قراءة في العقل الصهيوني.( 1)
فريد العليبي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8156 - 2024 / 11 / 9 - 04:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مدخل.
ليس هينا انجاز قراءة في العقل الصهيوني فتلك مهمة تتطلب جهدا كبيرا طالما ان الامر يتعلق بمنتوج ضخم ، ربما تطلب فرق بحث مختصة في مجالات علمية كثيرة لدراسته، لأجل ذلك ننبه القارئ الى اننا نحاول هنا القيام بقراءة أولية وجزئية من خلال استنطاق كتابين ووثيقة ، الكتاب الأول مؤلفه هو من يمكن وصفه بمؤسس الصهيونية الفكرية أو حتى الفلسفية موسي هيس وهو : روما وأورشليم ، المسألة الأخيرة للقوميات ، والثاني لمؤسس الصهيونية السياسية تيودور هرتزل وهو : دولة اليهود ، أما الوثيقة فعنوانها : "إستراتيجية إسرائيلية للثمانينات" وتعرف أيضا بخطة اينون .
وفضلا عن ذلك لا نبتغي هنا الإجابة الدقيقة عن سؤال ما هو العقل الصهيوني المعني بالقراءة ؟ ولا عما اذا كان هناك عقل صهيوني ام لا؟ فذاك يتجاوز حدود هذا المقال ولكن لا بد من توضيح أن ما نقصده هو طرائق تفكير مؤسسي الصهيونية وأطروحاتهم ومفاهيمهم من خلال الكتابات المشار اليها .
1 ـــ روما وأورشليم .
بالعودة الى مؤلف الكتاب الأول موسي هيس نلاحظ أنه عاصر توحيد إيطاليا ، أي انه شاهد تلك الامارات والجمهوريات والملكيات الإيطالية المتناثرة وهي تتحد فيما بينها ضمن دولة قومية واحدة سنة 1861 ، مدركا اأن ذلك لم يتم سياسة فقط وانما حربا أيضا ، منبهرا بذلك التوحيد الذي ألهمه فكرة تأسيس دولة قومية لليهود على غراره ، تجمع شتاتهم في العالم قاطبة ، و من هنا المماثلة بين روما واورشليم فإذا كان الايطاليون قد حققوا وحدتهم فإن اليهود يمكنهم أيضا تحقيق تلك الوحدة ، لأجل ذلك كان تعامله مع اليهودية باعتبارها قومية أكثر من اعتبارها دينا. بل ان الدين هنا يؤدي وظيفته من حيث هو دعامة لتلك القومية وعنصر من عناصر الهوية الوطنية . ومن ثمة وجوب اجلاله وتبجيله والتخلص من نزعة تبخيسه التي طالما انتشرت بين اليهود الاشتراكيين ومنهم هو نفسه في بداياته الفكرية .
الرئيسي في فكر هيس هو النظر الى اليهود كقومية ممزقة تطلب تحررها ووحدتها فالعالم برأيه قد استكمل تقريبا التوحيد والتحرير القومي مع الحدث الإيطالي ،والذي ظل دون تحقيق هو الجانب المتعلق منه باليهود ثم يغلق الملف.
كانت تلك هي الفكرة الأولى على هذا الصعيد من التشابه بين الحالتين ، أما الفكرة الثانية فهي وجوب بحث اليهود عمن يساعدهم على تحقيق هدفهم ، فإذا كان الايطاليون قد وجدوا في فرنسا وحاكمها وقتها الامبراطور نابليون الثالث تلك المساعدة فلا شيء يمنع اليهود من الارتكاز على فرنسا نفسها في مسعاهم هذا أيضا ، لذلك راأي في ذلك الامبراطور محررا ونصيرا للقوميات ، فقد كان معجبا به على نقيض معاصره كارل ماركس الذي سيخصص كتابا كاملا لتحليله كظاهرة والسخرية منه ومن مكانته في التاريخ الفرنسي .
كان هيس معجبا بالثورة الفرنسية كما قلنا وبآخر أباطرتها في عصره ، ومثلما ساعد إيطاليا ، عليه مساعدة اليهود ، فهو يرتقي بتلك المهمة الى مستوى الواجب البونابرتي ، ففرنسا برأبه قاطرة تحرر القوميات ووحدتها وفاتحة العالم الجديد ، وهى التي تشق قناة ضخمة تقرب المسافات بين القوميات والبلدان ، هي قناة السويس وليس تأسيس دولة أورشليم أقل شانا من ذلك ، فقد كان هيس منبهرا بالعمل الذي أنجزته فرنسا في مصر بحفرها القناة في عهد الامبراطور نابليون الثالث ، ومن ثمة وضع مشروع اليهود في " التحرر القومي " علي عا تقها وعاتقهم سواء بسواء .
لا تمثل الفكرتان المشار اليها كل ما فكر فيه هيس فهناك أفكار أخرى يدور حولها فهمه للمسألة اليهودية ، من ذلك هذه الفكرة الثالثة وهى أن تحرر اليهود لا يكون بالاندماج مع الشعوب الأخرى وانما بالانفصال عنها وتأسيس وطن قومي خاص بهم ، ومن ثمة كان انتقاده للنظرة الاندماجية التي نجدها لدى كارل ماركس مثلا ، الذي يختم كتابه المسالة اليهودية بتلك الجملة المفارقية الاندماجية " إن تحرير اليهودي يتطلب تحرير المجتمع من اليهودية "
أما الفكرة الرابعة فتتعلق بأهمية الأرض لتأسيس الدولة الجديدة فهي معنية بتملك الأرض وتنظيم العمل الزراعي . واذا نظرنا الى " الكيبوتز" الذي سينشأ لاحقا في فلسطين من هذه الزاوية فإننا نلاحظ أنه كان بمعنى ما تجسيدا لهذه الفكرة وان كان تدخل الدولة في تسييره محدودا ، ولكن المهم هنا هو مركزية الاستيلاء على الأرض والتوسع في امتلاكها ، ففي ذلك أساس مكين للدولة، لذلك جرى على مر السنين التي هي عمر الدولة الصهيونية تجريد الفلسطينيين من أ رضهم عبر تهجيرهم قسرا منها خاصة.
وعلى خلاف هرتزل الذي سيأتي الحديث عنه نظر موسى هيس الى فلسطين دون سواها باعتبارها الوطن القومي لليهود وفق مفهوم الاستعادة او الاسترداد لتلك الأرض بالذات.
وهو يعد من رموز ما يسمى " النهضة اليهودية " في القرن التاسع عشر ، فهذا الرجل الذي خضع طويلا الى تأثير الأفكار الشيوعية وكان صديقا لماركس وأنجلس، منتقدا الأديان بما فيه اليهودية ، معتبرا اليهودي " عبدا للمال " انقلب على نفسه وعاد الى ما يسميه شعبه ، داعيا الى التعامل معه باعتباره يمثل قومية مضطهدة حان وقت تحررها ووحدتها تماما مثل إيطاليا ،ومن هنا عنوان كتابه الأشد انشغالا بهذه المسألة ونقصد " روما وأورشليم".
ركزت تلك النهضة على جملة من القضايا ، مثل استعادة الأرض، والمقصود بها أرض فلسطين ، بزعم أنها أرض اليهود التاريخية وزرع المستوطنات فيها ، ومن ثمة تأسيس دولة ووطن لليهود كافة واحياء الثقافة اليهودية بإعادة الروح خاصة للغة العبرية والموروث الثقافي المكتوب بها ، فضلا عن ابراز الهوية اليهودية التي تتضمن ذلك كله باعتبارها دالة على وجود قومية مخصوصة ، و هذه الأفكار نجدها مبثوثة في كتاب هيس الذي ألمحنا اليه,
لقد كانت تلك النهضة مرتبطة بهدف مركزي هو تأسيس " إسرائيل " وهو ما سيتحقق سنة 1948 على حساب العرب و في صلة بإخفاق نهضتهم ، التي لم تتحول الى حالة سياسية منتصرة ، فمن خلال مقارنة سريعة يمكننا القول أن النهضتين العربية واليهودية تمتا في نفس الوقت ، و نعني القرن التاسع عشر فعندما كان الطهطاوي وخيرالدين التونسي وغيرهما على سبيل الذكر يبلورون عربيا أفكار النهضة كان هيس يبلور أفكاره النهضوية يهوديا ولكن مصير النهضتين كان مختلفا شديد الاختلاف من الناحية العملية كما ذكرنا ، عربيا كان اخفاق تجربة محمد على في مصر وأحمد باي والصادق باي في تونس على سبيل المثال وحلول الكولونيا لية الأوربية، أما صهيونيا فقد أدت تلك النهضة الى نشأة " إسرائيل " في حضن تلك الكولونيالية نفسها .
لم يستعمل هيس مصطلح الصهيونية الذي سيظهر بعد وفاته ،ولكن الفكرة الصهيونية الأساسية تعود اليه من حيث المضمون ، حتى ان تيودور هرتزل سوف يقول انه لو قيض له قراءة كتاب هيس ذاك ما كان ليكتب مؤلفة " دولة اليهود " .
اهتم هيس بالفلسفة والعلم وكان مفتونا بفلسفة الهولندي باروخ سبينوزا على نحو خاص ولكنه تأثر أيضا بالألماني فلهام هيجل واقترب من أفكار ماركس وانجلس ولاسال ، فضلا عن فلاسفة الانوار و رأى في الثورة الفرنسية فاتحة عصر جديد في العالم كله ، لذلك فإن صهيونيته أقرب الى الفكر منها الى السياسة ومن هنا تمييزنا بينه وبين هرتزل مؤسس الصهيونية السياسية .
يتبع .....
الحواشي .
نشر عوديد ينون ( Yinon) الوثيقة في فيفري 1982 في مجلة كيفونيم العبرية بعنوان «إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات» وعرفت أحيانا باسمه ، وكان ينون مستشارا لوزير الحرب الإسرائيلي وقتها أرييل شارون ، كما عمل في وزارة الخارجية الإسرائيلية ، فضلا عن اشتغاله صحفيا في جريدة جيروساليم بوست.، وهناك ترجمة عربية لتلك الوثيقة صادرة في كتاب : أوديد اينون ، الأرض الموعودة ، خطة صهيونية من الثمانينيات، ترجمها من العبرية الى الإنكليزية إسرائيل شاحاك وترجمتها من الإنكليزية الى العربية : ليلى حافظ ، مكتبة الشروق الدولية الطبعة الأولى القاهرة 2009.
2موسى هيس ، روما وأورشليم آخر قضايا القوميات ، صدر الكتاب سنة 1862 أي عاما واحدا بعد الوحدة الإيطالية، ويفيد اهداءه التالي : «إلى الرواد الشجعان من جميع الشعوب الذين يناضلون من أجل نهضتهم الوطنية». افتتان صاحبة بالنهضة واعتقاده أن النهضة اليهودية قد حان وقتها، وقد استندنا في هذا المقال الى النسخة الإنكليزية الصادرة تحت عنوان :
MOSES HESS، ROME AND JERUSALEM، A STUDY IN JEWISH NATIONALISM، TRANSLATED FROM THE GERMAN WITH INTRODUCTION AND، NOTES By MEYER WAXMAN, Ph. New York. BLOCH PUBLISHING COMPANY "the JEWISH BOOK CONCERN" 1918 ،Copyright, 1918, by BLOCK PUBLISHING COMPANY
3 كارل ماركس ، الثامن عشر من برومير لويس بونابرت .
4 كارل ماركس ، المسألة اليهودية .
5 يحاول اليوم رئيس الحكومة "الإسرائيلية " الانتساب الى تلك النهضة فالحرب ضد الفلسطينيين في غزة واللبنانيين انما هي النهضة اليهودية الثانية ، وعندما انقضت مسيرة على منزله في قيساريا قرب تل أبيب، قادمة من لبنان ، اعتبرها محاولة اغتيال إيرانية رابطا الحرب بالنهضة بقوله " "هذا لن يردعني ولن يردع دولة إسرائيل عن استمرار حرب النهضة ضد أعدائنا". ، أنظر :
https://www.mc-doualiya.com/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-
وفي الاتجاه ذاته كان تغييره اسم الحرب من حرب السيوف الحديدية الى حرب القيامة وحرب النهضة .
6 كنا في مقال سابق قد عرضنا الى ذلك ، أنظر : فريد العليبي ، النهضة والثورة https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=846283