرش المسرح لثلاثة عقود من الزمن . والرحابنة الذين هم صوت، وذاكرة ، وحياة ومواقف شغلوا أمة العرب نصف قرن من الزمن. واتسم مسرح الرحابنة بالحداثة الشكلانية وبالجدية وبالصوفية وبالمثالية وبالرومانسية المناغمة للسياسة الاجتماعية ، وتمحور حول البطولة الفردية الشعبوية ، واسقط من أدبياته ومسرحه البطولة السلطوية . وعمل مسرح الرحابنة بجدية على تغيير الكلمة ، والجملة العربية . واعتمد جـدل اللغة بالطموح غالبــاً وبالواقع أحيانا . ورفض التدجين ، ومغازلة السلطة ، ومبدأ الربح والخسارة . وهو مسرح غير مقاوم للسطلة ، ولكنه مسرح غير مهادن لها . فرض حضوره واحترامه على الإعلام المسموع والمرئي معاً . وفي الستينات عاش العالم عصراً ذهبياً ، كما عاش مسرح الرحابنة عصراً فكرياً وإشراقياً . وأعطى شهرة عالمية للجبلين " جبـل الشـيخ وجبـل لبنان" وللعاصمتين " بيروت والشام " . وشكل مسرح الرحابنة عالماً مستقلاً في الغناء الاستعراضي بأفراحه وانتصاراته وهزائمه . وتحرر مسرح الرحابنة من قواعد الملل والتكرار والنواح والتأوهات والمطولات الغنائية والموسيقية . وفيروز أصبحت إمبراطورية المسرح الاستعراضي الغنائي العربي من خلال صوتها الجذّاب، وفرادته المتميزة . وحول زياد والدته من نجمة في السماء إلى نجمة أجمل على الأرض . توقف مســرح الرحابنة على فردية فيروز. وكانت البداية والنهاية . وبقيت ظاهرة فريدة ، ومستحيلة التكرار. وفيروز تغني في الصالات والســــاحات والهواء الطلق ، لأنها تحترم ذاتها ، وجمهورها ، وفنهّا ولبنانها . وموسيقا الرحابنة مستوحاة من ألحان كنائسية شرقية ، وتراتيل تراثية سريانية وآرامية ، ومن ثم حولوها إلى ألحان إحيائية . لقد اطّلع الرحـابنة على السمفونيات العالمية بعامّه وباخ بخاصّة . وترجموا الألحان الغربية ، وقاموا بتوزيعها وتلحينها على آلات شرقية جديدة . وهذا التركيب الجديد جعل من أسرة الرحابنة مدرسة عبادية /طقسية/ مستقلة/ متفردة في موجوديتها وجوهرها وتعابيرها . وقدمت فيروز تصويراً رائعـاً لجماليات صوتها بأرقى وأجمل صوره . وجعـل صوت فيروز برنينه الجذاب والآثر ، السـامع يتماهى به إلى درجة العبادة ، ويماثل تماهي المتصوف بعبادة ربه . وشكل صوت فيروز واللحن وكلمات الأغنية ثلاثية متكاملة ومنسجمة . ولاقى الثلاثي قبـولاً من جميع الشـرائح الفئوية والطبقات الاجتماعية . وكان سـباقاً ومجدداً في التلحين ، والتوزيع ، والأفكار، والكلمات ، وقصر الأغنية ، والتكثيف الموسيقى . واستخدم الرحابنة آلات موسيقية جديدة . وخرجوا من القالب التكراري إلى قالب تجديدي وحيوي . والفريق الثلاثي الرحباني هو فريق عمل متكامل ، وأرضى كل عشـاق فيروز . وشـكلت فيروز قطباً أسـاسياً في جمهورية وجمهرة المسرح الرحباني ، وهي مدرسة فنية مستقلة ومتجددة ومتجذرة في التربة العربية بعامّه وفي التربة السورية واللبنانية بخاصّه . وأحدثت المدرسة الفيروزية تطوراً في الفن الشـعبوي بترقيته إلى فن نخبوي ، ونبيل في موسيقاه وطموحه . وغنى الصوت الفيروزي للأرض وللذاكرة ، وللتاريخ . وغنّى لكل شيء أصيل وجميل وحقيقي ، ولم يغنّ للمستر دولار ولا للمستر مناصب . واللبناني المقيـم في مدائن الريـح والمنـافي عندمـا كان يسمع أغاني فيروز ، يتذكر لبنـان ، وأهله وأصحـابه ، وعلى التـو يقوم بحزم حقائبه الفكرية ، ويستعد للرحيل وللعودة إلى لبنان . في مملكة فيروز الطامحة والرومانسية والمثالية ، يصبح الحاكم محكومـاً والظالم يصبح مظلوماً ، إنها مملكة المأســاة ، والملهاة في لحظة واحدة ! انتقل مسرح الرحابنة من براءة وعفوية الريف اللبناني إلى التاريخ ، عبر نقد فنّي للواقع بمؤسساته الأهلية منها والرسمية ، والتحتية والفوقية . أما زياد الرحباني الساخر، والذي يتمتع بشخصية دينامية وفنية عالية المستوى ، فقد أعاد لأغاني فيروز الجديدة والقديمة حيويتها وفتوتها من خلال ألحانه الجديدة . وأعادت فيـروز اللؤلؤة الفنّية ، للإنســان العربي ، هويته الفنيّة والثقة بذاته ، وهي حورية في صورة أنسية . وتمتلك ضميراً حياً متوقداً ، وموقفاً نبيلاً من الإنسـان والوطن والتـاريخ وحروب التحريـر. وعلى إيقـاع أغنية فيروز " خبطت آدمْكن على آرض هدّارا " في حرب تشرين 1973 ، تمّ تحرير الجولان . وأفضل فن درامي مسرحي غنائي عرفه القرن الفائت ، هو فن الرحابنة الذين أنزلوا الفن من برجه العاجي الاسـتقراطي إلى الشـعبوية ، ووضعوه في خدمة الإنسان والحياة . وأبعدوه عن المغريات ، وعن مبدأ الربح والخسارة والمجاملة ، وحولوه إلى تراث عربي محترم . وأضافت فيروز إلى الأغاني التي ألّفها ولحّنها الرحـابنة ، مشــاعرها النبيلة ، وأحاسيسها الإنسانية ، وصوتها الدافئ الذي يجعلك تحب ذاتك والوطن والحياة . والرحابنة في مسرحهم الاستعراضي الغنائي نراهم يزرعون التفاؤل والراحة النفسية ، ومحبة الوطن ، والثقة باللحظة الراهنة وبالقادم في جغرافية سياسية عربية تتسع فيها الهوة بين الواقع المعمول به السوداوي والإحباطي ومشروع الرحابنة الحالم والمتفائل . ودّعت فيروز الألف الثانية قائلة : " هــذا عصر الاختراعـات والاكتشافات ، مليان بالحروب والعذابات ، ومآسي الشعوب . أتمنى في الألفية الثالثة ، السلام . خلو العالم يرتاح " . يقول منصور الرحباني 2004 عن الأخوين رحباني : (( ربتنا جدتي أنا وأخي عاصي تربية جبلية صرفة . امتزجنا بالطبيعة . كان الوالد يعزلنا عن الناس خوفاً من الأفكار الشريرة . درسنا الموسيقا الغربية ، والموسيقا الشرقية . تأثرنا بمحمد عبد الوهاب . أحببنا الشيخ درويش . انفتحنا على بيتهوفن وموزارت . كتبنا الشعر الشعبي والفصيح ، وكنت أنا وعاصي ولوعين بالشعر . حفظنا الكثير من الأغاني القديمة والأشعار العربية . شعرنا بأن جذورنا راسخة في تراثنـا ، وفي أرضنـا . وكتبنا للبناننـا . وكتبنا أشواقنا ، وإذ بنا نكتشف أن ما كتبناه يعبر عن مشاعر كل الناس . واكتشـفنا أن المحلية هي أول الطريق إلى اختراق كل أفق ، وإلى الإنسانية جميعها )) . العاشقون في الأغاني الفيروزية يرسلون النظرات / يغازلون / يحبّون / يقبلون بعضهم من بعيد ، ومن وراء الجبال ، والشبابيك ، وآثار كتابة أسماء العاشقين على ذرات الرمال . العاشق البطل الفيروزي يخشى الضوء والمقاربة . ويحب العتمة والمباعدة وهو بطل متموج في مدّه وجزره ، تقدمه وتراجعه ، ومتردد في الحضور والغياب ، للقاء الحبيب أو الحبيبة . والحب عنده سيل جارف من المشاعر والعواطف ، ومداه وحجمه البحار والسماوات . والقبلات النارية بين العاشقين ، لا تطبع على الشفاه والوجنات ، بل تطبع عبر التذكارات والتحيات والكلمات والأشعار ، وفي البعيد البعيد لا في القريب القريب ، حفاظاً على ديمومة العاشقين والحالمين . ظبيــــه خميس
#بابلو_سعيدة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجمهوريّة النسائية
-
الإنسان يصنع تاريخه
-
ليلى العثمان - مأساة الواقع والحلم
-
سيمون دي بوفوار صوت الحرية
-
بثينة شعبان التي ولّفت بين الأدب والسياسة
-
سعاد الصباح / تباشير المطر
-
/نوال السعداوي /صوت الإحتجاج
-
المرأة بين التهميش و التفعيل
-
الحرب و السلم
-
الجذر اللغوي والقصيدة الأولى
المزيد.....
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|