النهضة والثورة.


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 8142 - 2024 / 10 / 26 - 18:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مدخل.
يتطلب النظر في إشكالية العلاقة بين النهضة والثورة على صعيد المنهج التحليل والمقارنة والديالكتيك فالإشكالية مركبة ومنهج معالجتها يجب أن يتطابق معها من حيث تنوعه، ومن هنا التنبيه الى تعدد مسارب تلك المعالجة التي لا ندعي ولوجها كلها ، وانما ستكتفي بنماذج منها ، علها تفيد الإحاطة بها .
وإذا كانت النهضة تحيل على مجالات مختلفة فإننا نبتغي البحث عن حضورها في مجال النظر وما جاوره على وجه التخصيص، وهو ما يصح على الثورة أيضا، التي اخترنا مقاربتها من خلال نقطة ارتكاز رئيسية ممثلة في المسألة السياسية بحمولتها الفلسفية. وغني عن البيان أن ذلك النظر يقتضي عدة مفهومية، لذلك ستحضر بجوار مفهومي النهضة والثورة مفاهيم أخرى ، مثل التنوير والحداثة والإصلاح والعقل والتحرر والكولونيا لية .
ولا يمكن لمعالجة من هذا القبيل الا أن تكون منغرسة في التاريخ ، ومن هنا التوجه ناحية تاريخ العرب أولا وأوربا ثانيا ، تلك القارة التي عادة ما ينظر اليها باعتبارها مهد النهضة وجغرافيا تجسيدها الواقعي، دون اغفال تجارب أخرى ومنها التجربة الصينية آسيويا حيث الاقتران بين النهضة والثورة في واقع سوسيوتاريخي لا تخفي أوجه الشبه بينه وبين الواقع العربي . والفلسفة والتاريخ هنا متحدان فالتاريخ لا يمكنه الا أن يُقرأ على ضوء فلسفته كما أن الفلسفة تجد في التاريخ تجسيدها الواقعي.
ونحن لا نروم هنا تقديم ملخص تاريخي للنهضة ومفكريها وما يحيل عليه من اختلاف المدارس وتعددها ، وانما قراءة إشكالية لها فالنهضة كما قلنا معنية بالتفكير في ذاتها بذاتها أي اننا نحاول القيام بذلك العمل من داخل النهضة لا من خارجها ، بحثا عن ولادة جديدة أخرى ، ومن ثمة طرح السؤال المركزي : لماذا ظلت النهضة لدى العرب مؤجلة في حين نجح غيرهم من الشعوب والأمم في وضعها موضع التطبيق ،وما اذا كان لذلك علاقة بالثورة العربية المؤجلة بدورها حتى اليوم ؟ لكي نخلص الى الإبانة عن سبل تجديد الفكر النهضوي العربي فلسفة، من خلال العودة خاصة الى مقاربات بعض النهضويين العرب ، ضمن أفق ينشد تحقيق الوصل بين النهضة والثورة نظرا ، بما يمكن من المساهمة في تحقيق ذلك الوصل عملا أيضا .

ماهي النهضة ؟ ما هي الثورة ؟

تعني النهضة لغة انبعاثا و يقظة من سبات تاريخي، إنها ولادة جديدة في أصلها اللاتيني (renaissance) فاللفظة اللاتينية natus تعني ولادة جديد رأي نور الحياة ، ,والبادئة 1 re تفيد الإعادة والعودة الى حالة سابقة، ولكن دون تكرار أو تقليد ، وانما بابتكار وتجديد . وهي أوربيا عودة الى التقاليد العقلية النقدية اليونانية والرومانية التي وأدتها عصور الظلام . وهي تندرج ضمن تحقيب العصور : ظلام ، نهضة ، أنوار، حداثة ، ما بعد حداثة الخ .. حيث نلاحظ اختلاف مجالات ذلك التحقيب فلكل عصر سماته ومجالاته ومقاييسه ، وبالتالي محدداته ،ومن ثمة تنوع العلوم التي تدرس هذه او تلك من المـراحل . وغني عن البيان أن هذا الجنس من التحقيب ليس الوحيد وانما هناك اجناس أخرى أيضا .
و النهضة مفهوم فلسفي من حيث الدلالة على العقل والنقد والتحرر والحرية. انها حدث وحدوث بالمعنيين النظري والعملي، لذلك يتشابك في نحت معالمها الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلم والفلسفة والفنون والآداب الخ ..وهو ما يعني الجدة والابداع والقطيعة مع ماض مكرر قديم وتقليدي ، ولكي ينهض شعب / أمة يجب أن تتوفر له أسباب نهوضه، و يحدث هذا في زمان ومكان محددين أي ضمن التاريخ ومن خلاله.
و اذا كانت الفلسفة تنظر في سائر المعارف مُخضعة إياها الى التحليل والنقد ولا تستثني ذاتها من ذلك فهي تعود على ذاتها تحليلا ونقدا فإن تلك سمة من سمات الفكر النهضوي أيضا ، فلا نهضة دون امتلاك هذه القدرة ، أي إن الفكر النهضوي معني بفحص ذاته في كل حين لكي يتجدد ، ولا يمكنه القيام بذلك اذا لم يكن فلسفيا بهذا القدر أو ذاك، فلا نهضة دون فلسفة تكون داخلها من جهة مكوناتها ، وقارئة لها خارجيا من جهة ادراك كنهها واتجاهات سيرها ، و من هنا فإن النهضة تفترض نقد المفاهيم والمصطلحات والأطروحات التقليدية الرائجة وتأسيس أخرى مكانها ، والغاية هي فتح السبيل أمام تحرير العقل بالعقل نفسه فالعقل يعود على نفسه محطما أغلاله، وهذا ينعكس على المجتمع الذي كان في الأصل منبع ذلك المطلب ومن هنا تلك العلاقة الديالكتيكية بين النهضة والمجتمع الذي فيه تولد وتترعرع .
يؤرخ أوربيا عادة للنهضة بما جرى فيها من حركة فكرية وأدبية وفنية وعلمية واقتصادية الخ... على مدى قرنين ، هما الخامس عشر والسادس عشر (1400 ـ 1600 ) دون التغاضي عن بواكيرها التي هي أبعد من ذلك ، ففي عمق ظلام العصور الوسطى 2كانت هناك ملامح نهضوية فصاحب " الكوميديا الإلهية " دانتي أليغييري مثلا عاش بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر ( 1265 ـــ 1321) أي قبل ابن خلدون3 ( 1332 ـــ 1406 ) الذي لا تخفى ملامح الفكر النهضوي فيما كتبه وهو ما يستحق بحثا خاصا للإبانة عنه ليس هنا مقامه.
وقد كانت مجالات النهضة متنوعة فعلى الصعيد الاقتصادي مثلت بدايات تكون الاقتصاد الرأسمالي فتطورت المعاملات المالية والتجارة والحرف ، أي انها كانت بمثابة اعلان أولي عن موت الاقطاع اقتصاديا ، حيث حل زمن المانيفاكتورة الرأسمالي محل زمن الإنتاج الاقطاعي 4 وترك الريع العقاري شيئا فشيئا المجال أمام العمل المأجور .
وكانت الاكتشافات الكبرى ومنها اكتشاف أمريكا من قبل كريستوف كولمبوس الإيطالي المنشأ والبرتغالي الخدمة، معتمدا خرائط إيطالية لا تخفى صلتها بالجغرافي العربي الادريسي 5، الذي عاش ردحا من حياته في صقلية قبل ذلك بقرون ثلاث في كنف الملك النورماني روجر الثاني 6 عد انكفاء العرب الى افريقيا ومغادرتهم البر الإيطالي بعد حروب عاصفة وطاحنة .
ومن بين أعلام النهضة في الفلسفة البريطاني فرانسيس بيكون مؤسس المنهج التجريبي، المتمرد على المنطق الارسطي وبودان في فرنسا صاحب مفهوم السيادة وفي ألمانيا التوسيوس صاحب السياسات ، وفي الفنون الايطاليين ليوناردوفنشي ورافائيل وميكل انجلو ، وفي الأدب اراسمErasme الهولندي صاحب كتاب "مديح الحماقة" ، الذي تضمن نقد ا حادا للمؤسسة الكنسية ، وشكسبير ورائعته حياة وموت الدكتور فاوست في بريطانيا، وسرفانتس صاحب دون كيشوت في اسبانيا ، وفي علم الفلك البولوني كوبرنيكوس ، الذي انتزع الأرض من ثباتها لتصبح كوكبا يدور حول نفسه وحول الشمس ، موجها أولى الطعنات لتمركز الانسان حول ذاته وأوهامه عن الكون وموقعه فيه ، وهو ما عبر عنه فرويد 7لاحقا ببراعة فالنرجسية البشرية المجروحة غدت أضحوكة ، وكان لا بد من الاعتراف بذلك على رؤوس الأشهاد والتخلص من تعال فقد مبررات وجوده .
وفي الفكر السياسي كان الإنكليزي توماس مور مؤسس الاشتراكية الخيالية في كتابه "اليوتوبيا" ، الذي قضى على يد الكنيسة وقد هشم جسده اربا وقطع رأسه ، وكامبنيلا الذي نحا المنحى اليوتوبي ذاته في إيطاليا ، والاسباني بارتلومبة دو لاس كازاس الذي يعد أول من فضح الاستعمار الأوربي للشعوب والأمم المضطهدة مناديا بتمكينها من حقوقها كاملة.
وفي الإصلاح الديني نجد جوردنو برونو الذي تمرد على معتقدات الكنيسة وتقاليدها فأحرق حيا في روما ، حيث الساحة التي يقوم فيها اليوم تمثاله ، والالماني جوهانس غوتنبرغ مخترع آلة الطباعة منتصف القرن الخامس عشر ، مما ساعد على انتشار القراءة و الكتابة والترجمة والانبعاث الجديد للموروثين اليوناني والروماني في شتي الميادين، وفضلا عن ذلك كان استعمال اللغات المحكية بدلا عن اللاتينية 8 ، مما قرب الأفكار النهضوية من عموم البشر في تلك القارة التي كانت تعيد اكتشاف نفسها بنفسها .
وهذه النشأة الأوربية للنهضة تفسر بالتاريخ ، أي إنها مرتبطة بمحددات موضوعية يتشابك فيها الاقتصادي والسياسي والمعرفي والعلمي الخ ...ولا علاقة لها بالمفاضلة بين الشعوب والأمم ، فقد كانت حدثا موضوعيا تهيأت لأوربا أسبابه ، وكانت له بواكيره العربية كما سبقت الإشارة.
و كان لذلك صداه ومفاعيله في أطراف الأرض المختلفة ، ومن هنا كونيته ، ولم يحدث ذلك سلما فقط وانما حربا أيضا، فقد كان للغزوات الاستعمارية تأثيرها في هذا المجال من حيث الصدمات التي أحدثتها الجيوش الغازية ، بنظمها وأفكارها وتقنياتها، لذلك هناك حديث عما فعلته حملة نابليون لاحقا في مصر و المصريين بالنسبة الى نشأة النهضة لدى العرب وهو ما سنعرض اليه بعد قليل .
واذا صح هذا أوربيا فإنه لا يصح عربيا الا جزئيا فقد ظلت النهضة لدى العرب مُتسربلة بالمقدس ، وفية للغزاة العثمانيين في جانب منها على الأقل ، مما يعني استمرارية العصر الوسيط فيها وتعايشه معها ، بل قد يكون ذلك العصر أرقى منها في بعض جوانبه التنويرية وبالأخص فلسفة وأدبا وسياسة، من حيث تملك ناصية العقل وروح النقد والاستقلال السياسي ( الكندي ، اخوان الصفا ، الفارابي ، ابن رشد ، المعري ، الجاحظ ، التوحيدي ، الدولة العباسية ، الدولة الموحدية ) ولكن هذا لا ينقص من قيمتها فقد كانت لها هي الأخرى محدداتها الموضوعية .
وقد راج التأريخ للنهضة عربيا بالصدمة التي أحدثتها الحملة الفرنسية على مصر أي تلك العملية العسكرية الواسعة التي قادها الجنرال نابليون بونابرت 9 عام 1798، بعد حوالي عقد فقط من اندلاع الثورة الفرنسية ، في توسع معلوم الأهداف من حيث خدمة الرأسمالية الفرنسية التي اجتازت بنجاح نهضتها وولجت حداثتها وأضحت عينها مشرئبه الى الآفاق بحثا عن الموارد والأسواق، في صراع مكشوف ليس فقط مع الشعوب النائمة على وسادة ماضيها التليد ، وانما أيضا مع الإنكليز الذين سبقوها الى الشرق المترامي الأطراف من بلاد العرب حتى الهند والصين، في الوقت الذي كانت فيه السيطرة العثمانية على البلاد العربية تتهاوي مقتربة من نهايتها بعد فقدان الرجل المريض كل أمل له في الحياة .
وبرغم أهمية تلك الصدمة فإنها لا تفسر لوحدها نشأة النهضة عربيا، إذ يتوجب أيضا الالتفات الى العوامل الداخلية في الاقتصاد والسياسة والثقافة الخ.. فقد كان لانتفاض المصريين غداة تلك الحملة ضد الحاكم العثماني خورشيد باشا سنة 1805 قيمته فقد نجح المنتفضون في طرده ليتولى محمد على باشا السلطة، وهو الذي يُنظر اليه باعتباره أول حاكم مصري ولاه الشعب السلطة ، ومعه ينفتح باب سيرورة تاريخية جديدة ، ليس فقط من تاريخ مصر وانما البلاد العربية وخاصة مشرقها 10، بما يذكر بمديح كارل ماركس له بالقول انه " الرجل الوحيد الذي كان قادراً على إحلال رأس حقيقي محل العمامة التركية الفخمة" 11وأن مصر في زمنه كانت "العنصر الحيوي الوحيد في الإمبراطورية العثمانية"12 بسعيه الى تحديث مصر عبر بناء صناعة و تحرير الفلاحين والحد من نفوذ الاقطاعيين وإدخال زراعة القطن وتوحيد السوق ونشر العلم وبناء المدارس و ارسال بعثات تعليمية الى أوربا ، وحروبه الجريئة ضد العثمانيين التي أوصلت قواته الى الأناضول وفتحت امامه الطريق الى اسطنبول 13، وتتمثل معضلته في أنه أثار رعب الدول الأوربية التي تحالفت ضده دعما للعثمانيين من جهة وأنه من جهة ثانية أنه لم يكن ثوريا وانما اصلاحيا ، فقد استند الى الأجهزة القديمة للدولة لإحداث تغيير من داخل البنى السائدة ففشل في النهاية .
وبالعودة الى ارسال البعثات الى أوربا لتعلم جديدها فقد برز منها اسم رفاعة رافع الطهطاوي 14( 1801 ـ 1873 ) الذي سيدشن تلك النهضة في الأفكار ومعه كتابه الأشهر تخليص الابريز في تلخيص باريز، وفي صلة به استيقاظ رغبة الأخذ عن الآخرين والاقتداء بهم ، على نحو يمكن القول معه إن ديالكتيك العلاقة بين أفكار الطهطاوي وأعمال محمد علي تفسر النهضة في مصر أو بعض من وجوهها على الأقل .
وغير بعيد عن ذلك زمنيا وجغرافيا كان أحمد باي في تونس ،الذي حكمها بين سنتي 1837 و1855 وهو من ألغى الرق سنة 1846 ، وفي كنفه عاش خير الدين التونسي (1820-1890) صاحب كتاب أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك 15، الذي ظل على ولائه للدولة العثمانية ، دون اغفال اصلاحاته مثل تأسيس المدرسة الصادقية ومكتبة العبدلية ومناداته بالحكم الدستوري . واللافت أنه مثله مثل الطهطاوي سافر الي باريس ولكن في مهمة غير علمية وانما سياسية في محاولة لاسترجال مال نهبه وهربه وزير سابق .
وقد كان خيرالدين التونسي 16 اصلاحيا توفيقيا أيضا ، موظفا بدوره القديم لبعث الجديد ، ولا شك أنه كان خاضعا للحظة التاريخية التي عاشها ، دون نسيان أن تلك اللحظة كان من بين ملامحها انتفاضة الفلاحين الفقراء بقيادة علي بن غذاهم الملقب بباي الشعب سنة 1864 ، الذي تحالفت ضده دول أوربية بما يذكر بالمثال المصري ، دعما للباي محمد الصادق ، وقد لزم خيرالدين إزاء تلك الانتفاضة الصمت وراح يتأملها منعزلا في بستانه بعد استقالته سنة 1862 وانقطاعه عن ممارسة الوظيفة السياسية حتى سنة 1869.
لقد انتهت تجربة محمد على باشا الى اخفاق تاريخي كما قلنا ، جراء عوامل شتى داخلية وخارجية توجتها اتفاقية كوتاهية سنة 1833،التي كانت بمثابة اعلان نهاية النهضة مصريا ، ولم يختلف الأمر كثيرا تونسيا فكانت النهاية المأساوية لانتفاضة الفلاحين مجسدة في مصير قائدها على بن غذاهم ، الذي توفي بعد اعتقاله بسنوات ثلاث في سجن كئيب يحيط به الماء من كل جانب على أطراف العاصمة تونس ، بينما عاثت قوات الباي المنتصرة بدعم أجنبي فسادا في طول البلاد وعرضها، سالخة جلود الفلاحين الفقراء والمتوسطين ، فقد كانت الانتفاضة التونسية في قلب تلك السيرورة التاريخية ، وبعدها بسنوات قليلة حلت الكولونيالية الفرنسية بكامل جبروتها لتدفن النهضة الوليدة تونسيا أيضا .
ورغم هذه الوقائع فقد كانت النهضة لدى العرب لحظة قطع وقطيعة بالمعني الابستمولوجي ، وإن جزئيا ، مع التقليد وهو ما ألمحنا اليه ، ومن ثمة وضع حجر الأساس لاستقلال الدولة عن الدين و العقل عن الوحي ، و المفارقة أنه كان هناك تقدم في الأفكار وفشل في الممارسة ، ومن هنا ذلك الانفصال الذي نتحدث عنه وهو الذي تواصل بعد ذلك و لن يتوارى عن الأنظار الا بتحقيق الوصل بين النهضة والثورة وتجسيد ذلك على مستوى العمل ، ومن هنا أهمية القراءة على ضوء المثالين التاريخيين السالفين : محمد على في مصر وأحمد باي في تونس عملا والطهطاوي وخير الدين التونسي نظرا.
وهذا معناه ارتباط النهضة بالثورة التي تنقل المجتمع من حال الى حال مختلف نوعيا / جوهريا فهي تغير جذري ، وقد عرفها الصينيون وهم في أوجها بأنها " ليست مأدبة عشاء ولا كتابة مقال ولا رسم صورة ولا تطريز ثوب ، فلا يمكن أن تكون بمثل تلك اللباقة والوداعة والرقة ، أو ذلك الهدوء واللطف والأدب والتسامح وضبط النفس ، ان الثورة انتفاضة وعمل عنف تلجأ اليه احدى الطبقات للإطاحة بطبقة أخرى ". 17
واذا كان مهما لفهم النهضة لدى العرب وتأصيلها بينهم العودة الى النهضويين السابقين فإنه لفهم الثورة وتأصيلها أيضا بينهم تجب العودة الى ثورات المسحوقين عبر الأزمنة العربية المتتالية ، والبحث ضمنها عما نجح منها وما فشل ، مثل استرجاع ثورات القرامطة و الزنج مشرقا وصاحب الحمار والموحدين مغربا على سبيل المثال، ومن هنا السؤال عن الثورة العربية الحديثة وهل حصلت حقا ؟ أم هي ثورة مجهضة مما جعل الحديث عن النهضة المجهضة مشروعا أيضا فالنهضة الفكرية والفنية والسياسية الخ... التي لا تتحول الى وقائع ملموسة هي نهضة مجهضة .ومن هنا أهمية النظر الى ما هو مجهض وفاشل ومهزوم على ضوء النصر والأمل والطموح والمستقبل .

مُعضلة تبحث عن حل .
ارتكازا على ما تقدم يمكننا تأكيد الوصل بين النهضة والثورة ، وما يفرضه ذلك من علاقة ديالكتيكية بينهما تستلزم المرور من النهضة الى الثورة ،ومن الثورة الى النهضة ، وأن هذا النوسان يمثل جوهر الارتباط بين النظرية والممارسة ، بين الفلسفة والواقع ، ومن شأن تلك الوحدة الديالكتيكية أن تمنح البراكسيس عربيا معناه . ولا يمكن حصول ذلك دون تنظيم قوى الطبقة والأمة وشحذها وتوحيدها فالتنظيم هو شكل التوسط بين النظرية والممارسة ( لوكاتش) 18 ودونه يظل الانفصال قائما بينهما.
تتطلب النهضة فهم الواقع الموضوعي فكرا لفتح السبيل أمام تغييره عملا ، و الواقع هنا يشمل الفكر نفسه والطبيعة والمجتمع ، فالأمر يتعلق كما بيناه بوحدة ديالكتيكية تكون الحرية رابطها باعتبارها وعيا لتلك الضرورة بالمعني الذي ذهب اليه فريد ريك أنجلس في اتفاق تام مع هيجل 19 واذا كان الواقع متحركا فإن الفكر يجب أن يتطابق معه والا تحول الى عقيدة مغلقة / دوغما فالمشاكل الجديدة تفترض أسئلة وحلولا جديدة و كما يقول كارل ماركس فإن " الإنسانية لا تضع أبدا أمامها الا المسائل التي تستطيع حلها ، اذ أنه يتضح دائما عند البحث عن كثب ، أن المسألة نفسها لا تبرز الا عندما تكون الشروط المادية لحلها موجودة ، أو على الأقل آخذة في التكون " 20 .ومن هنا استخلاص أنه لا نهضة دون ثورة ولا ثورة دون نهضة .
والملاحظ ان الثورة في الحالتين الأوربية غربا والصينية 21 شرقا صيرت النهضة واقعا ملموسا ، بينما ظلت النهضة لدى العرب كلاما أكثر منها وقائع غالبا ، جراء غياب الثورة التي لا تزال على جدول الأعمال فالنهضة تشمل النظر والعمل مجتمعين .
ومن ثمة ضرورة المرور من اصلاح العقل فلسفيا الى الثورة بمختلف أوجهها ممارسة، فلا قيمة لنهضة اذا ظلت فكرا تحويه بطون الكتب ولم تجد بالتالي طريقها الى التطبيق ،اذ ستكون وقتها وفي أفضل أحوالها صيحة في واد.
ومن هنا القول أنه عوضا عن الانشغال بتدبيج الكتب والمقالات والخطب عن النهضة وما جاورها بالمعنى الأيديولوجي الزائف يجب الاهتمام بالواقع الملموس الخاص بالعرب انفسهم والبحث فيه عن بذور النهضة 22 ، وادراك أولوية الواقع عن النظرية ، والبحث عن الحقيقة من خلال الوقائع نفسها والقطع مع الأفكار المسقطة من عل .
لقد فتح ذلك الإجهاض العملي لتجربة محمد على السبيل لإجهاض النهضة العربية كما قلنا حيث لعبت الكولونيالية دورها كاملا فكان احتلال الجزائر ومصر وتونس ، وما تبع ذلك من احتلالات أخرى، وأضحت البرجوازية العربية خادمة للاستعمار في نسختها الكومبرادورية بينما كانت البرجوازية الوطنية ضعيفة أو غائبة عن المسرح الاقتصادي السياسي ، مما حرم النهضة الفكرية من حاملها الاجتماعي ، وانتفى جراء ذلك التطابق بين النهضة فلسفيا والدولة سياسيا، وهو ما يصح على التنوير عامة في مختلف حقب التاريخ العربي 23 ، عدا استثناءات قليلة مثل الدولتين العباسية مشرقا والموحدية مغربا ، ومن هنا تعيين عائقين رئيسيين انتصبا مع لواحقهما في طريق تلك النهضة : الكولونيالية خارجا والكمبرادورية الاقتصادية والسياسية والثقافية ، فضلا عن الاقطاعية والبيروقراطية داخلا فغاب الاستقلال نظرا وعملا.
ومن ثمة كانت أزمة النهضة العربية ، التي ظلت معلقة وعندما جاءت الانقلابات العسكرية ، خاصة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي فإن ارتباطها بالنهضة ظل هامشيا . وما كان بإمكان "العسكرتاريا " انجاز مهام الثورة والنهضة رغم أنها ظلت تلوك شعاراتهما على مر سنوات حكمها ، الذي انتهى غالبا الى هزائم وظل ذلك الانفصال بين النهضة والثورة على حاله .
وبينما كانت الحداثة اوربيا تطويرا للنهضة وارتقاء الى مرحلة أعلى ، وقف العرب على تخوم النهضة التي ظلت جزئية في نسخة أقرب الى الإصلاح الديني ( الأفغاني / عبده / رشيد رضا ) ، وهو ما يعني أن العرب ولوجوا النهضة ولكنها سرعان ما وئدت ، والمفارقة أنهم مهدوا للنهضة كونيا وعندما ولدت لم يتعرفوا عليها ، وعندما حلت بينهم أنكروها أو أنهم اجبروا على ذلك الانكار . ومن هنا يجوز القول في صلة بالحداثة الكونية اللاحقة أن العرب لا يزالون حتى الآن خارج اطارها . وما نلحظه من استعمال للتقنيات المتطورة انما هو تحديث وليس حداثة .ومن ثمة الحاجة الى استعادة النهضة وفتح الأبواب أمام تحققها ، ووقتها تكون الحداثة العربية قد ولدت .
ومن هنا التساؤل : هل يجوز لنا القول استنادا الى ما تقدم أن الأمر يتعلق بنهضة زائفة؟ وأن " الافكار" التي ظهرت في حينه مدعية " نهضويتها "، أقرب الى الخراقة التاريخية منها الى الحقيقة ؟ وأنها لا تعدو أن تكون تكرارا لمظاهر الانحطاط واستمرارا لها ؟ وجوابنا هو بالنفي ، وكل جواب بنعم انما سيكون مسكونا بالعدمية فما عرفه العرب هو نهضة حقيقية ولكنها محدودة من حيث النشأة ، مجهضة من حيث المآل، دون نكران المساهمة العربية في النهضة الأوربية ، ومن ثمة الحذر من الدعوات العصروية داخليا والاستشراقية خارجيا ، التي لا ترى العرب الا وهم في " حذاء الغرب ". 24
و يقودنا هذا الى استنتاج مفاده ضرورة تجديد الفكر النهضوي لكي ينجز مهمته المؤجلة .وعملية التجديد هذه لا تعني التأليف بين التراث والتجديد 25 على نحو تلفيقي يلحق الضرر بهما معا ، ومن هنا تعديل البوصلة على آخر منتجات الفكر الإنساني أيضا فالعرب واقعيا يوجدون في العصر الذي نعيش وليسوا خارجه وهم يتأثرون به ، رغبوا في ذلك أم كرهوا وان كانوا ذاتيا من حيث المؤسسات السائدة خارجه ، أي انهم في العصر ولكن دون حداثة ، واذا أردوا الفعل فيه عليهم الاصغاء الى مشكلاته والكف عن إعادة انتاج القديم والعيش بضديده ففي ذلك انفصام تاريخي .
ولهذا الغرض يجب استعادة الفكر النهضوي بما فيه من ملامح ديمقراطية مناهضة للاستبداد ( الكواكبي ) ومن أجل الدستور 26( خير الدين التونسي ) وفي صالح العلم ( بطرس البستاني وشبلي شميل ) و العلمانية ( فرح أنطون ) و تحرر المرأة ( قاسم أمين ) .
لقد كانت النهضة العربية في أصلها ، من حيث بعض جوانبها استعادة للموروث العربي في جوانبه التنويرية ( الحوار بين محمد عبده وفرح أنطون حول ابن رشد مثلا ) ، وهذا عمل مهم فالنهضة تستلزم تلك العودة ولكنها أيضا تستوجب إعادة نظر في النظريات والمناهج والتعريفات والمفاهيم والاستنتاجات بالمعني الباشلاردي ، حيث يحضر الشعور بندم حقيقي ( غاستون باشلار ) كلما تعلق الأمر باكتشاف جديد لم ندركه سابقا ، وهنا يؤدي الديالكتيك دوره حيث لا يضحي التجاوز بمكاسب الماضي وانما يعززها ، أي ألا نظل في سجن تلك الاستعادة وانما تخطيها الى تجديد ذلك الفكر وتطويره ، والسؤال هو كيف ؟ تفترض الاستعادة هنا إعادة التأسيس والبناء على ضوء النظر في الذات و الموضوع نشدانا للتطابق بين النظرية والممارسة ، بما يجعل البراكسيس عملا في التاريخ ولأجله كما قلنا . أي التحلي بروح النهضة ذاتها من حيث هي تلك الولادة الجديدة والمتجددة فنكون إزاء نهضة في النهضة ، وهو ما يصح على الثورة أيضا فنكون إزاء ثورة في الثورة ، ومن ثمة إعادة التأسيس والبناء ابستمولوجيا ، من خلال المراجعات التحليلية النقدية الدائمة على ضوء الواقع في سيروراته المتعاقبة .
وقد تكون الاستعادة بحثا عن الأب، ضدا عن الانسلاخ و الانبتات، دونما ادعاء قتله من جهة ، ولكن أيضا دونما سكن في جبته من جهة ثانية ، مما يطرح على بساط البحث تلك العلاقة المتوترة مع التراث قريبه وبعيده على ضوء التاريخ والديالكتيك.
ولكن ما الهدف من إعادة النظر في فكر النهضة ؟ ، لماذا تطرح على جدول الأعمال مهمة تجديده ؟ ثم ما السبيل الى ذلك ؟ ما هو السهم الذي يتوجب الإمساك به لكي يدرك ذلك الهدف ؟ هنا تفصح تلك العلاقة الوثيقة بين النهضة والثورة عن ذاتها فالهدف هو الثورة والسهم هو النهضة في لحظتها الراهنة ، أي تلك التي أضحت مع ورثتها التاريخيين نهضة عليا مطابقة كما قلنا لمهام اللحظة الراهنة فالنهضة بناء يعلو مع التاريخ ويكبر وليست ركاما فوق ركام، انها بالمعني الابستمولوجي عمارة تبني طابقا فوق طابق، ومن هنا أهمية ربط الصلة بين أجيال النهضويين العرب في أمسهم ويومهم وغدهم ، في تنوعهم وتعددهم .
وفيما يخص الثورة فإنه لا وجود لثورة دون طبيعة/ سمة تحدد معالمها ، كما أنها ليست غاية في ذاتها ، وإنما هي كما ذكرنا عمل تاريخي يستهدف بدوره مهمة محددة ، وفي الواقع العربي الموسوم بالكولونيالية والتجزئة والاستغلال والاستبداد لا يمكنها الا أن تكون تحررية و وطنية وديمقراطية ووحدوية ، ومن هنا مركزية التحرر الوطني العربي الآن وهنا ، بما يفتح السبيل أمام تحقق ما يتبع ذلك من مهام تاريخية وما يفرضه ذلك من قطيعة مع الدولة والمجتمع القديمين 27
ومن ثمة أهمية الرجوع الى ذلك الفكر لتفسير الانكسارات والخيبات الحالية ، ولكن ذلك الرجوع لا قيمة له الا من حيث ارتباطه بالتطلع الى المستقبل ، حيث تؤدي فلسفة الأمل وظيفتها ، بما يمنح تلك العودة مشروعيتها ، حتى لا تكون مجرد تكرار و دوران في حلقة مفرغة ، دون الانتباه الى أن الحل خارج ذلك المجال . ومن هنا فإن المعضلة العربية ذات طبيعة مركبة ، فهي فكرية و سياسية و تنظيمية وعسكرية أيضا ، ونحن نرجح ان حلقتها الفكرية بوابة لغيرها من الحلقات الآن على الأقل ، ولكنه فكر نابع من إشكاليات الوقع نفسه كما تقدم قوله ، وهنا يفرض ذلك التجديد نفسه قطعا مع الانحطاط الذي ألمح سلامة موسى اليه بتأكيده أن " الذهن البشري نفسه قد انحط، فصار ينظر إلى الدنيا من زاوية العقيدة والمذهب، وأخذت العقائد مكان الآراء، والجزم مكان الشك والبحث" 28فتوجب اعمال سلاح النقد بالمعنى الماركسي الذي لا يُغني عن نقد السلاح ، بما يفيد التلازم بين النهضة والثورة .

خاتمة.
.
اذا رجعنا بنظرنا الى الوراء ، سواء تعلق الحال بأوربا أو بالعرب ، أمكننا ملاحظة أن الدين كان حاضرا في سيرورة النهضة بالسلب أو بالإيجاب ، ولكن اللافت للانتباه أن من حافظوا على الدين نهضويا في أوربا من خلال الإصلاح الديني جعلوا منه سبيلا ووسيلة لخدمة البشر ، لا غاية يموت البشر لتبقي هي من بعدهم حية الى الأبد ، وقد عبر القس توماس مونزر قائد ثورة الفلاحين 29عن ذلك في ألمانيا ، مثله مثل مواطنه لوثر، وهو ما غاب غالبا عربيا فالنهضويون العرب أو بعضهم على الأقل ظل تقليديا على هذا الصعيد والمثال الأبرز رشيد رضا في مرحلته المتأخرة ومن قبله الأفغاني وحتى محمد عبده فإنه بقي وفيا الى هذا التقليد 30، وهو ما يصح أيضا على صاحب ذلك السؤال الشهير لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ؟ ونعني شكيب أرسلان31
واذا كانت أوربا قد نهلت مما عقلي في الموروث اليوناني والروماني واتجهت في نفس الوقت الى تطويره في اتجاه العلمنة بمعانيها المتعددة لكي تبلغ العلمانية يكسر العين والعلمانية بفتحها فإنها اصطدمت مع المؤسستين الدينية و السياسية ، وأعلت من شأن العقل ضدا على التقليد والفرد المفكر ضدا على الطائفة والمذهب والعشيرة ، والحرية ضدا على الاستبداد ، والنقد ضدا على الطاعة والتسليم. وجاءت الثورات الديمقراطية لتمنحها قيمتها العمليه وتجسيداتها الواقعية ، من خلال شكل من الدولة متطابق مع تلك القيم والأفكار فعوضت الأرض السماء من حيث هي مصدر ذلك كله فتهاوت الأطر التقليدية للمعرفة والسياسة وغيرهما .
واذا كانت النهضة أوربية من حيث منشئها فإنها شقت طريقها الى غيرها من القارات بأشكال مختلفة وسط ترحيب ورفض، ولم يكن العرب غرباء عن ذلك المصير ، ويبدو أنه عندما ولج العرب نهضتهم كانت أوربا قد تركتها لتدخل حداثتها.
وفي ما يشبه واقع العرب كانت صرخة الصين يوم انتصارها الحديث على الكولونيالية :" لقد نهضنا " في تلميح الى تحذير نابليون العالم الأوربي بل العالم كله من التنين الصيني النائم : "عندما تستيقظ الصين سيرتجف العالم" , و ما كان لتلك المأثرة الصينية أن تتحقق لولا توفر جملة من الشروط الذاتية والموضوعية أبرزها أن الثورة لم تكن منحصرة في إقليم بعينيه وانما امتدت على كامل البر الصيني وأن أدواتها التنظيمية من حزب وجبهة وجيش شعبي كانت كذلك أيضا ، وعندما حاصرها أعداؤها محاولين تطويقها وابادتها كانت المسيرة الطويلة التي قطعت ما ينيف عن العشرة الاف كلم ، حيث تنقل الجنود الثوريون بين الجبال والسهول والأنهار وهم يقاومون لا العدو فقط وانما الطبيعة أيضا ، مُستنبطين تكتيكات عسكرية متناسبة مع واقعهم ،و كان عدد هؤلاء عند الانطلاق حوالي مائة الف، ولم يصل منهم الى الهدف غير ثمانية آلاف ، بينما غيرهم هلك ، ومثل المتبقون خميرة الثورة وشعلتها التي لم تنطفئ وهم الذين سيزداد عددهم مرة أخرى وصولا الى ملايين المقاتلين، قبل تحقيق النصر الذي اهتز له العالم في أكتوبر 1949. لقد كانت تلك لحظة توجت النهضة الصينية موصلة إياها الي قمة تجسيدها العملي . ولو قارنا ذلك بالتاريخ النهضوي العربي لقلنا إن ما يحتاجه لأجل اكتماله هو تلك اللحظة بالذات . وقياسا عليه فإن التنين العربي نائم الآن أيضا ، وربما ساهم تجديد فكره النهضوي في تقريب ساعة نهوضه أي ثورته الظافرة ووقتها سيرقص العالم .

الحواشي.
البادئة هي المرادف العربي للفظ الفرنسي : Préfixe
2 عرف سلامة موسي القرون الوسطي بدقة عندما قال : " تطلق عبارة «القرون الوسطى» على فترة من الزمن تبلغ نحو ألف سنة، تبتدئ من سقوط الدولة الرومانية الغربية سنة ٤٧٦ على يد الجرمان، وتنتهي بسقوط الدولة الرومانية الشرقية سنة ١٤٥٣ على يد الأتراك، وبديهي أن هذا التحديد بالسنوات هو اصطلاح تاريخي فقط، وإلا فإن الواقع يثبت أن بذور القرون الوسطى ظهرت في الدولة الرومانية منذ القرن الأول للمسيح، كما أن هذه القرون لم تنته بسقوط القسطنطينية. ولكي ندرك مدى الرقي الذي يتمثل في النهضة أو النهضات الأوروبية يجب أن نعرف عمق الانحطاط الذي سبق هذا الرقي. أي يجب أن نعرف الهاوية التي هوى إليها الفكر البشري في القرون الوسطى. والقرون الوسطى غير «القرون المظلمة» وإن كان كثريون يطابقون بينهما، والمعول عليه الآن أن تطلق صفة الظلام على السني الخمسمائة الأولى، أي: من سنة ٤٧٦ إلى سنة ٩٧٦؛ لأن هذه الفترة كانت في أوروبا فترة الركود الفكري، أما بعد ذلك فإننا نجد بوادر النهضة وبواكيرها " سلامة موسى ، ما هي النهضة ؟ القاهرة ، مؤسسة هنداوي ، 2012، ص 11.
3 تتضمن مقدمة ابن خلدون بوجه خاص محاولة لتقديم فهم موضوعي للتاريخ باعتباره خاضعا لقوانين موضوعية .
4 ماركس/ أنجلس ، البيان الشيوعي ، موسكو 1974 ، دار التقدم ، ص 42.
5 الإدريسي ( أبو عبد الله ) عاش خلال القرن الثاني عشر الميلادي ، هاجر الى بلاط الملك النورماني روجر الثاني بصقلية بعد طرد العرب منها ، وكان ذلك الملك محبا لعلم وأهله ويجيد الحديث بعدد من اللغات ومنها العربية وقد شجع الادريسي على القيام بأبحاثه . شرح الإدريسي للملك موقع الأرض في الكون مستخدمًا بيضة ترمز الى الأرض وما يحيط بها .
6 استمر الوجود العربي في جزيرة صقلية ما يربو عن قرن ونصف وقبل ذلك تتالت الغزوات على مدى زمني ينيف عن القرنين ، ومن بين المدن التي احتلها العرب باليرومو عاصمة الجزيرة .
7 فرويد ( سيغموند )، صعوبة أمام التحليل النفسي ضمن:
https://www.psychaanalyse.com/pdf/une_difficulte_de_la_psychanalyse_

8 أنظر مقدمة الياس مرقص لكتاب : ارنست بلوخ، فلسفه عصر النهضة ، بيروت ، دار الحقيقة، 1980 ص 9.
9 يمكن مقارنة الصدمة العربية بالصدمة الصينية فقد أحدث الغزو الإنكليزي تقريبا الأثر نفسه ، وهوما يشير اليه كارل ماركس بقوله :" أيا كانت الأسباب الاجتماعية التي استثارت الانتفاضات المزمنة المتواصلة في الصين منذ نحو عشر سنوات التي تحولت الآن الى ثورة جبارة واحدة ، وأيا كان الشكل الذي تجلت به هذه الأسباب ـ دينيا أم سلاليا أم قوميا ــ فلا ريب أن الدفعة التي أحدثت هذا الانفجار قد أعطتها المدافع الانجليزية التي أجبرت إنجلترا بها الصين على استيراد المادة المخدرة المسماة بالأفيون " ماركس ، الثورة في الصين وفي أوربا ، ضمن : ماركس / أنجلس ، في الاستعمار ، ، موسكو ، دار التقدم ، دون تاريخ ، ص 11 ، مشيرا الى مفارقة لافتة بقوله : " يمكن الظن أن التاريخ اقتضى في البدء تخدير شعب برمته لكي يغدو من الممكن ايقاظه من ذهوله المزمن " المصدر نفسه ص 12. دون نسيان الفارق بين الحالتين الصينية والعربية من حيث النتائج والمآلات.
10 يقول محمد عزة دروزة :" وفي تشرين من عام 1831 م ، 1247 هـ ، بدأت حركة محمد على باشا ضد الدولة العثمانية ، وكانت متمثلة بالحملة العسكرية التي سيرها برا وبحرا نحو بلاد الشام بقيادة ابنه إبراهيم باشا " محمد عزة دروزة، العرب والعروبة في حقبة التغلب التركي من القرن الثالث الى القرن الرابع عشر الهجري ، المجلد الأول ، ،بيروت / صيدا ، المكتبة العصرية ، الطبعة الثانية ، دون تاريخ ، ص 208، مبينا أن غاية محمد على كانت توحيد مصر وبلاد الشام وفرض استقلالهما عن الدولة العثمانية ، وان تلك ليست المحاولة الوحيدة فقد سبقتها محاولة أخرى لنقرأ ما قاله : " وهكذا تتكرر حركة مصر الهادفة الى سلخ مصر والشام عن الدولة العثمانية وإقامة دولة مستقلة متحدة جديدة فيهما خلال نصف قرن ، حيث كانت الحركة الأولى بزعامة علي بك أحد أمراء المماليك ، بالتعاون مع الشيخ ضاهر العمر حاكم شمال فلسطين، والحركة الثانية بزعامة محمد علي باشا والي مصر، بالتعاون مع الأمير بشير الشهابي الثاني حاكم لبنان " المصدر نفسه ، ص 209.
11
Marx, The Russo-Turkish Difficulty. Ducking and Dodging of The British Cabinet. Nesselrode s Last Note (12 July 1853). Marx/ Engels Collected Works, vol. 12, p. 195.
12 كارل ماركس ، المصدر نفسه .
13 يرى أنور عبد الملك أن دولة محمد على كانت أول دولة وطنية عربية تم تأسيسها ، محددا في علاقة بذلك الأسئلة التي على الفكر العربي الإجابة عليها بقوله : " يدلنا التاريخ المقارن لمختلف الدوائر التكوينية لأمتنا العربية .... أن تكون الفكر العربي بوجه عام ، والفكر السياسي العربي بوجه خاص منذ مطلع عصر النهضة ، أي ابتداء من إعادة تكون أول دولة وطنية مستقلة على أرض عربية بعد أجيال من الانحدار ، وهي دولة محمد علي التي أسست في عام 1805 في قاهرة المعز ، كان عليه أن يجيب على سؤال مزدوج ، على سؤالين هما في الواقع وجهان لسؤال واحد : لم الانحدار ؟ وكيف النهضة ؟ " أنور عبد الملك ، " ريح الشرق : دور التكامل الحضاري بين القومية العربية والإسلام في صياغة عالم جديد " ، ضمن : القومية العربية والإسلام ، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربة ، بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية 1982 ، ص 575.
14 الطهطاوي ( رفاعة رافع ) / تخليص الابريز في تلخيص باريز ، القاهرة ، مؤسسة هنداوي ، 2010.
15 فضلا عن الكتب التي أشرنا اليها في هذا المقال هناك مجلات وصحف صدرت في نفس الوقت وهي حافلة بالنصوص والمناظرات حول قضايا النهضة ومنها مجلة الحاضرة في تونس ، والعروة الوثقى والجامعة والمنار في القاهرة الخ ..
16 التونسي ( خيرالدين ) أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ، القاهرة ، مؤسسة هنداوي ، 2022.
17 ماوتسي تونغ ، تقرير عن حركة الفلاحين في خونان ، ضمن :مؤلفات ماوتسي تونغ المختارة ، المجلد الأول ، دار النشر باللغات الأجنبية ، بكين ، 1977، الطبعة الثانية ، ص 37.
18 لوكاتش ( جورج ) ، ملاحظات منهجية حول مسألة التنظيم ، ضمن : في التنظيم الثوري ، تعريب وتقديم جورج طرابيشي ، بيروت ، دار الطليعة ، الطبعة الثالثة 1972، ص 25.
19 يقول فريدريك أنجلس : " إن هيجل هو أول من صور بشكل صائب التناسب بين الحرية والضرورة فالحرية بالنسبة له هي معرفة الضرورة " ، أنظر : أنجلس، ضد دوهرنغ ، ثورة السيد أوجين دوهرنغ في العلوم ، ترجمة محمد الجندي وخيري الضامن ، موسكو ، دار التقدم، 1984 ، ص 133.
20 ماركس ، مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي ، ضمن : ماركس / أنجلس ، مختارات، الجزء الثاني ، ترجمة الياس شاهين ، موسكو ، دار التقدم ، 1977، ص 8.
21 أسقطت هنا الحديث عن النهضة في اليابان باعتبارها تقترب كثيرا من الحالة الأوربية من حيث طابعها الاجتماعي وهناك كتاب مهم يعالج تلك المسألة ، أنظر : علي المحجوبي ، النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر - لماذا فشلت بمصر وتونس ونجحت باليابان؟ تونس ، سراس للنشر, مركز النشر الجامعي, 1999.
22بلقزيز( عبد الاله ) ، من النهضة الى الحداثة ( 2 )، بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الثالثة ، 2020.
23 فريد العليبي ، " معضلة التنوير العربي" ، مجلة الامارات الثقافية ، العدد 79. الامارات العربية المتحدة 2019.
24 تزيني ( طيب ) ، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى المرحلة المعاصرة ، الجزء الأول : من التراث الى الثورة ، دمشق ، دار دمشق/ بيروت دار الجيل، حيث نقرأ ما يلي في توصيف ملمح أساسي من ملامح ما يسميه تزيني العصروية : " رفض " الماضي " العربي الفكري ، وامتداده حتى المرحلة القائمة أي الفكر العربي في صيغتيه التاريخية والتراثية ، وذلك انطلاقا من الاعتقاد بأنه يشكل أحد المعوقات الكبيرة على طريق عملية التحديث تلك . وهم اذ اختطوا هذا الطريق فقد وصلوا الى مجاهل " الزمن الفذ " الحاضر . وينبغي هنا الاستدراك بأن المقصود بذلك الحاضر ، من حيث التوجه الأساسي لم يكن الحاضر " العربي " بقدر ما كان مجسدا بـ " الأوربي " ص 320 .
25 حنفي ( حسن )، التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم، مؤسسة هنداوي ، القاهرة ، 2019.
26 ينظر الى تونس باعتبارها أول بلد عربي أصدر دستورا خلال عصر النهضة وتحديدا سنة 1861 ولكن ذلك الدستور لم يكن صدوره بمنأى عن الضغوط الخارجية ، خاصة من قبل فرنسا وبريطانيا ، وقد تم تعليق العمل به خلال انتفاضة 1864 . والأهم فيه الحد من سلطة الباي المطلقة فقد نص فصله الحادي عشر على أنّ «الملك مسؤول في تصرفاته أمام المجلس الأكبر إن خالف القانون».
27 يرى يا سين الحافظ أن هزيمة العرب مركبة فهي ليست فقط هزيمة الدولة و انما هزيمة المجتمع أيضا ، أي انها لم تكن هزيمة عسكرية كما يروج غالبا ، بل كذلك هزيمة مجتمعية تتعلق بالحضارة في شتى مظاهرها ، ومنها موقع المرأة في المجتمع والوعي السائد فيه ومنزلة العلم والسياسة فهو مجتمع متأخر ومفوت ، يبحث عن حلول لمشكلات الحاضر في الماضي البعيد بينما يضرب صفحا عن المستقبل . أنظر : ياسين الحافظ ، الهزيمة والايديولوجيا المهزومة ، بيروت ، معهد الانماء العربي ، 1991.
28 سلامة موسى ، ما هي النهضة ؟ القاهرة ، مصدر سابق، ص 27 .
29 فريد ريك أنجلس، حرب الفلاحين في المانيا ، تعريب محمد أبو خضور ، دمشق، دار دمشق ، دون تاريخ .
30 أنظر على سبيل الذكر الخصومة بين فرح أنطون من جهة ومحمد عبده ورشيد رضا من جهة أخرى حول فلسفة ابن رشد ضمن : فرح أنطون ، ابن رشد وفلسفته ، تقديم طيب تزيني ، بيروت ، دار الفارابي ، 1988.
31 أرسلان ( شكيب ) ، لماذا تأخر المسلمون ؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ القاهرة ، مؤسسة هنداوي ، 2012. وقبل أرسلان كان عبد الله النديم قد سأل السؤال نفسه تقريبا : بم تقدم الاوربيون وتأخرنا والخلق واحد ؟ وهو عنوان كتاب بدأ نشره على حلقات في المجلة التي كان مشرفا عليها وعنوانها " الأستاذ" ،أنظر عبد الله النديم ، بم تقدم الأوربيون وتأخرنا ؟ تحقيق وتقديم محمد عمارة ، القاهرة ، دار البشير للثقافة والعلوم ، 2016.