دم بشت آشان*
كاظم الموسوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7254 - 2022 / 5 / 20 - 00:43
المحور:
سيرة ذاتية
الى امهات الجنود الذين قتلوا
لا … انهم ليسوا باموات
انهم منتصبون وسط البارود
منتصبون كذبالات القناديل المضطربة
وظلالهم النقية ممتزجة بالمرج الفضي
كستارة مصفحة من هواء
كسد من لون رهيب.
….
,,,,
اخلعن اردية الحداد، اخلعنها
ووحدن دموعكن حتى تغدو فولاذا.
فهناك سنضرب ليل نهار
الى ان تندك ابواب الضغينة وتنهار!.
لن انسى الاماكن، فانا اعرف ابناءكن
واعتز بهم احياءا واعتز بهم امواتا.
بابلو نيرودا
انذار .. تهيؤ.. استعدادات.. حرب تشن على فصائل الحزب الشيوعي العراقي، القنابل تتساقط على المقرات واصواتها تمر فوق الرؤوس.. هل هو هجوم حكومي؟ وكيف لم يعرف ويحضر له من قبل، هل هي مفاجأة ومباغتة العدو؟ …. لا … انهم قوات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يتزعمه جلال الطالباني، الحليف الاستراتيجي الذي لم يجف بعد حبر الاتفاق الاستراتيجي بينه وبين قيادة الحزب، والذي اعلن قبل ايام ومن ضمن التحضيرات المشتركة لاحتفالات الاول من ايار. قذائف مدفعية اولا وانفجارات هنا … وهناك.. تتوالى، قريبا من مقرات الحزب، او داخلها كما حصل في مقر الفصيل الاداري.! هجوم غادر ودون انذار.
اجتمع المكتب العسكري للحزب وقرر الدفاع عن المقرات، ومن بين قراراته تامين انسحاب بعض قيادة الحزب والرفاق والرفيقات والمرضى ورفاق حماية لهم وادلاء فورا الى مواقع اخرى في الطرف الاخر من جبل قنديل، لحمايتهم من اسوء الاحتمالات. خاصة اذا تم اجتياح مقراتنا، وقبل وصول اخبار عن قيام المهاجمين فعلا باجتياحات لمقرات لنا، متقدمة من مقراتنا المركزية، وصورة الهجوم تقول بذلك، فالقصف المدفعي استمر ولم يتوقف، كما حصل في مرات سابقة، ومن قرارات المكتب العسكري، حسب التخطيط والادارة العسكرية وفهم الهجوم، نقل اربعة رشاشات دوشكا كانت ابرز وسائل حمايتنا من العدو، الى قمم الجبال لرد هجوم بالطائرات سياتي بعد قصف المدافع، هكذا هو مخطط كل هجوم عسكري، كما صرح القائد العسكري للحزب. ومن بين الخطط العسكرية وضع خطوط حماية وانذار مبكر، وتوزيع الرفاق عليها، وكنت ضمن خط الحماية الاول على مرتفع قريب من جهة الداخل، ومن مقرات الاحزاب الاخرى، بما فيها حزب الاتحاد الوطني، الذي كان يشن الهجوم بالتعاون والتنسيق مع قوات حكومية متقدمة على مقراتنا لتنظيف المنطقة من حركة الانصار والبيشمركة.
بدا الهجوم ليلة الاول من ايار، كل الاستعدات شبه منتهية ومتكاملة للاحتفال. وظلت الاستعدادات مرتبكة نفسيا وعمليا وفنيا. تاجل الاحتفال طبعا وبدات التحركات الدفاعية وخطط المكتب العسكري. وتحركت فجرا اول قافلة، من قيادات الحزب وكوادره ومرضاه ورفيقاته، اكثر من مائة وعشرين رفيقا ورفيقة، وكالعادة يحاول القادة الكرد التدخل بالقرارات والاوامر ويرضخ لهم الحماية والادلاء، فقاد مسيرة المنسحبين احدهم مما دفع به الى الذهاب برجله الى مقرات ونقاط هجوم وكمائن منسقة من قوات الاتحاد الوطني،حيث وقع الفصيل باسرهم ولم نسمع عنه شيئا، مما زاد قلقنا عليه طيلة اليوم الاول والثاني والثالث من ايار، وكان المفروض اعادة خبر في اليوم التالي، حيث يستغرق الوقت لوصولهم الى مقر امن في الجانب الثاني من جبال قنديل. وبين متاعب السهر والحراسات ورد العدوان باطلاق ما يناسب من اطلاقات باتجاه النار الذي يتوجه الى فصائلنا ولا نعرف طبعا مدى الاصابة والتاثير على "العدو"!، ولكن كانت معنويات ما تبقى من الانصار عالية ومندفعة للتصدي ورد الصاع صاعين. وفي نفس الوقت نرى انسحابات الفصائل الاخرى من الاحزاب المجاورة لنا بسرعة وهي تتجه صوب جبل قنديل، او الحدود الايرانية، هاربة من شدة النيران والهجوم الغادر، ولا نعلم اين اسلحتها وكيف تقاتل اذا هاجمتها القوات الحكومية باسلحتها المعروفة؟ وتواترت الاخبار عن سقوط مقرات لنا وللاحزاب الصديقة بيد "العدو"!..
في اليوم الثاني اصاب "العدو" موقعا للدوشكا ودمره واستشهد رفيق واصيب اخر, ركضت رفيقة قريبة من الموقع الى المقر صارخة بصوتها المتميز معلنة استشهاد الرفيق وتطلب المساعدة ونجدة المصاب، الذي استشهد هو الاخر بعد ساعات. تعمدت المعركة بالدم، وطليت مقرات الحزب الشيوعي ومكتبه العسكري بدم الرفاق العرب من الانصار. والهجوم مستمر، لم يتوقف ساعة، والنيران تسمع قريبة واحيانا يشاهد وميضها من بين اشجار الوديان او سفوح الجبال المحيطة بالمقرات. ردا على تقارير المعركة اليومية قرر المكتب العسكري ان يغادر عدد اخر من الانصار، من بينهم بعض الجرحى وبعض العوائل التي بقيت من المجموعة الاولى. وتسابق عدد من حملة "الاسلحة المتميزة" في خلعها وتركها في مكانها والانطلاق مع المنسحبين باسرع من خفة البرق او الصوت او ايهما الاسرع بينهما. تحمل الباقون اضافة الى اسلحتهم الاهتمام بها وحملها ونقلها معهم وهم في تلك الاحوال وتلك الاهوال، وظلت قصصهم محل تندر لايام تالية رغم شدة ساعاتها وحرارة اجوائها.
مساء اليوم الثاني عدت من الخط الاول للاستراحة ولمعرفة المجريات، نمت قليلا حيث لم انم طيلة الليلتين السابقتين لوجودي كما قلت في خط الهجوم الاول، مع اخرين تبادلنا الحراسات واليقظة الدائمة والانتباه للغدر ومشاهدة اتجاهات الرصاص وسماع دوي القنابل. قبيل الفجر زارنا القائد العام وطلب عدم الذهاب الى مكاننا الاول والتوجه الى المقرات، وحرق الاوراق في مقري المكتب السياسي والاعلام والمطبعة. حاول بعضهم حرق المقرات لتركها ارضا محروقة امام اجتياح "العدو"!. وكان رايي اخفاءها وتوزيعها في اماكن قريبة من المقر وبعيدة عن الانظار المباشرة. ونقل ما يمكن نقله من الاوراق والوثائق واتلاف ما هو غير ضروري او يمكن تعويضه والحصول عليه بسهولة في أي مكان اخر لمكوثنا او استقرارنا او بناء مقرات جديدة لنا. فالمهاجمون لا يفكرون كثيرا الا بما يقع امامهم مباشرة، وقد يحرقونه بانفسهم انتقاما وحقدا، لان ما يهمهم اكبر هو صد مقاومتهم وقتل المقاومين لهم او اسرهم اذا استطاعوا ذلك، كتصور اولي. لم يخطر بالبال مدى الحقد القومي والتعصب الاعمى والكراهية العنصرية ضد من نذر حياته في سبيل حقوقهم القومية وحريتهم وكرامتهم، من الانصار العرب خصوصا، وتطور اساليب الهجوم على مقرات الانصار والاستفادة من كل شيء فيها، وحتى تلفيق وثائق منها تدعم حججهم وتبريراتهم لشن الحرب الهمجية على مقرات الحزب الشيوعي العراقي وانصاره.
* فصل من كتابي: بشت آشان.. فصيل الاعلام، يوميات نصير في كردستان العراق **، دار خطوات للنشر، ط 1، دمشق 2007.
** كتبت هذه اليوميات في كردستان العراق، في فترة انتهت اواخر عام 1983 ونشرت كما كتبت حينها وفي ظروفها.