التفاعل بين الهندسة المعمارية وأنطولوجيا الفضاء حسب مارتن هيدجر


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 8108 - 2024 / 9 / 22 - 22:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

مقدمة
إن التعبير المتطور بين الفلسفة الأنطولوجية للمكان والهندسة المعمارية، والذي يمتد عبر العصور، يجسد تفكيرًا ممتعًا. في قلب هذا التعايش الفكري بين نمطين معرفيين متباعدين ظاهريا، يبرز مارتن هيدجر(1889-1976) ، الذي يدقق فكره الميتافيزيقي في تعرجات الفضاء الدقيقة. تم إعداد هذه المقالة بهدف استكشاف الأنطولوجيا المكانية الهيدجرية بحدة متزايدة، وسبر التداعيات الملموسة لهذا الاستكشاف في منطقة الهندسة المعمارية الشاسعة. كما تتشابك أنطولوجيا هيدجر الأساسية حول الفضاء مع الدقة المفاهيمية، حيث يكتسب كل بعد معنى وجوديًا. يتجاوز منهجه الإطار المادي البسيط لاختراق الطبقات الميتافيزيقية التي تشكل فهمنا للبيئة المبنية. يقوم هيدجر، من خلال نشر تفسير دقيق، بتشريح جوهر الفضاء، وكشف عن نشأته داخل الحالة الإنسانية. في هذا التحليل، من المناسب استكشاف الفوارق الوجودية الدقيقة التي تنبثق من تصور هيدجر للفضاء. كيف يتردد صدى مفاهيم "الدازاين" و"العالم" ليشكل لوحة فنية تصبح فيها الهندسة المعمارية تعبيراً ملموساً عن الوجود الإنساني؟
من خلال التدقيق في النصوص الهيدجرية بنظرة نقدية، من الممكن تسليط الضوء على العناصر الأساسية التي تكمن وراء هذا التفاعل بين الفكر الفلسفي والممارسة المعمارية. لا تقتصر مضامين هذا الوجود للفضاء على التأمل المجرد. إنها تظهر بشكل ملموس في تصميم وتجسيد المساحات المبنية. كيف يمكن للمصمم، المشبع بالمنظور الهيدجري، أن يترجم هذا الفهم الميتافيزيقي إلى أشكال وخطوط وأحجام معمارية؟ يوفر هذا النقل للأنطولوجيا الهيدجرية إلى لغة الهندسة المعمارية أرضًا خصبة لاستكشاف التقاطعات بين النظرية والممارسة، بين الفكر المجرد والتجسيد الملموس. تهدف هذه المقالة إلى تعميق فهم التفاعل بين فلسفة هيدجر والهندسة المعمارية، من خلال دراسة أنطولوجيا الفضاء التي يطورها. من خلال تشريح التعقيدات المفاهيمية ودراسة تداعيات هذا التفكير، نحن قادرون على فهم الجوهر الأعمق للعلاقة بين التفكير الفلسفي والإبداع المعماري.
1. هيدجر والوجود في العالم
أثر مارتن هيدجر، الفيلسوف الألماني في القرن العشرين، تأثيرًا عميقًا على الفكر الفلسفي من خلال تطوير رؤيته الفريدة للحالة الإنسانية، والتي صاغها من خلال منظور الوجود في العالم. لقد رأى هيدجر أن الوجود الإنساني ليس مجرد حضور منعزل، بل هو انغماس كلي وديناميكي في العالم من حولنا.
في سياق الهندسة المعمارية، يشير تطبيق فلسفة هيدجر إلى إعادة تقييم كيفية فهمنا للفضاء. بدلاً من اعتباره مجرد حاوية خاملة، يحثنا هيدجر على إدراك الفضاء باعتباره بُعدًا أساسيًا لوجودنا، وهو الإطار الذي تتكشف فيه علاقتنا مع العالم وتكشف عن نفسها. ومن هذا المنظور، لم تعد الهندسة المعمارية مجرد ترتيب للأشكال والهياكل المادية، ولكنها أصبحت الوسيلة التي من خلالها يأخذ تفاعلنا مع العالم معنى عميقا. الفضاء المعماري ليس لوحة محايدة، بل هو المكان الذي يتم فيه الكشف عن كياننا ونشره. ويصبح مجالاً للخبرة يبرز فيه الوعي الذاتي من خلال التفاعل الديناميكي بين الإنسان وبيئته المكانية. وهكذا يدعونا هيدجر إلى تجاوز المفهوم التقليدي للهندسة المعمارية باعتبارها غلافًا ماديًا بسيطًا والاعتراف بدورها الأساسي في تشكيل هويتنا وفهمنا للعالم. يصبح الفضاء المعماري، من هذا المنظور، مسرح الوجود الإنساني، مكانًا ينكشف فيه معنى وعمق وجودنا من خلال الانغماس الأصيل في العالم من حولنا.
ثانيا. معنى الفضاء عند هيدجر
وفقًا لهيدجر، فإن تناول الفضاء يتجاوز وصفه البسيط باعتباره امتدادًا هندسيًا. إنه يقدم منظورًا مبتكرًا من خلال اعتبار الفضاء المكان المميز الذي يتكشف فيه الوجود الإنساني ويكشف عن نفسه. بالنسبة إلى هيدجر، الفضاء ليس مجرد لوحة محايدة تقع فيها الأحداث، بل هو إطار أساسي يدخل فيه الإنسان في تفاعل ديناميكي مع بيئته. في هذا السياق الفلسفي، يقدم هيدجر مفهوم «المكان» ليصور جوهر هذا التفاعل. يتجاوز هذا المصطلح التحديد المادي البسيط للمكان، وبدلاً من ذلك يشمل الطريقة التي ينخرط بها البشر ويتفاعلون ويفهمون وجودهم داخل هذا الفضاء المحدد. وهكذا يصبح المكان شاهداً فاعلاً على تجليات الحياة الإنسانية، ومسرحاً تجري فيه التجربة الأنطولوجية. ومن خلال تطبيق هذه الرؤية على الهندسة المعمارية، يتجاوزها هيدجر إلى ما هو أبعد من البناء المادي البسيط. كما تصبح الهندسة المعمارية، بمعناها العميق، مكانًا، مساحة مشحونة بالمعنى، قادرة على التأثير على الطريقة التي نفهم بها وجودنا ونعيشه. وهكذا تصبح الهندسة المعمارية وسيطاً بين الإنسان والعالم، لا تشكل البيئة المادية فحسب، بل تشكل أيضاً فهم الإنسان لنفسه ومكانته في العالم. وتصبح لغة مكانية تتواصل مع الوجود الإنساني، وتسامح الاعتبارات الجمالية البسيطة لتصبح مظهرًا للحالة الإنسانية نفسها. وفقا لهيدجر، الهندسة المعمارية ليست مجرد بناء، بل هي المكان الذي يعطي الشكل والعمق لتجربتنا في العالم.
ثالثا. العمارة باعتبارها كشف عن الوجود
في الفكر الهيدجري، تتجاوز الهندسة المعمارية وظيفتها النفعية البسيطة لتصبح المكان المميز الذي يتم فيه الكشف عن الوجود من خلال وساطة خاصة بين الإنسان وبيئته. عندما يتحدث هيدجر عن الهندسة المعمارية باعتبارها " الكشف عن الوجود "، فهو يسلط الضوء على حقيقة أن المساحات المبنية لا تقتصر على مظهرها المادي أو فائدتها العملية، ولكنها تعمل كبوابات لفهم أعمق للوجود الإنساني. ومن هذا المنظور، تصبح تجربة الفضاء المعماري مشروعًا فينومينولوجيا حيث يتلامس الراصد، من خلال دخوله إلى هذا الفضاء، مع حقيقة كيانه. العناصر المعمارية مثل ترتيب الأشكال، واستخدام المواد، والأضواء والظلال، كل هذه العناصر تجتمع لتخلق جواً يتجاوز الوظيفة البسيطة ليصل إلى البعد العميق الأنطولوجي. المباني، بعيدًا عن كونها أشياء مادية بسيطة، يتم اعتبارها وسطاء. إنها تلعب دور الميسرين في العلاقة بين الإنسان وبيئته، وتعمل كواجهات يلتقي فيها الواقع والوجود. وهكذا تصبح العمارة الوسيلة التي من خلالها تتجلى حقيقة الوجود ويتم توصيلها بطريقة ملموسة. بالنسبة للمصمم، تتضمن هذه الوساطة لحقيقة الوجود فهمًا للمبادئ الأنطولوجية التي تكمن وراء الوجود الإنساني. لم يعد التصميم المكاني يقتصر على حل عملي بسيط للمشكلات، بل أصبح استكشافًا ميتافيزيقيًا حيث يتم توجيه كل قرار، سواء كان اختيار المواد أو التكوين المكاني أو الجماليات، نحو الكشف عن الحقيقة الأساسية للوجود. يصبح البناء وسيطًا نشطًا، يترجم الحقيقة الأنطولوجية إلى أشكال مبنية. تتضمن هذه العملية الإبداعية وعيًا حادًا بالمسؤولية الأخلاقية والمعنوية كوسيط لحقيقة الوجود. يصبح تصميم الفضاء مسعى وجوديًا، واستكشافًا عميقًا للحالة الإنسانية التي لا يقدم المصمم من خلالها الهياكل المادية فحسب، بل يقدم أيضًا تجارب تكشف ماهية وجودنا.
رابعا. التأثير على الممارسة المعمارية
تتخلل أنطولوجيا هيدجر للفضاء الممارسة المعمارية من خلال دعوتنا إلى تسامي المفهوم التقليدي للبناء لصالح نهج حيث يكون كل عنصر مكاني مشحونًا بمعاني وجودية. يقلب هذا المنظور الجديد جذريًا فكرة أن الهياكل المعمارية هي مجرد استجابات عملية للاحتياجات الوظيفية، مما يرفعها إلى مرتبة وسطاء حقيقة الوجود. وهكذا يشجع هيدجر المصممين على اعتبار كل تفاصيل التصميم المعماري فرصة للكشف عن الجوهر الأساسي للوجود الإنساني. ويتطلب هذا المنهج فهم الدلالات الأنطولوجية المرتبطة بكل اختيار، سواء من حيث المواد أو الأشكال أو النسب أو التوجه المكاني. ومع أخذ ذلك في الاعتبار، تصبح عملية التصميم بمثابة استكشاف دقيق للأبعاد الوجودية، حيث يتم اختيار كل عنصر معماري بعناية لقدرته على المساهمة في وساطة حقيقة الوجود. وهكذا يصبح البناؤون مترجمين لأنطولوجيا الفضاء، ويترجمون أفكار هيدجر من الناحية المفاهيمية إلى خيارات ملموسة تؤثر على كيفية تجربة الأفراد لبيئتهم المبنية. يصبح المعنى الوجودي للفضاء خيطًا مشتركًا، لا يملي الترتيب المادي للعناصر المعمارية فحسب، بل أيضًا الطريقة التي يخترق بها الضوء الفضاء، مما يخلق مسرحيات للضوء والظل تساهم في الكشف عن الكينونة. كل خيار جمالي ومفاهيمي مشحون بالمقاصد الأنطولوجية، مما يحول فعل التصميم إلى مسعى فني وفلسفي. يتطلب هذا المنهج أيضًا التفكير المستمر في المسؤولية الأخلاقية كوسيط لحقيقة الوجود. لم تعد القرارات المتخذة عند تصميم المساحة مجرد اختيارات جمالية أو وظيفية، بل هي إجراءات تؤثر بشكل عميق على الطريقة التي يتفاعل بها شاغلوها مع بيئتهم، وبالتالي تشكيل فهمهم للوجود. إن أنطولوجيا هيدجر للفضاء ترفع الممارسة المعمارية إلى البعد الميتافيزيقي، وتدعو المصممين إلى أن يصبحوا حرفيين في الكشف عن الوجود من خلال كل تفاصيل إبداعاتهم. كما يصبح كل عنصر مكاني قطعة من اللغز الأنطولوجي ، مما يساهم في تجربة معمارية تتجاوز مجرد الوظيفة لتصل إلى أعماق الفهم البشري.
خاتمة
يكشف تعميق أنطولوجيا هيدجر عن الفضاء عن منظور فريد حول التفاعل بين الميتافيزيقا والهندسة المعمارية. إن المساحات المعمارية، بعيدًا عن كونها هياكل مادية بسيطة، تتكشف ككشف ماهوي عن وجودنا. إن فهم هذا البعد الميتافيزيقي يتجاوز المفهوم التقليدي للمساحات، مما يدفع الهندسة المعمارية إلى ما وراء الحدود المادية للوصول إلى عمق فلسفي لا مثيل له. يحثنا هيدجر على إدراك أن الهندسة المعمارية، بعيدًا عن كونها محصورة في وظيفة نفعية، تطرح نفسها كمتجه يسمح لنا باستكشاف هاوية وجودنا في العالم. إن معنى المساحات المعمارية، عندما يُفهم من خلال المنظور الهيدجري، يتجاوز الحدود المادية ليتعمق في تقلبات الفلسفة الوجودية. ومن خلال دمج هذا المنهج الأنطولوجي في التصميم المعماري، فإننا نرفع مستوى عملية البناء البسيطة للوصول إلى نوع من التعبير الفني الوجودي. وبذلك يصبح المصمم وسيطًا، حيث يخلق بيئات تكشف عن أعمق طبقات الوجود الإنساني. كما تصبح كل مساحة بمثابة دعوة لاستكشاف جوهرنا، لعبور حدود المادية لتحقيق فهم أكثر ثراءً ودقة لواقعنا. تكشف هذه المقالة، وهي دراسة متعمقة لأنطولوجيا هيدجر عن الفضاء، عن بُعد في الهندسة المعمارية يتجاوز البناء المادي البسيط. إنها توفر طريقة لتجاوز الحالات الطارئة المادية للوصول إلى البعد الميتافيزيقي، وبالتالي تحويل عملية تصميم المساحات إلى مسعى فلسفي غني. هذا الاثراء الانطولوجي للعلوم الذي وفره هيدجر ألا يعيد الاعتبار من جديد للفلسفة ويجعلها ملكة العلوم على حد عبارة أدموند هوسرل؟
كاتب فلسفي