|
رحلة الغزال الى الدنمارك
سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 2092 - 2007 / 11 / 7 - 11:19
المحور:
الادب والفن
اولا : التقديم : هذا مجتزأ من كتاب سيصدر لي عما قريب في السويد وتحت عنوان : مدن وشعراء ، ويضم ، بالإضافة الى رحلة شاعرنا السفير يحيى بن حكم الغزال الذي رحل الى مدينة هيدابي (Hedeby) الواقعة في بلد الدانير قديما ، والدنمارك حديثا ، أربعة شعراء كلهم عرفوا الهجرة والترحال ولغايات مختلفة ، والشعراء هؤلاء هم ، حسب تسلسلهم في كتابي : مدن وشعراء المذكور ، ابن زيدون الشاعر الأندلسي ، وصاحب ولادة بنت الخليفة المستكفي الذي هاجر الى أشبلية ومدينة الزهراء التي غناها في شعره تماما مثلما غنى حبيبته ولادة ، وثم الشاعر الشيوعي المجري يوسف أتيلا الذي هاجر الى فينا وباريس بعد أن ضاقت به مدينته بوادبست الجميلة ، وبعده جاء شاعر الخمرة دون منازع أبو نؤاس الذي هجر بغداد صوب الفسطاط ( القاهرة ) في رحلة خلدها لنا بقصيدة جميلة رسم فيها الطريق ما بين بغداد والقاهرة ، ذاك الطريق الذي لم يعرف ساعتها لا اسرائيل ولا قناة السويس ، ثم من شاطبة المدينة الأندلسية يكتب لنا شاعر الأندلس وفيلسوفها ابن حزم كتابه في الحب الذي سماه : طوق الحمامة وهو بعيد عن مهبط رأسه ، قرطبة ، تلك المدينة التي توزع قلبها نهر الوادي الكبير مثلما توزع قلب بغداد دجلة الخالد ، وأخيرا حديث الرحلة هذه الذي أخذ مني ما يزيد على سنتين ، وأنا أطارد من أجله فيهما ديوانا متهالكا من العراق ، وكتابا بالعربية في الشام ، وأخر بالإنجليزية في الدنمارك ، هذا الى جانب الكثير من المصادر باللغة السويدية ، وربما وسعت لي القدرة ، وحالفني العزم على تحويل هذا المجتزأ الى كتاب مستقل بذات شبيه بكتابي : رحلة ابن فضلان . ثانيا : الرحلة : لم يكن هناك بلد بهذا الاسم وقت أن رحل الشاعر يحيى بن الحكم في سفارته الى ملك عرف ، فيما بعد ، أنه ملك الدنمارك ، تلك الدولة التي أخذت اسمها من اسم قبيلة جرمانية تدعى دانر ( Daner )هذا الاسم الذي ظهر للمرة الأولى في القرن الخامس الميلادي أي قبل ظهور ما عرف بعصر القراصنة (Vikingarna) بحوالي قرنين من الزمان ، أولئك القراصنة الذين حط الشاعر ، يحيى بن حكم الغزال ، رحاله عند ملكهم هوريك (Hårek) في مدينة تدعى هيدابي (Hedeby) وتقع في جنوب أكبر جزر الدنمارك الحالية التي كانت تسمى وقتها بـ ( Jutland ) ثم تحول الاسم الى (Jylland) فيما بعد وهي الجزيرة التي ترتبط في حدودها الجنوبية بالأراضي الألمانية ، وهذا الارتباط هو الذي يجمع الدنمارك بالقارة الأوربية ، والمدينة تلك دثرت بعيد سنة 1050م نتيجة لحريق ثان ٍ قامت به القبائل السلافية الغربية المعروفة باسم (venderna) وهذا هو الحريق الثاني الذي حدث بعد سنة من الحريق الأول الذي نشب نتيجة للمعارك التي دارت بين الدنماركين والنرويجيين . ولكن في سنة 1897م اقترح الأركلوجي سوفيس ملير (Sophus Müller) أن يبحث عن المدينة في منطقة مساحتها 24 هكتار ، محاطة بسد عال ٍ وتقع الى جانب منطقة تدعى ولدن بوري (Oldenburg) وفعلا فقد أدى التنقيب في هذه البقعة الى اكتشاف المكان الذي قامت عليه مدينة هيدابي (Hedeby) ، تلك المدينة ، الأثر ، يقع الآن الى الجنوب من مدينة تسمى اليوم بسولفك (Slesvig) باللغة السويدية وتسمى باللغة الألمانية (Schleswig) بعد أن أصبحت بقعة الأرض التي تقع عليها مدينة هيدابي (Hedeby) من توابع ألمانيا فيما بعد . الى هذه المدينة التي لم يتبق منها اليوم سوى سور من حجر مر على بنائه أكثر من ألف سنة خلت رحل شاعرنا يحيى بن حكم البكري، الجياني (1) ، الأندلسي ، المعروف بالغزال ، والذي شغل ، مثلما شغل ابن فضلان ، الكثير من مؤرخي الأدب على مدى سنوات طويلة ، سواء أكان هؤلاء المؤرخون من العرب أم من الأوربيين ، ويعود السبب في ذلك الى اختلافهم المتصل على نقاط مهمة في حياة الشاعر العملية الطويلة ، وليس في نشاطه الأدبي كشاعر . وقبل أن أتناول نقاط الخلاف هذه لا بد لي أن أقف قليلا عند حياة الشاعر للتعرف عليه ، وعلى المحيط الذي نشأ وشب فيه ، فهو من حيث المحتد ينتسب الى قبيلة بكر العربية المعروفة ، مثلما ينتسب كذلك الى مدينة جيان الأندلسية لسكن أسرته بها على ما يبدو ، وليس لأنه ولد فيها ، فالروايات المتوفرة عنه لم تقطع بمكان ولادته ، لكنها أشارت الى أنه نشأ في مدينة قرطبة ، حاضرة الأندلس ، وعاصمتها التي قطعت شأوا بعيد في الازدهار والتطور على أيام الشاعر ، وفي زمن الأمير الأموي ، عبد الرحمن الثاني ، الذي امتد حكمه من سنة 206هـ والى سنة 238هـ . يضاف الى ذلك أن بعض المصادر (2) ذكرت أن الشاعر أدرك خمسة من الأمراء الأمويين في الأندلس ، بدءً بالخليفة عبد الرحمن الداخل الذي استطاع أن يؤسس الدولة الأموية الثانية في الأندلس سنة 138هـ ، وذلك بعد فراره من بين يدي العباسيين الذين أسقطوا تلك الدولة سنة 132هـ في المشرق ، وانتهاءً بالخليفة ، محمد بن عبد الرحمن المتوفي سنة 273هـ ، مثلما ذكر ذلك الشاعر نفسه في بيت من الشعر له حملته لنا تلك المصادر ، ومن دون أن يأتي فيه على ذكر أسماء أولئك الملوك ، فيقول :
أدركت بالمصر ملوكا أربعهْ ....... وخامسا هذا الذي نحن معهْ
وقد أشارت بعض الروايات ، وبشكل لا لبس فيه ، الى أن الشاعر ، الغزال ، ولد سنة 156هـ ، وتوفي في حدود سنة 250هـ (3) ، وبهذا يكون هو قد عاش أربعا وتسعين سنة رغم أن الشاعر ، مع ذلك ، قد جعل من عمره تسعا وتسعين سنة في قوله : وما لي لا أبلى لتسعين حجة ....... وسبع أتت من بعدها سنتان . ولكن هذا البيت وصل لنا على رواية أخرى يصير معها عمر الشاعر تسعا وسبعين سنة : وما لي لا أبلى لسبعين حجة ....... وسبع أتت من بعدها سنتان .
وعلى هذا فإن رواية ( السبعين سنة ) ، التي جعلت عمر الشاعر تسعا وسبعين سنة ، تتطابق مع كلمة الإدراك التي تعني اللحوق في القاموس ، والتي جاءت في بيت الشاعر :( أدركت بالمصر.... ) المار الذكر ، وتتطابق مع ما نقله ابن دحية عن مؤرخ عاصر الشاعر ، هو تمام بن علقمة في قوله: ( ومشى الى بلاد المجوس، وهو قد شارف الخمسين ، وقد خطه الشيب.)(4) هذا في الوقت الذي تكاد تجمع أغلب الروايات من أن الشاعر ، الغزال ، قد رحل في سفارة من قبل الأمير عبد الرحمن الثاني الى ملك الدنمارك (5)المدعو هوريك Hårek سنة 230هـ،مثلما تجمع على أن وفاته كانت في سنة 250هـ وعلى هذا ستكون سنة ولادة الشاعر بعد أن نطرح التسع والسبعين سنة من تاريخ سنة وفاته هي 171هـ ، بدلا من سنة 156هـ ، والنتيجة هذه لا تتناقض مع قول الشاعر :
أدركت بالمصر ملوكا أربعهْ ....... وخامسا هذا الذي نحن معهْ
وذلك لأن الأمير عبد الرحمن الداخل قد توفى سنة 172هـ ، أي قبل ولادة الشاعر بسنة ويزيد ،ويبدو أن قصر فترة معاصرته للأمير المذكور هي التي حدت بالشاعر الى استخدام الفعل ( أدرك ) بمعنى لحق في بيته المار ، بدلا من كلمة أخرى كـ (عاصر) ، أو (عايش) مثلما ذكرت ذلك من قبل ، كما أننا سنحصل على نتيجة أخرى ، وفقا لتاريخ الولادة في سنة 171هـ ، وهي أن عمر الشاعر كان ، حين رحل في سفارته الى الدنمارك ، تسعا وخمسين سنة وذلك لأنه رحل الى تلك الدولة سنة 230هـ بإجماع الكثير من المصادر ، مثلما أسلفت ، وهذا يتطابق مع استخدام تمام بن علقمة لكلمة ( شارف ) أي زاد على الخمسين سنة ، مثلما نقل ابن دحية عنه ، وأشرت إليه أنا قبل قليل. والنتيجتان هاتان تجعلان عمر الشاعر في حدود الثمانين سنة ، وطول العمر هذا يؤيده قول جامع ديوان الشاعر وشارحه في عدم ملاحظته لأي نشاط مسجل للشاعر زمن الأمير عبد الرحمن الداخل ، ولا زمن ابنه الأمير هشام ولكن هذا النشاط عرف عن الشاعر إبان ولاية الأمير ، الحكم بن هشام ، الذي حكم بلاد الأندلس ما بين 180هـ - 206هـ .(6) وإذا ما أخذنا برواية البيت التي تجعل من عمر الشاعر الغزال تسعا وتسعين سنة :
وما لي لا أبلى لسبعين حجة ....... وسبع أتت من بعدها سنتان .
لوجدنا أنها تتناقض مع الرواية التي حددت عمره بأربع وتسعين سنة ، أي أنه ولد وعاش ما بين 156هـ - 250هـ ، كما أنها تتناقض مع رواية ابن دحية التي تقول : ( فإنه - عفا الله عنا وعنه - عمر حتى قارب مئة عام ، وقيل : قد أربى عليها )(7) ، تلك الرواية التي تجعل من سنة ولادة الشاعر هي سنة 150هـ ، وذلك لأن سنة وفاة الشاعر المتفق عليها هي 250هـ . وفوق هذا وذلك فإن رواية الأربع والتسعين أو التسع والتسعين أو المئة تجعل من عمر الشاعر الغزال ، حين رحل الى الدنمارك في سفارته تلك ، 74سنة ، 79 سنة ، 80 سنة على التوالي ، وذلك لأن تاريخ الرحيل ذاك ، قد حدث ،مثلما تجمع عليه أكثر الروايات ، في سنة 230هـ* أي قبل موته بعشرين سنة ، وعلى أساس ما تقدم فإن هناك قدرا كبيرا من الشكوك يحيط بالروايات الثلاثة تلك ، وتدفع المرء الى عدم الوثوق بها ،لأنها تجعل من رجل شيخ تقدم به العمر سفيرا يكابد أخطار الترحال ، وهول البحار، وفي الوقت نفسه تتعشقه النساء ، ويقول هو فيهن أحلى قصائد الغزل ، مثل تلك القصيدة التي قالها في ملكة الدنمارك ، تود ، والتي منها البيت التالي :
إني تعلقت مجوسية..... تأبى لشمس الحسن أن تغربا
ويبدو لي أن عدم القطع بعدد سنوات عمر الشاعر وقت أن رحل هو الى الدنمارك كان من بين الأسباب التي جعلت بعض الباحثين الأوربيين يشككون بأمر السفارة هذه ، وينكرونها جملة وتفصيلا ، وهذا ما سأأتي عليه في القادمة من الصفحات . ومن نقاط الخلاف الأخرى التي وقف عليها بعض الباحثين من العرب والأوربيين في حياة شاعرنا ، يحيى بن حكم الغزال ، هو العدد الفعلي للرحلات التي قام بها الشاعر الى خارج بلاد الأندلس بتكليف من البلاط الأميري في مدينة قرطبة وخاصة على زمن الأمير الأموي عبد الرحمن الثاني ( الأوسط ) ، أو بغير تكليف من ذاك البلاط ، فقد جاء في أخبار الشاعر أن أول رحلة له كانت الى المشرق العربي ، والى العاصمة بغداد على وجه التحديد ، وقد ذكر أن أسباب هذا الرحيل هو هجوه لأبي الحسن ، علي بن نافع ، الملقب بـ ( زرياب ) ، وذلك بعد وصول زرياب الى قرطبة من بغداد في الأيام الأولى من حكم الأمير عبد الرحمن الثاني الذي حكم الأندلس بعد وفاة أبيه ، الحكم ، سنة 206 للهجرة ، حيث احتفى به الأمير احتفاءً كبيرا ، وأسكنه في دار أحد رجال دولته ، وهو نصر الخصي الذي قتله من قبل بعد أن تآمر عليه . ورغم أن هجاء الغزال في زرياب لم يصلنا ، إلا أنه وصلت لنا قطعة شعرية كان الغزال يشمت فيها من ميتة نصر الخصي هذا ، ويصف انقلاب الدهر عليه فيها ، بعد أن صار قصره بحدائقه الغناء من نصيب زرياب ، فيقول :
ذكر الناس دار نصر لزريا ( م ) ب ، وأهلٌ لنيلها زريابُ هكذا قدر الإله وقد تجـــــــ (م ) ري بما لا تظنه الأسبابُ
وعلى إثر هذا الهجاء أمر الأمير بنفي الشاعر عن الأندلس ، ولكنه تراجع عن قراره هذا بعد أن توسط للشاعر عنده أكابر دولته ، فعفا عنه ، ومع ذلك لم يطب للغزال المقام في قرطبة ، فرحل الى العراق ، وقد حُدد تاريخ الرحيل هذا بعد موت الشاعر أبي نواس ، الحسن بن هاني ، بمدة يسيرة ، مثلما هو عند ابن دحية .(8) وإذا ما علمنا أن سنة وفاة أبي نواس كانت هي 195هـ على رواية ، أو سنة 198هـ على رواية أخرى من الروايات عرفنا أن ( المدة اليسيرة ) تلك تقع ما بين أحدى عشرة سنة على الرواية الأولى ، أو ثماني سنوات على الرواية الثانية ، وذلك لأن رحيل الشاعر ، الغزال ، حدث سنة 206هـ ، وهي السنة التي تولى فيها الأمير عبد الرحمن الثاني الحكم ، وهي ذاتها التي حل فيها المغني الشهير ، زرياب ، مدينة قرطبة ، وصار واحدا من حاشية الأمير المذكور ، وبعبارة أخرى هو أن عمر الشاعر كان خمسا وثلاثين سنة وقت رحليه هذا ، وذلك بحساب أن سنة ولادته كانت في سنة 171هـ ، مثلما ذكرت أنا ذلك من قبل. والذي يعزز هذه النتيجة هو أن الشاعر يحيى بن حكم الغزال كان قد سمع ، وهو في الأندلس قصيدة المدح التي قالها الشاعر أبو نواس في الخصيب ، أمير مصر ، والتي استهلها أبو نؤاس بوصف رحلته من بغداد الى القاهرة (الفسطاط) بعد أن كان قد وجه حديثه في الأبيات الأولى منها الى امرأة نجهل هويتها نحن ، فيقول :
أجارة بيتينا أبوك غيورُ ........ وميسور ما يُرجى لديك عسيرُ ومنها : تقول التي عن بيتها خف مركبي...عزيز علينا أن نراك تسيرُ أما دون مصر للغنى متطلـــــب... بلى إن أسباب الغنى لكثيرُ (9)
ورغم أننا لا نملك تاريخا محددا لرحلة أبي نواس تلك ، إلا أنها وقعت بتاريخ قريب الى وقوع نكبة البرامكة في الأول من شهر صفر سنة 187هـ = 29 يناير 803 م ، ولهذا نجد أن الغزال قد عارض قصيدة أبي نواس الشهيرة تلك بقصيدة على نفس الوزن والقافية والروي ، موجها خطابه في أبياتها الى امرأة هي زوجته التي كانت تلومه على ترحاله ، فيقول :
جعلتُ أراجيها إيابي ومن غــــــدا......على مثل حالي لا يكاد يحـورُ وإن مقامي شطر يوم بمنـــــــــزل ٍ.....أخاف على نفسي به لكثيـــــرُ وقد يهرب الإنسان من خيفة الردى ....فيدركه ما خاف حيث يسيــــرُ وإن كنت تبغين الوداع فبالغـــــــي.....فدونك أحوال - أرى - وشهورُ(10)
ويقول عنه ابن دحيه في مطربه: ( وأقام الغزال في رحلته تلك مدة يجول في ديار المشرق، وما انفك في كل قطر منه من غريبة يطلعها، وطريقة يبتدعها ثم أنه حن الى مسقط رأسه ، وانصرف الى الأندلس ، وهو قد ترك شرب الخمر ، وتزهد في الشعر ، وشارف الستين ، وركب النهج المبين ... )(11) ويروي ابن دحية كذلك عن لهج العراقيين بذكر أبي نواس بعد موته في الوقت الذي نزل عندهم يحيى بن حكم الغزال ، فيكتب ( فوجدهم يلهجون بذكره ، ولا يساوون شعر أحد بشعره ، فجلس يوما مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس ، واستهجنوا أشعارهم ، فتركهم حتى وقعوا في ذكر الحسن(12) ، فقال لهم من يحفظ منكم قوله :
ولما رأيت الشرب أكدت سماؤهم ...... تأبطت زقي واحتسبت عنائي فلما أتيتُ الحان ناديتُ ربــــــــــه....... فهب خفيف الروح نحو ندائي فقلت أذقنيها فلما أذاقنـــــــــــــــي...... طرحتُ له ريطتي وردائي(13) بعد ذلك يكتب ابن دحية أغلب أبيات القصيدة تلك ، ويضيف : ( فأعجبوا بالشعر ، وذهبوا في مدحه كل مذهب ، فلما أفرطوا قال لهم : خفضوا عليكم فإنه لي . فأنكروا ذلك . فأنشدهم قصيده الذي أوله :
تداركت في شرب النبيذ خطائي ...... وفارقت فيه شيمتي وحيائي )(14)
والحقيقة أن قصيدة الغزال هذه التي امتحن بها العراقيين قد نهجت نهج قصيدة لأبي نواس مَدحَ بها الخليفة هارون الرشيد،ولكنه بدأها بمقدمة خمرية مسفها في بدايتها على عادته الوقوف على الأطلال فيقول :
لقد طال في رسم الديار بكائــي .....وقد طال تردادي بها وعنائــــي فلما بدا لي اليأس عديت ناقتــي......عن الدار واستولى علي عزائي الى بيت حان لا تهر كلابـــــــه......علي ولا ينكرن طول ثوائـــــي فإن تكن الصهباء أودت بتالــدي ......فلم توقني أكرومتي وحيائـــي فما رمته حتى أتى دون ما حوت......يميني حتى ريطتي وحذائي(51)
وعلى هذا يبدو أن شاعرنا الغزال كان قد قرأ جل شعر أبي نواس ، وهو في ريعان الشباب ، وقبل أن يمتنع عن معاقرة الخمرة التي باع في شربها عباءته (ريطتي) ورداءه ، تماما مثلما باع قبله الحسن بن هاني في شرب الخمرة عباءته وحذاءه ، ولو كان ابن دحية قد اطلع على ديوان أبي نواس كله لما جعل الشاعر الغزال يفاخر بقصيدته هذه في بغداد ، ولا حتى في مصر ، مثلما نصت روايات أخرى على ذلك ، ولوجد أن الغزال كان يحاول من خلالها مجارة أبي نواس فيما يكتبه ، وهذا ما تفصح عنه قصيدتا الغزال التي نقلت أنا بعضا من أبياتهما هنا . وسواءً كان الغزال هو نفسه من فاخر بقصيدته تلك في العراق ، أو فاخر بها شخص آخر غيره مثل سعيد بن أحمد بن خالد في مصر (16) فإن هذا يدل على أن يحيى بن حكم الغزال كان قد رحل الى المشرق في سياحية ، ومن دون أن يكلفه أحد القيام برحلته هذه التي زار فيها أكثر من قطر عربي مشرقي ، والتي هي واحدة من ثلاث رحلات قام بها هو ، وكانت محل خلاف بين الباحثين العرب والأوربيين ،مثلما أسلفت ، خاصة رحلته الى القسطنطينية ، ورحلته الى شمال الأرض حيث ديار القراصنة في الدول الإسكندنافية ، والتي سيأتي عنهما الحديث لاحقا . ومثلما رحل يحيى بن حكم الغزال الى بغداد ، وأقطار المشرق الأخرى ، فقد رحل الى عاصمة الدولة البيزنطينية ، القسطنطينية ، كذلك ، ولكن رحيله هذا كان بدافع سياسي محض ، تمثل بشغله لمنصب سفير في تلك الدولة هذه المرة ، وقد حدثت هذه السفارة سنة 225هـ=840م ، وبعيد معركة عمورية التي وقعت سنة 223هـ ، بسنتين ، وكانت بيزنطة بعد هزيمتها في تلك المعركة أمام الجيش العربي بقيادة الخليفة المعتصم (17) قد أرادت التقرب من الدولة الأموية في الأندلس على عهد أميرها ، عبد الرحمن الثاني ، وذلك نتيجة للضغوط القوية التي كانت تمارس بحقها من قبل بغداد ، عاصمة الخلافة زمن الدولة العباسية لقد حل شاعرنا يحيى بن حكم الغزال برحلته تلك سفيرا لبلاده في بلاط القيصر، تَوْفِلِس (Theophilus) تلك الرحلة التي وصلنا من أخبارها خبر ليلة الأنس التي أمضاها هو مع القصير وزوجته التي حملت له معها زقا من الخمر ، طالبة منه أن يشربه مع ابنها الوسيم ، ولكن الشاعر رفض عرض الملكة هذا بقوله : إن ذلك لا يجوز له في دينه ، مع أنه ندم على ذلك فيما بعد ، وقد سطر الشاعر حديث هذه الليلة في قصيدة منها الأبيات التالية :
وأغيد لين الأعطاف رخص.....كحيل العين ذي عنق طويل ِ ترى ماء الشباب بوجنتيـه...... يلوح كرونق السيف الصقيل ِ أتى يوما إليّ بزق خمـــــر......شمول الريح كالمسك الفتيل ِ ليشربها معي ويبيت عندي......فيثبت بيننا ود الخليـــــــــل ِ وجاءت أمه معه فكانـــــــا...... كأم الخشف والرشأ الكحيـل ِ توصيني به وتقول أخشـى......عليه البرد في الليل الطويــل ِ فقلت حماقة مني ونوكـــا....... فديتك لستً من أهل الشمول ِ(18) فأية غرة سبحان ربـــــي....... لو اني كنت من أهل العقـول ِ ؟!
لقد اختلط أمر هذه الرحلة برحلة سفارة أخرى للشاعر كانت الى بلاد الدنمارك ، إذ ذكر جامع ديوان الشاعر ، وهو يتحدث عن شأن هذه الرحلة ، ناقلا عن ابن دحية ، قوله : ( وقد ذكر تمام بن علقمة فيما رواه عن الغزال ما يدل على أنه كان يتصرف مع الملكة بما تقتضيه الكياسة الدبلوماسية ، كما أنه نظم الشعر الذي كان يترجم لها ويسرها سرورا عظيما ) (19) والحقيقة أن ابن دحية قد كتب في مطربه نقلا عن تمام بن علقمة ما كان يتعلق برحلة الشاعر الى بلاد الدنمارك ، ولم يتعرض أبدا الى سفارة الشاعر الى الإمبراطورية البيزنطينية ، وكان حديثه منصبا على العلاقة التي نشأت بين الغزال ، وبين ملكة الدنمارك . وما نقلته أنا من كلام عن جامع الديوان قبل قليل لا يخص علاقة الشاعر الغزال بملكة بيزنطة ، وإنما يخص علاقته بملكة الدنمارك ، تلك العلاقة التي كان حديث ابن دحية يدور حولها ، وفي سفارة أخرى للشاعر .(20) وهناك من يرى أن يحيى بن حكم الغزال لم يقم في حياته كلها إلا برحلة واحدة ، هي رحلته الى بلاد بيزنطة ، تلك الرحلة التي يجري عنها هذا الحديث ، ويرفض هذا البعض ، ومن دون دليل مقنع ، حدوث رحلتي الشاعر الأخريين ، خاصة رحلته الى بلاد الدنمارك ، تلك الرحلة التي اهتم بأمرها الكثير من الباحثين العرب والأوربيون على حد سواء ، ومن هؤلاء الرافضين المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال (Lévi-Provençal ) ، الذي رأى أن الغزال ما قام إلا برحلة واحدة هي تلك الرحلة التي أخذته الى القسطنطينية (استنبول) الحالية كسفير للدولة الأموية في الأندلس مثلما أسلفت من قبل ، وقد استند بروفيسال في رفضه لحدوث رحلة الغزال الى بلاد الدنمارك على مخطوطة عربية عثر عليها هو - كما يقول - في تونس ، ولكنه لم يذكر اسمها ، ولم يتعرف عليها أحد غيره من الباحثين ، وهذا ما جعل الباحث السويدي ستيك ويكاندر (Stig Wikander) ، رغم أنه قد تابع ليفي بروفنسان في إنكاره ذاك ، يقول : ( لقد دعم المؤرخ الفرنسي ليفي بروفيسال الزعم ذاك بسرد أكثر تفصيلا عن تلك السفارة البزنطينية ، والذي وجده في مخطوط عربي بتونس .. والآن فإن المخطوطة التي اقتبس منها ليفي بروفنسال لم يعثر عليها ثانية* ، ولا توجد منها نسخة أخرى ، ولا حتى ترجمة لها فيما خلفه من أوراق وراءه . ) (21) ولكن استيك ويكاندر يعود ثانية ليؤكد على أن معلومات كثيرة في حكاية العلقمي عن الشاعر الغزال ، والتي نقلها ابن دحية في كتابه : المطرب من أشعار أهل المغرب ، هي معلومات حقيقة مثل تلك المعلومة التي ترى أن العديد من سكان دول الشمال الإسكندنافية كانوا مسيحيين ، لكن لا زالت الوثنية تعيش في الجزر المحيطة بهم ، وهذا يتطابق جدا مع ما هو معروف عن الوضع في الدنمارك والنروج في حوالي سنة 845م=230هـ (22) ، وهي السنة التي رحل فيها الشاعر يحيى بن حكم الغزال الى الدنمارك في سفارة الى ملك القراصنة من قبل الأمير عبد الرحمن الثاني ، وبناء على طلب الملك ذاك ، وغب الهجوم الفاشل الذي شنه اسطول تابع للقراصنة على بعض المدن الأندلسية ، وخاصة مدينة اشبيلية ، وكان هذا الهجوم قد وقع قبل سنة من تاريخ رحلة السفارة تلك. والشائع بين المؤرخين العرب وبين بعض المستشرقين هو أن الغزال قام بسفارتين : واحدة الى القسطنطينية ، والثانية الى جُيلاند (Jylland) التي هي أكبر الجزر التي تتكون منها دولة الدنمارك الحالية ، هذا رغم انكار بروفنسيال الفرنسي للثانية والذي قام على وجود مخطوط في تونس لم يتعرف عليها أحد سواه ، ورغم ذلك فقد تابع الباحث السويدي ستيك ويكاندر انكاره ذاك متابعة قامت هذه المرة على تهكم واضح يصل حد السخرية من الشاعر أحيانا ، وهو في كل ذلك لم يستند على دليل مادي مقنع ، وإنما اعتمد على تكهنان وافتراضات فارغة المضمون يمكن لأي إنسان أن يتكهنها ويفترضها ، ولهذا السبب حرصت أنا على ترجمة كل ما كتبه ستيك ويكاندر عن سفارة الشاعر الغزال الى الدنمارك من اللغة السويدية ، والى اللغة العربية ، لكي يطلع القاريء العربي على ذلك ، وقد قمت في الوقت نفسه بالتعليق على تلك التكهنات والافتراضات في ذيل ترجمتي تلك ، والذي قد يشفع لستيك ويكاندر في إنكاره ذاك هو أنه لم يدرس موضوع سفارة الغزال دراسة معمقة وافية كتلك الدراسة المتمكنة التي كتبها الدكتور عبد الرحمن علي الحجي باللغة الإنجليزية عن الموضوع نفسه برسالته المعنونة بـ : ( Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe) التي حاز بها درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج ، وهو من بين أولئك الذين قالوا بصحة قيام الشاعر يحيى بن حكم الغزال بسفارته الى الدنمارك حیث ملك القراصنة هوريك ((Horic أو (Hårek) مثلما يكتب باللغة السويدية ، تلك السفارة التي كتب عنها من بين ما كتب هو ، وتحت عنوان : التاريخ والمكان، ما يلي : (انتهى هجوم القراصنة الأول ، وقد تواروا عن ساحل الأندلس حوالي منتصف ربيع الأول سنة 230هـ / نوفمبر- ديسمبر سنة 844م ، وعندما وصلوا الى وطنهم أخبروا ملكهم " ومستشاريهم " سير الوقيعة ، ولذا صمم هو بعد ذلك على قيام علاقات حميمة ووطيدة مع الأندلس ، وكل هذا قد استغرق بعض شهور ، معتبرين أن السفرات الطوال للقراصنة تكون مع بداية فصل الربيع ، وعليه تكون سفارة القراصنة قد حطت في قرطبة خلال ذاك الفصل وفي شهر شعبان سنة 230هـ/ مارس 845م ، بينما غادرت السفارة الأندلسية بحرا في صحبة مبعوثي القراصنة في حوالي رمضان سنة 230هـ/ أبريل سنة845م. لقد ذكر ابن دحية أن السفارة الأندلسية ، ومنذ اللحظة التي تركت بها الأندلس وحتى عودتها الى قرطبة استغرق عشرين شهرا ، وفي طريق العودة تأخرت شهرين في Santiago de Compostela ، وعليه تكون قد أمضت حوالي سنة واحدة مع القراصنة ، واستطاعت الوصول الى قرطبة في حوالي صفر 232هـ/سبتمبر 846م.)(23) لقد فصلت بين رحلة الشاعر حكم بن يحيى الغزال القادم من قرطبة الى ملك القراصنة في الدنمارك عن رحلة أحمد بن فضلان القادم من بغداد في سفارة الى ملك البلغار القاطن في أعالي نهر أتل (الفولكا) مدة زمنية هي سبع وسبعون سنة ، فقد رحل الغزال سنة 845 م بينما رحل بعده ابن فضلان سنة 922 م ، وكان ابن فضلان قد التقى على شواطيء ذلك النهر بملك من ملوك القراصنة مع حشد كبير من حاشيته ، وأتباعه ، كانوا قد قدموا من أجل التجارة بيعا وشراءً ، وليس من أجل الغزو والنهب ، وقد عرفت الطريق التي كانت تقود هؤلاء القراصنة الى بلاد المشرق في اللغة السويدية بطريق: ( Österled ) ، بينما عرفت الطريق التي تقود القراصنة الى بلاد المغرب بطرق : (Västerled) ، وقد كان هدف قراصنة هذه الطريق هو مهاجمة البلدان الغنية ، والاستحواذ على كل ما تقع عليه أيديهم ، وربما بسطوا سيطرتهم على بعض الجزر أو البلدان التي لا تقوى على صد هجماتهم ، ومن ثم استقروا بها . وإذا كان ابن فضلان قد سمى لنا قراصنة المشرق بـ ( الروسية ) (24) ، وهي التسمية التي كانت تطلق عليهم وقت أن التقاهم ، فإن الرحالة العرب ، ومنهم الشاعر الغزال ، قد أطلقوا تسمية ( المجوس ) على قراصنة المغرب ، ولقد استخدم الشاعر هذا اللفظ في قصيدته التي تغزل بها بملكة الدنمارك بعد أن تعلق بها ، مثلما مر علينا ذلك من قبل ، فقال :
كُلفت يا قلبي هوىً مُتعبــا......غالبت منه الضيغم الأغلبـــا إني تكلفت مجوسيـــــــــة......تأبى لشمس الحسن أن تغربا أقصى بلاد الله لي حيث لا......يلقى إليها ذاهب مذهبــــــــا يا نود*يا رُود الشباب التي.....تُطلِع من أزرارها الكوكبـــا يا بأبي الشخص الذي لا أرى..أحلى على قلبي ولا أعذبـــا قالت أرى فوديه قد نــورا...... دعابة توجب أن أدعبـــــــا قلت لها يا بأبي إنــــــــــه.......قد يُنتجُ المهر كذا أشهبــــــا فاستضحكت عُجْبا بقولي لها....وإنما قلت لكي تَعجبـــــــــا
وإذا كان قراصنة المشرق ( الروسية ) ينطلقون من قاعدتين مهمتين في رحلاتهم التجارية الى بلدان الشرق ، هما مدينتا : فسبي ( Visby ) وبیرکا ( Birka ) ، العائدتان اليوم للدولة السويدية ، فأننا نجد أن قراصنة المغرب ( المجوس ) ينطلقون بأساطيلهم الحربية من مدينة هيدابي ( Hedeby ) الدنماركية لتدمير ونهب المدن الواقعة الى الغرب والجنوب منها، وقد نقل لنا مصدر تاريخي سويدي هو (Den svenska historien) خبرا عن هذا التدمير والنهب فكتب ما نصه ( كانت الممالك العربية في اسبانيا والبرتغال تغري القراصنة،ولهذا نهبوا من بين ما نهبوا: لشبونة،وقادس، واشبيلية) (1) لقد قامت مدينة هيدابي ( Hedeby ) على نتوء مرتفع يمتد في مياه بحر البلطيق من جزيرة جيلاد (Jylland) ، وهي والمناطق المحيطة بها عبارة عن أرض مستوية لا غابات فيها ، ولهذا المعنى يشير اسمها ، ذلك الاسم الذي عُرفت به للمرة الأولى سنة 804 م ، وقد أصبحت محطة مهمة تتقاطع فيها الطرق التجارية البحرية والبرية على حد سواء ، فهي تربط بين بحر البلطيق ، حيث تقع على خليج صغير من خلجانه يصب فيه نهر صغير ويسمى بخليج ( Slien ) وبين المحيط الأطلسي ، حیث میناء آخر هو مدينة هولينقستيد (Hollingsted ) التي تردها البضاعة من الدول المطلة على بحر الشمال . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فالمدينة تربط كذلك بين بر أوربا وبر دول الشمال ( الإسكندنافية ) وقد كانت كانت هي معروفة بشكل جيد لأهل جزيرة جيلاند (Jylland ) مثلما هي معروف كذلك في العالم العربي (26) على حد تعبير الرحالة العربي ، إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي، الذي زارها وهو في سفارة من قبل الخليفة عبد الرحمن الثالث في قرطبة الى أوتو (Otto) امبراطور الدولة الرومانية المقدسة في المانية وذلك سنة 354هـ-965م . لقد حظيت مدينة هيدابي (Hedeby ) بحماية الملك الدنماركي كودفريد (Godfred) الذي حكم ما بين 804- 810م وهو من قام بإعادة بناء حصن بلغ أعلى ارتفاع له 10 مترات وأحاط به تلك المدينة التي بلغت مساحتها 24 هكتارا ، وقد امتد سد أخر وبطول 18 كيلومتر ليصل الى مدينة هولينقستيد (Hollingsted ) الواقعة على المحيط الأطلسي كما أسلفت . ويبدو أن الهدف من بناء هذه السدود والحصون التي ابتدأ بناؤها منذ مطلع القرن الثامن الميلادي هو حماية الحدود الجنوبية لجزيرة (Jylland ) التي كانت تمثل الدنمارك الحالية وكذلك لحماية بلاد النروج من هجمات الجيوش الفرنسية خاصة في زمن الملك الفرنسي كارل الكبير . يلاحظ الدارس أنه في تاريخ قراصنة الدنمارك ، وتحديدا في الفترة التي أعقبت وفاة الملك (Godfred) سنة 814م ، غموضا كبيرا ، واختلافا في أخبار من حكم بعده من الملوك ، ولكن هناك بعض المصادر (27) تشير الى أن أولاده ستطاعوا إزاحة الملك (Harald Klak) عن الحكم سنة 827م ، وقد خلفه في الحكم واحد من أبناء الملك قودفريد (Godfred) يدعى هوريك الأكبر ( Hårek den gamle) الذي امتد حكمه من سنة 827م وحتى سنة 854م ، وقد شهد السنوات الأخيرة من حكمه حدثين بارزين هما : الهجوم الكبير الذي شنه قراصنة الدنمارك على أكثر من مدينة أندلسية زمن الأمير عبد الرحمن الثاني (الأوسط) ثم الصلح الذي سعى له ملك القراصنة مع العرب في الأندلس بعد فشل هجومهم ذاك فشلا ذريعا وذلك بإحراق أغلب سفنهم بنيران المناجيق العربية ذاك السلاح الذي كانت أساطيل القراصنة تجهله على ما يبدو . لقد استجاب الأمير عبد الرحمن الثاني لطلب ملك القراصنة في الصلح ، وقام بإرسال سفيره الى القسطنطينة من قبل ، الشاعر يحيى بن حكم الغزال ، هذه المرة الى الدنمارك التي رحل لها برفقة وفد ملك القراصنة ولكن بمركب خاص به وبأعضاء الوفد المرافق له ، وبعد إعداد ذلك المركب بشكل حسن أبحر من مدينة شِلْب ( Silves ) الواقعة على الساحل الغربي من الأندلس ، وكان ذلك في سنة 230هـ =845م . ويبدو أن زمن هذه السفارة ، والمكان الذي انطلقت منه هذه الرحلة ، والهجوم الذي شنه القراصنة سنة 229هـ = 844 م على العديد من المدن الأندلسية هو بعض من أسباب مقنعة دفعت ببعض الباحثين الى القول من أن السفارة هذه كانت في طريقها الى الدنمارك وبالتحديد الى جزيرة جيلاند (Jylland ) التي تعتبر من أكبر الجزر التي تقوم عليها الدولة الدنماركية الحالية ، والى ملكها هوريك الأكبر ( Hårek den gamle ) (28) الذي كان هو الحاكم الفعلي لتلك لبلاد وقتها . وعلى هذا تكون الملكة ، التي شغف بها الشاعر السفير يحيى بن حكم الغزال ، والتي قال فيها قصيدته الغزلية التي مرت علينا من قبل ، هي زوجة الملك هذا أو إحدى زوجاته (29) والتي حملت هي اسم (نود) في تلك القصيدة بينما ذكرت مصادر أخرى أن اسمها هو ( تود ) وذلك لتصحيف وقع في الاسم من قبل نساخ تلك القصيدة فيما بعد ، ورغم أنني أمضيت أكثر من سنة في البحث عن حقيقة ذلك الاسم لكنني لم أجد ضالتي وحين وقعت عيني على عبارة في أحد المصادر الإنجليزية تقول : )the name of Horik s wife is not known from the northern sources30)() هذه العبارة التي ترى أن اسم زوجة الملك هوريك (Hårek) غير معروف في المصادر الشمالية (الإسكندنافية) لم تمنعني من مواصلة البحث رغم وجاهتها ، ورغم أن تاريخ ملوك الدنمارك يحيطه خلاف وغموض كبيران ، ولكنني عثرت في نهاية الأمر على لقب هو : أفضل الدان ( Danebod ) الذي كان يطلق على الأبطال من الرجال وكذلك البطلات من النساء في زمن القراصنة ، ومن أشهر ملكات هذه الحقبة في الدنمارك ممن حملن هذا اللقب هي الملكة تيرا (Tyra)**زوجة الملك قورم (Gorm) الذي ولد سنة 875م وحكم ما بين سنة 910-958 ، بينما ولدت الملكة تيرا (Tyra) سنة 871 م وماتت سنة 935 م ، وكان سبب حملها للقب الشرفي هذا هو أنها أمرت بتجديد السور الذي كان يحمي الحدود الجنوبية للملكة والذي بني هذه المرة بالصخر الرمادي حتى أنه عرف باسم سور تيرا ذي الصخر الرمادي اللون ( Tyras gråstensmur ) ، وصار يدعى : صنيع الدان ( Danevirke ) وقد شاد بهذا البناء الفريد الرحال العربي إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي حين نزل مدينة هيدابي (Hedeby) بعد ما يزيد عن مئة سنة على رحيل الغزال إليها ، وكان ذلك سنة965 م على المصادر العربية وسنة 950 م على بعض المصادر الاوربية )(31) . وعلى ذلك يمكن القول أن ملكة الدان وزوجة الملك هوريك ( Hårik ) ربما كانت هي أيضا تحمل ذات اللقب الذي حملته الملكة تيرا ( Tyra ) فيما بعد . ومن الوارد جدا أن البيت الذي قاله الشاعر السفير الغزال والذي حمل لفظ (نود) يكون هو (بود) وأن التصحيف الذي تكلم عنه بعض من الدارسين قد وقع بين الكلمتين المارتي الذكر ، وليس بين كلمة (نود) وكلمة (تود) وهي الاسم الذي افترضوه لملكة الدنمارك التي غرق سفيرنا في غرامها ومن دون أن يقيموا دليلا على ذلك . وصار لي أن أقول بعد تلك النتيجة أن الغزال قد أختزل لقب : أفضل الدان (Danebod) واستخدم المضاف بينما ترك المضاف إليه ، وبذلك يمكن أن يكون البيت الذي حملته قصيدة الغزل تلك قد جاء ، وعلى لسان شاعرنا السفير ، على هذه الصورة :
يا (بود) يا رُود الشباب التي.......تُطلِع من أزرارها الكوكبا
فقد جرى اللسان العربي في النداء وفي أحوال كثيرة على حذف المضاف إليه والاكتفاء بالمضاف ، فنقول : يا فضل ! ونريد به فضل الله ، ونقول : يا صاح ! ونريد بها صاحبي ، والأمثلة على ذلك كثيرة . وخلاصة القول أن الباحث المنصف لا يستطيع نكران سفارة الشاعر الغزال الى الدنمارك والى مدينة هيدابي (Hedeby) منها ، تلك المدينة ، التي شكلت هي ومدينتي : بيركا (Birka) وفسبي ( Visby) السويديتين ، ثلاثة مراكز تجارية مهمة في دول الشمال (الإسكندنافية) خلال الفترة الزمنية التي عرفت بزمن القراصنة (Vikingatiden) مثلما أسلفت ، وذلك لكثرة الأدلة التي تدعم وقوع تلك السفارة ومنها على سبيل المثال لا الحصر : الهجوم الفاشل الذي شنه القراصنة على المدن الأندلسية والذي على إثره رحل الشاعر السفير ، ثم اتجاه سير الرحلة الذي تحدث عنه الشاعر في قصيدته الغزلية ، خاصة البيت الذي يقول فيه :
أقصى بلاد الله لي حيث لا......يلقى إليها ذاهب مذهبــــــــا
ويأتي بعد ذلك أخبار تلك السفارة التي نقلت عن صديق له هو تمام بن علقمة ، وما جاء فيها من وصف لجزيرة جيلاند (Jylland) الدنماركية ولحياة سكانها في العيش والعبادة والعلاقة بين المرأة والرجل ، هذا الوصف الذي نقله لنا صاحب المطرب حين كتب (... هي جزيرة عظيمة في البحر المحيط ، فيها مياه مطردة وجنات ، وبينها وبين البر ثلاثة*مجار ٍ ، وهي ثلاثمئة ميل ، وفيها من المجوس ما لا يحصى عددهم ، وتقرب من تلك الجزيرة جزائر كثيرة ، منها صغار وكبار ، وأهلها كلهم مجوس) (32) وعليه فإن الوصف الذي نقله لنا ابن دحية في مطربه لا يختلف كثيرا عن الطبيعة التي عليها الدنمارك اليوم فهي دولة تقوم على شبه جزيرة هي (Jylland) وعلى 443 جزيرة أخرى متناثرة وعدد الجزر المسكونة منها هو 77 جزيرة ، كما أنه لا يختلف كثيرا عن ذاك الذي كتبه رحالة عرب آخرون عن القراصنة وأحوالهم من أمثال ابن فضلان الذي سبق الغزال إليهم ثم الرحالة العربي إبراهيم بن يعقوب الطرطوشي الذي جاء بعده الى مدينة هيدابي (Hedeby) . وبذا يكون إنكار ستيك ويكاندر (Stig Wikander) وغيره من الدارسين الغربيين لا يقوم على دليل واحد ملموس ،وإنما هو راح يبحث في اللاشيء ليخلق منه شيئا يوهم به القارئ الغربي ولأسباب غير مفهومة المرامي .
ثالثا : الغزال Al-Gazal(32)
أبو زكريا ، يحيى بن حكم البكري الديجاني ( 864-770) كان إسبانيا حقيقيا وهذا يتضح من لقب الديجاني الذي يعني أنه ينحدر من مدينة جين ( Jaen ) التي تقع الى الشمال من غرناطة . كان في شبابه على جمال آخذ ، ولأجله عرف بـ : الغزال ، ثم أصبح شاعرا مشهورا ، وهذا مما مهد له الطريق الى أن يكلف بمهمات دبلوماسية ، فهذا مألوف في بلدان البحر المتوسط مما عندنا نحن ، فالعديد من السفراء الأتراك المشهورين في العصر الحديث كانوا كتابا معروفين . كدبلوماسي أرسل هو سنة 840 الى بيزنطة ، وفي سنة 845 الى أقصى الشمال ببعثة دبلوماسية ، تلك البعثة التي تحدث عنها بنفسه لزميل كاتب شاب هو : تمام بن علقمة في عمل له مفقود ، قد استعرض فيه من بين ما استعرض ، تاريخ الأمراء العرب في قرطبة ، ولكن حديثه عن الغزال وجد بعد زمن طويل عند كاتب عربي ـ إسباني هو ابن دحية ( 1152 ـ 1235 ) الذي كتب ، مثل ما يفعل الكثير من الكتاب العرب في العصور الوسطى ، دراسة طويلة في رحلاتهم للاماكن المقدسة في بلدان إسلامية مختلفة ، ولكنه في النهاية استقر بالقاهرة حيث كتب ، من بين ما كتب ، كتاب : المطرب من أشعار المغرب(33) (kitab al – mutrib min ashar al – Maghrib) فهو خلال رحلاته الى الشرق دَون مشاهدات حقيقية عن أن الناس في بلدان المركز الإسلامي يعرفون قليلا أو يستهينون بالأدب الذي أنجزه شعراء المغرب ، والمغرب تعني ، في كل النصوص التي نقدمها هنا ، العرب في شمال أفريقيا واسبانيا ، وذلك من أجل أن يظهر هو كم هو قيم الإنتاج الأدبي عند أدباء البلدان الأقرب له ، والذين وضعهم في مختاراته الأدبية عن الشعر العربي المغربي ، وقد كان الغزال من بين أوائل الشعراء هؤلاء عنده . قد يكون وصف الرحلة الذي ادعاه ابن دحية عن مخطوط العلقمي كان يقصد منه إعطاء عرض لمقاطع شعرية مقتبسة من شعر الغزال ، فالاهتمام الجغرافي كان أقل مرتبة تماما عند ابن دحية ، ولهذا من الممكن أنه قد اختصر وصف الرحلة تلك ، وحذف أجزاء لم تكن تتضمن مقاطع شعرية من شعر السفير الأديب . كيف تصرف هو بعد ذلك مع مخطوط العلقمي ؟ وما هي حقيقة المخطوط ذاك ؟ وأي حاكم في الشمال قصده الشاعر ؟ نحن لا نعلم بذاك تأكيدا . ولكن المؤرخ الفرنسي Levi – Provencal كان قد قرر زاعما أن الرحلة تلك كانت مختلقة كلها . هي طبخة لحكاية عن هذا السفير "الغزال" الذي نعرف ، ومن مصادر متعددة ، أنه اشترك فيها ، والذي أرسل سنة 840 م الى القصر Theophilos في بيزنطة ، ثم أن حكاية ابن دحية تلك لم يؤكدها مصدر آخر تقول من أن الغزال كان قد حصل على سفرة الى بلدان غربية من أجل ان يباهي بنجاحاته كدبلوماسي أو كساحر نساء . لقد دعم المؤرخ الفرنسي Levi-Provenca الزعم ذاك بوصف أكثر تفصيلا عن تلك السفارة البيزنطينية الذي وجده في مخطوط عربي بتونس اشتمل على حدثين ، وفقا لتصوره ، قد اختلفا في هذه الحكاية ، وذلك حين جعل القيصر البيزنطيني الدبلوماسي العربي يزحف لمسافة طويلة ، وبعد هذه الشخصية الرفيعة الأولى تمثلت بين يديه الملكة مع ولدها الصغير في جناح التشريفات الدبلوماسية ، طالبة من هذا العربي شرب النبيذ مع القيصر الصغير ، وبما معناه أنها أصبحت مسحورة به ، ولهذا رغبت هي أن يزورها ثانية ، وتحت أية ذريعة شاء . والآن فأن المخطوطة التي اقتبس منها Levi-Provenca لم يعثر عليها ثانية ، ولا توجد منها نسخة أخرى ، ولا حتى ترجمة لها فيما خلفه من أوراق وراءه ، ثم إننا لا نعلم كيف كان التشابه الحرفي بين الحكايتين . ومع ذلك فهناك باحثون آخرون يرون مع تأكيدات صحيحة أن هناك معلومات كثيرة في حكاية العلقمي عن الغزال هي معلومات حقيقية مثل المعلومة التي ترى أن العديد من سكان الشمال كانوا مسيحيين ، لكن لا زالت الوثنية تعيش في الجزر المحيطة بهم ، وهذا يتطابق جدا مع ما هو معروف عن الوضع في الدنمارك والنروج في حوالي سنة 845 م . لكن يوجد في تلك الحكاية ما هو خطأ يتوجب على المرء أن يوليه اهتماما كبيرا ، هو أن الموروث الثقافي في العالم العربي يقوم على أن الشاعر المهاجر عليه ان يتباهى بنجاحاته في كل علاقاته ، وعلى الأكثر في حظه عند النساء ، وأكبر مثال على ذلك هو الشاعر البدوي ، أمرؤ القيس (34) الذي عاش خلال النصف الاول من القرن الخامس الميلادي ، والذي وصل في تجواله الى بيزنطة من أجل أن يقيم علاقة جنسية مع بنت القيصر على رواية وعلى رواية أخرى من أجل أن يعطيه القيصر ابنته كزوجة ،هذه الأسطورة هي تشابه - في تنافي مع العقل - حكاية الغزال في أن ملكة بيزنطة وعند حلول الظلام كانت قد انسلت مع القيصر الصغير الى سكن الدبلوماسي الغريب طالبة بالحاح منه أن يشرب نبيذا ( الذي رفضه هذا المسلم الخير بغضب مهذب ! )هذا تفاخر عربي فارغ ، ولكن مثل ذلك كان أيضا ، حينما تحدث هذا الدبلوماسي نفسه خلال تواجده في بلد من بلدان الشمال عن "أنه تجادل مع علمائه وأذلهم وانه تسابق مع أقويائهم وانتصر عليهم " دعه حاز على سبق رياضي واحد أو آخر، ولكن بأية لغة (35) كان قد قابل هؤلاء العلماء؟ وعن أية مسائل علمية دار الجدل ذاك ؟ هل بمقدورنا بعد ذلك أن نخمن كذلك أن غزل الشاعر المزعج (36) للملكة الشمالية هو محض اختلاق ؟ وليس من المؤكد كذلك من جانب آخر ما أعطاه الجغرافيين العرب من إشارات عن العادات الجنسية الحرة للنساء النورمانديات . ونلاحظ نحن فضلا عن ذلك كم كان ابن فضلان غاضبا في كتابه من سلوك النساء المتحررات تقريبا عند الاتراك الذين ما زالوا لم يتحركوا الى الإسلام بعد (37) ، ولربما وجدت هناك ذرة أكبر أو أصغر من الصدق في التاريخعن الملكة النورماندية ، بعدها يمكن للمرء أن يرتاب ، وكيفما اتفق ، بصدق الحب عند السفير العربي الشاعر . ويجب أن يشار ، فضلا عن ذلك ، الى مصدر خطأ من نوع خاص يتلازم مع استخدام لغوي معروف وفريد في التاريخ الإسلامي ، هناك حيث يطلق المرء على القراصنة (Vikingarna) كلمة : المجوس (Magier) في المغرب بينما يطلق على الفرنجة (Väringarna) كلمة : فرنجة (Warang) أو الروس في المشرق ، فنحن نلاحظ من خلال حكاية الغزال أن المجوس هم أتباع دين وجد قبل الديانة المسيحية في بلدان الشمال ، وقد قال هو : أن هذا الدين قام على عبادة النار ، وكذلك الحق في التزويج من الامهات والأخوات ، وبشاعات أخرى مثلها (38). ويجب ان نؤكد على أننا لا نملك أن نتعامل هنا مع بعض معلومات ونتائج حقيقية من دراسات أدبية كهذه ، ففي المغرب كان الاتصال بين سكان الشمال والقراصنة يقوم تقريبا على تصادمات حربية قاسية في تزامن مع هجمات لصوص البحار النورمانديين ، ولكن في المشرق تطور الحال نحو علاقات سلمية ، ولذلك امتلك المرء فرصة كي يدرس النورمانديين بهدوء واطمئنان واستطاع هناك أن يستخدم كذلك إسما يعود الى أصل نورماندي ، فرنجة (39) أو روس ، بينما في المغرب استمر تواجد لصوص البحار المجهولين والمخيفين وبذا لم تتوفر فرصة ليرى الإنسان أقرب الأشياء إليه ، وبتوافق مع هذا لم تستخدم هنا بعض المسميات النورماندية بدلا من مصطلح مجوس ( Magier) الذي يوجد حاليا في القرآن حيث قصد بهؤلاء أتباع دين غريب ولكن محذور ، ويعني زرادشتية إيران ، حيث يكون المجوسي لقب قديم لكهنته ، أما كيف فهم هذا المصطلح بعد ذلك في المغرب العربي ، وأصبح يطلق على لصوص البحار من النورمانديين ؟ فهذا غير واضح تماما .وحين قدم رحالة عربي وصفا أقرب للشعب المجهول في الشمال تذكر فجأة معلومات الكتب المدرسية عن الزرادشتية ، هؤلاء الأتباع ، ومثلما هو معروف ، وقبل كل شيء ، كانوا عبدت النار المقدسة ، المشتعلة أبدا ، ولكنهم على عادة شاذة - ربما كانت محلية محدودة كثيرا - تخص الزواج من الأقرب وحتى ما بين الأخوان ، وهذا ما التهمته نقاشات المسلمين مثل لقمة سائغة خاصة ، فهم لم يتوانوا أبدا من اتهام المجوس بزواج المحرمات ، هذه الجريمة الكبرى عند أتباع محمد ، فالغزال والكثيرون معه نقلوا تصورا فارغا تماما عن زرادشتيين من الشعب النورماندي . كان وقت الرحلة هو سنة 845 م ، لكن أين اتجهت وأي ملك إلتقاه سفيرنا الشاعر ؟ هذا لم يقله هو مع الأسف ، وحتى وصف الجزيرة الشمالية كان غير مجد ، ويجعل هو من الصعب على المرء تحديد هويتها ، وهنا يجب أن يشار الى أن جزيرة ( Djezira) تلك الكلمة العربية التي تطلق على (ö) (40) لها معنى واسع ، هو أنها أرض تحيط بها مياه كثيرة ، ومع ذلك فشمال العراق لا يزال للآن يسمى جزيرة مثلا . وهنا لا يحتاج المرء كذلك أن يفكر بجزيرة أرلندا ، هناك حيث كان يجلس ملك القراصنة توركس (Turgeis ) الذي قتل سنة 845 م ، ورغم ذلك لا يوجد صدى عند الغزال لهذا الوضع المتأزم في دولة القراصنة تلك . ويجوز للمرء أن يبحث بين الحكام النورمانديين أو الدنماركيين ، فالملك الأكبر ، هوريك (Hårek ) ، ملك الدنمارك أرسل - كما هو معروف - وفد كبيرة من القراصنة الى غرب أوربا(41) ، وهو الملك الذي كان وراء هجوم القراصنة على أشبيليا سنة 844 م كذلك .
= = = = = = = = = = 1- نسبة الى مدينة جَيَّان (Jaen ) الأندلسية التي تقع الى الشرق من مدينة قرطبة ، وقد لقب بالغزال لجماله وحسن صورته ، ووسامته حتى وهو في سنوات الكهولة. 2- ديوان يحيى بن حكم الغزال ص7. 3- ديوان يحيى بن حكم الغزال ص6. 4- المطرب من أشعار أهل المغرب ص 143. 5- تجمع أغلب الروايات على أن رحلة الشاعر في سفارته الى الدنمارك وقعت سنة 230هـ= 844م ، وذلك بعيد فشل الهجوم الذي قام به النورمانديون ( القراصنة ) على مدينة اشبيلية الأندلسية سنة 229هـ ، ثم قدم ، بعد ذلك ، وفد منهم على مدينة قرطبة ، يحمل رسالة من ملكهم هوريك ، يطلب فيها من الأمير عبد الرحمن الثاني ( الأوسط ) الصلح وإقامة علاقات صداقة وتعاون ، وقد أجابه الأمير على طلبه هذا بإرسال الشاعر يحيى بن حكم الغزال على رأس سفارة استقرت في بلاد الملك المذكور على مدى عشرين شهرا ، تلك المدة التي وقعت فيها ملكة الدنمارك بغرام الشاعر الغزال ، مثلما ذكر الشاعر ذلك بشعره ، ومثلما نقل خبر قصة الغرام هذه عن بعض مرافقيه ومعاصريه. 6- ديوان يحيى بن حكم الغزال ص7. 7- المطرب من أشعار أهل المغرب ص150. 8- المطرب من أشعار أهل المغرب ص148. 9- ديون أبي نواس ص 480. 10- ديوان الغزال ، يحيى بن حكم ص54 ، والقصيدة غير كاملة الأبيات ، وقد نقلها جامع الديوان من أكثر من مصدر ، وهي والحالة هذه مبعثرة ، تحتاج الى تنظيم ما وجد من أبياتها من جديد . 11- المطرب من أشعار أهل المغرب ص 149. 12الحسن : هو أبو نواس ، الحسن بن هاني . 13عباءتي . ويلاحظ هنا أن الشاعر يحيى بن حكم الغزال قد استعار من أبي نؤاس ، بالإضافة الى معانى الأبيات ، بعض الكلمات التي سبق لأبي نؤاس أن صاغ بها أبياتا في بعض من قصائده . 14- ديوان الغزال ، يحيى بن الحكم ص 148. 15- ديون أبي نواس ، الحسن بن هاني ص 402. ولأبي نواس في هذه القصيدة أبيات في وصف الخمرة رائعة لم يستطع الغزال الدنو منه في قصيدته الخمرية المذكورة هنا ، والأبيات هي : وكأس ٍكمصباح السماء شربتهــــــــــا.... على قُبلة أو موعد بلقــــاء. أتت دونها الأيام حتى كأنهــــــــــــــــا ... تساقط نور ٍ من فتوق سماء. ترى ضوءها من ظاهر الكأس ساطعا ... عليك وإن غطيتها بغطــــاء. 16- ديوان الغزال ، يحيى بن حكم ص28. 17- خلد الشاعر أبو تمام ، حبيب بن أوس الطائي ، هذه المعركة في قصيدة شهيرة في الأدب العربي مطلعها : السيف أصدق أنباءً من الكتب ِ ...... في حده الحد بين الجد واللعب ِ 18- النوك : الحمق . 19- الديوان ص14. 20- يراجع كتاب المطرب من أشعار أهل المغرب ص146. * ومع هذا يصر ستيك ويكاندر (Stig Wikander) على نكران سفارة الغزال للدنمارك. 21- Araber Vikingar Väringar s15. 22- يراجع المصدر نفسه الصفحه نفسها . 23 -Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe during the Umayyad period p182. 24- رحلة ابن فضلان ص68. 25 -Den svenska historien. Del:1s140 26 - Vikingen. S55 27 - Skånelands regenter före Gorm den Gamle.) http://www.forumscaniae.net( 28-Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe during the Umayyad period p.183-84.
29 - History of the Vikings transcribed.p202 30- يقول ابن فضلان عن عدد زوجات احد ملوك القراصنة ما نصه " ويجلس معه على السرير أربعون جارية لفراشه ، وربما وطأ الواحدة منهن بحضرة أصحابه ". رحلة ابن فضلان ص 76. ** يريد الاسم في الكثير من الكتابات على هذا الرسم : Tyre. 31- Vikingen.s59. 32- المطرب من أشعار أهل المغرب ص 140-141. 32- نص ما كتبه ستيك ويكاندر (Stig Wikander) عن الغزال باللغة السويدية وترجمته أنا الى العربية. 33- لم يترجم ستيك ويكاندر كلمة : أهل التي هي من صلب عنوان الكتاب . 34- يتحدث الكاتب ستيك ويكاندر هنا عن الشاعر أمرئ القيس بحديث يجافي الحقيقة ، فالمعروف أن امرأ القيس قد رحل الى القيصر يو ستنيانوس الذي حكم الإمبراطورية البيزنطينية من عام 527 م . الى 565 م وبواسطة من الحارث بن أبي شمر الغساني الذي ملكه الإمبراطور البيزنطي على الشام ليقاتل أعداء الإمبراطورية وبالأخص أنصار الفرس من العرب وعلى رأسهم اللخميين ممثلين بالمنذر بن ماء السماء ، عدو أمرئ القيس ، وذلك من أجل الحصول على مساعدة عسكرية يستطيع الشاعر أمرؤ القيس استرداد ملك أبيه بها ، مسنغلا في ذلك العداوة التاريخية القائمة بين الروم والفرس خاصة بعد أن أعاده كسرى أنو شروان المنذر بن ماء السماء الى الحيرة ملكا ، طاردا منها جده الحارث الكندي ملك بني أسد ، وقد أشار الشاعر الى مهمته هذه فقال :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه....وأيقن أنا لاحقان بقيصــــــرا فقلت له : لا تبك عينك إنمــــــــــا.... نحاول ملكا أو نموت فتعذرا
وعلى هذا لم يذهب الشاعر أمرئ القيس الى عاصمة الدولة البيزنطينية من أجل أن يتباهى بنكاح ابنة القيصر ، أو بطلب يدها منه بقصد الزواج منها ، مثلما اختلق ذلك ستيك ويكاندر ، وأفضل الروايات تقول : أن أمرأ القيس قد مات بمرض جلدي وهو في طريق عودته من البلاط البيزنطي ، وليس لمؤامرة أعدها القيصر المذكور بسبب من أنه شعر أن امرأ القيس كان يراسل ابنته . ولعمري أن جل الشعراء من العرب أو غير العرب ما انفكوا يتباهون بتجاربهم الغرامية هذه التجارب التي تهفو لها نفوس البشرية قاطبة ، ومنذ أن خلدت حواء بهدوء في أحضان آدم. ومع ذلك فإن شاعرا عربيا مثل المتنبي الذي طاف في أكثر من بلد لم يفاخر بعلاقاته مع النساء على نظرية ستيك ويكاندر . 35- نسى ستيك ويكاندر أن ابن فضلان ، الذي ترجم له هو نفسه ، كان قد تعرف على الكثير من عادات القراصنة السويديين من خلال مترجم ، هذا بالإضافة الى أن الشاعر والسفير ، يحيى بن الحكم الغزال ، كان يتحدث بأكثر من لغة على ما ذكرته بعض الروايات ، ويبدو أن معرفة أكثر من لغة صار فيما بعد أمرا ضروريا لكل رجل يريد أن يصبح سفيرا ، وقد تكون معرفة الغزال بأكثر من لغة هي من أهم الأسباب التي دفعت بالبلاط الأموي في الأندلس الى تعينه بمنصب سفير مرتين ، مرة في بلاد بيزنطة ، وأخرى في بلاد الدنمارك . وأضيف هنا نص ما ورد على الصفحة 59 من كتاب (Vikingen) الذي يصف لنا يوما من أيام العمل في مدينة هيدابي (Hedeby) فيكتب باللغة السويدية : ( يعرف التجار الأجانب بشكل جيد من خلال كسوتهم ومظهرهم ، وتميز لغات غريبة كثيرة في الأزقة الضيقة هناك حيث يمكث الناس في الأكثر خلال اليوم ) 36- أنا لا أدري كيف عرف ستيك ويكاندر أن الشاعر يحيى بن حكم الغزال كان قد أزعج ملكة الدنمارك حين تغزل بها أم أنه كان يريد أن يقول إن الغزل هذا كان مزعجا له هو بعد هذه السنين الطويلة من قول الشاعر له ؟ وأقول على ثقة أن الملكة تلك لا تختلف عن بقية النساء من بنات حواء في موقفهن من الغزل الذي قالت عنه العرب قولها المعروف : الغزل عطر النساء ! 37- لم يغضب ابن فضلان لرؤية نساء المسلمين الأتراك يسبحن عاريات مع الرجال المتحولين الى الإسلام ، وليس الذين لم يتحولوا ، مثلما ذكر ستيك ويكاندر ذلك وهو غير صادق . فكل ما فعله ابن فضلان هو ما كتبه عن ذلك ( وما زلت أجتهد أن يستتر النساء من الرجال في السباحة ، فما استوى لي ذلك ..) ( رحلة ابن فضلان ص 61 ) فهل يدل كلام ابن فضلان هذا على غضب ؟ 38- المجوسية ديانة إيرانية قديمة سبقت بظهورها الزرادشتية ولا يعرف تحديدا مكان ظهورها الأول ، ولا معنى جذر الكلمة الأول حتى باللغة الفارسية ، وحين انتقلت الكلمة الى اللغة العربية وتوسع معناها وصارت تعني عند العرب المسلمين تلك الديانية الوثنية التي يعبد أصحابها أربابا من دون الله وهذا المعنى ينطبق على وثنية القراصنة كذلك. وقد سبق لي أن قلت إن ابن فضلان وجد لفظا جاهزا امامه كان يطلقه مضيفيه على قراصنة المشرق هو لفظ روس (Rus) فأخذه هو من أفواههم. راجع كتابي رحلة ابن فضلان ص15. 39- فرنجة : اسم يخص اتحاد القبائل الجرمانية التي استقرت حول باريس العاصمة الفرنسية الحالية بعد سقوط الدولة الرومانية ، ولم يخص هذا الاسم سكان دول الشمال (الاسكندنافية ) ، بينما كان لفظ الروسية ، الذي استخدمه ابن فضلان في رحلته ، وأطلقه على القراصنة ، هو الذي يردهم الى أصول نورماندية . 40-Ö : تعني جزيرة في حالة تنكير باللغة السويدية ، وتعريفها : Ön . 41- يصعب على ستيك ويكاندر أن يسميها بلاد الأندلس القائمة للآن بهذا الاسم في اسبانيا ، والتي تحكم حكما ذاتيا من قبل سكانها الذين يبدون تعطفا كبيرا مع تاريخ بلادهم العربي ، هذا التعاطف الذي يظهر في كثرة التماثيل والنصب التي أقاموها في مدنهم للفلاسفة والشعراء العرب ، وكذلك العناية الفائقة بالآثار العربية التي تدر عليهم أموالا طائلة من خلال الأعداد الضخمة للسياح الذين يؤمون بلادهم كل سنة . فمثلا تذكرة الدخول لمشاهدة قصر الحمراء في غرناطة تعادل عشرة دولارات أمريكية للفرد الواحد ، وطابور الناس يتواصل من ساعات الصباح الباكرة وحتى المساء ، حتى أن أحدهم شبه لي قصر الحمراء حين كنت في زيارة له ، ببئر نفط متدفق أبدا ، وذلك لكثر ما يدره هذا القصر من ثروة على البلاد الاسبانية .
#سهر_العامري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 15
-
عن المعارك الدائرة في مدينة الناصرية !
-
العراق فی تقرير للمخابرات العسكرية الدنماركية !
-
الكلب المسعور يطوف في المنطقة العربية !
-
عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 14
-
عرب الأهوار الضيف والشاهد 13
-
الفشل يلاحق المشروع الأمريكي في العراق!
-
الغزال 3
-
العلم العراقي وهج الوطنية ، وجامع القلوب !
-
غوار الطوشي في النجف !
-
الشيوعية: تلكم الكلمة ، وذلك الآمل !
-
عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 12
-
حزب الفضيلة والخطوة الاستباقية !
-
عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 11
-
الحقيقة التي يجب أن لا تغيب !
-
الغزال 2
-
عرب الأهوار ، الضيف والشاهد 10
-
الهلع يستولي على عملاء إيران في العراق!
-
الدب القطبي يسبح في مياه الخليج الدافئة !
-
المتعة ومرض الأيدز يجتاحان المدن العراقية !
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|