كلمة حول ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨
حسقيل قوجمان
الحوار المتمدن
-
العدد: 8040 - 2024 / 7 / 16 - 11:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
2016
كلمة حول ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨
قبل ايام زارني صديق عزيز من العراق هو صباح زيارة الموسوي رئيس منظمة اليسار العراقي ومحرر جريدتها اليسار العراقي واهداني كتابا له بعنوان "اختطاف الحزب الشيوعي العراقي".
تصفحت الكتاب فوجدت انه رغم انه تجاوز ٥٠٠ صفحة فهو ليس كتابا بالمفهوم الاعتيادي للكتب. انه مجموعة كبيرة من مقالات كتبت في تواريخ مختلفة وفي مواضيع وعناوين مختلفة. ولدى تصفحي الفهرست جذب انتباهي عنوان "هل كان بالامكان تطوير ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨ من ثورة وطنية الى ثورة وطنية ديمقراطية؟" كتبها بتاريخ ٨/ ٢/٢٠٠٥.
تشير الفقرة الاولى من المقال الى ان نجاح الثورة ادى الى نشوء قطبين متصارعين. القطب الاول تمثل بتحالف الحزب الشيوعي مع عبد الكريم قاسم الذي لم يعلن رسميا. وتمثل القطب الثاني بالقوى القومية بمساندة دولة الوحدة المصرية السورية وبمساندة الولايات المتحدة. ثم انتقل مباشرة الى مظاهرة العمال المليونية في اول ايار سنة ١٩٥٩ وبين ان شعار "حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي" لم يكن مقررا للمظاهرة وانما جاء بمبادرة المتظاهرين. وبين ان موافقة سلام عادل على استمرار الهتاف ادى الى ارسال سلام عادل وجمال الحيدري الى موسكو. وهذا يعني منطقيا ان ارسالهما كان ابعادا وعقوبة لان تاييدهما للشعار ادى الى تحطيم الثقة غير المعلنة مع عبد الكريم قاسم ما ادى الى تحول عبدالكريم قاسم الى معاداة الشيوعية وابعاد الضباط الشيوعيين والضباط المحبين لكي يلعبوا الطاولة في بناية البرلمان القديم وقرب الضباط القوميين المعادين للشيوعية وله انتهى بقتله. ولكن المقال اعتبرابعادهما تقديرا لهما. وزعم الاخ صباح ان سلام عادل كان يناضل من اجل تحويل ثورة تموز من ثورة وطنية الى ثورة وطنية ديمقراطية.
في الحقيقة ان هذا المقال من عنوانه الى اخره لا معنى له من الناحية النظرية. فالثورات، جميع الثورات في التاريخ، هي عمليات طبقية وان تطوير الثورات هو الاخر عمليات طبقية. والعمليات الطبقية هي من نتائج الاساس الاقتصادي للمجتمع.
الاساس الاقتصادي كما اكتشفه كارل ماركس في دراسته لتطور المجتمع البشري هو الانتاج الاجتماعي الذي اطلق عليه كارل ماركس قوى الانتاج. تطور قوى الانتاج هو الذي يؤدي الى جميع تطورات الصرح العلوي للمجتمع.
بدأ تطور قوى الانتاج فور انفصال المجتمع البشري عن المجتمع الحيواني. كان الانتاج في هذه الفترة الاولى من حياة المجتمع شبيها بالانتاج الحيواني ولذلك فان حياة المجتمع في الصرح العلوي هي الاخرى كانت شبيهة بالحياة الحيوانية. وكل الاختلاف كان ان الانسان اصبح منتصبا على قدميه يستعمل يديه للانتاج واصبح دماغه قادرا على تعلم الطبيعة والاستفادة مما يتعلمه في عملية الانتاج.
ان وضع الانتاج البشري في هذه الفترة كان يحتم وجود مجتمع شيوعي بدائي اذ لم يكن من الممكن وجود طبقات تستولي على الانتاج الشحيح القائم بدون ان تعمل. فكانت فترة طويلة من حياة المجتمع فترة مشاعية بدائية لم تعرف الانقسام الطبقي.
ان عملية الانتاج الاجتماعي عملية دائمة التطور ويؤدي تطورها الى تطور الصرح العلوي للمجتمع. دام المجتمع المشاعي البدائي حتى اصبح بامكان الانسان انتاج ما يكفي لمعيشته وتوفير فائض يستطيع انسان اخر الاستيلاء عليه بدون ان يعمل. وبلغ هذا التطور ذروته حين اصبح بالامكان ابقاء اسرى الحروب على الحياة والاستيلاء على فائض انتاجهم بدلا من قتلهم. وهذا ادى الى نشوء طبقة سيادية تستولي على الانتاج الاجتماعي كله هي طبقة اسياد العبيد فنشأ المجتمع العبودي. ولم يكن من الممكن في تلك الفترة ان ينشأ شكل من المجتمع الطبقي غير المجتمع العبودي.
تتالف قوى الانتاج الاجتماعي من ثلاث عناصر هي عنصر الانسان العامل وعنصر الطبيعة التي يعمل عليها وعنصر الادوات التي يخترعها ويستعملها ويطورها في الانتاج. والطبقة التي تستولي على كامل الانتاج الاجتماعي عليها ان تستولي على احد العناصر الثلاثة لكي تستولي على كامل فائض الانتاج الاجتماعي. وكان عنصر الانسان العامل هو العنصر الاول الذي يجب الاستيلاء عليه من اجل الاستيلاء على فائض الانتاج الاجتماعي كله. فكان المجتمع العبودي.
ولكن تطور الانتاج الاجتماعي ادى الى امكانية الاستيلاء على العنصر الثاني، عنصر الارض، بينما ادت ثورات العبيد الى اسقاط دولة اسياد العبيد فتحولت العملية الطبقية الى عملية اقطاعية ونشأ المجتمع الاقطاعي.
وادى تطور الانتاج الاجتماعي الى امكانية استخدام العنصر الثالث، عنصر الالة، من اجل الاستيلاء على فائض الانتاج الاجتماعي وادت الثورات البرجوازية ضد النظام الاقطاعي الى نشوء النظام الراسمالي الذي يستولي على عنصر الالة من اجل الاستيلاء على فائض الانتاج الاجتماعي كله فنشأ النظام الراسمالي.
نرى من هذا ان تطور المجتمعات الطبقية تاريخيا مر في ثلاث مراحل، مرحلة السيادة على عنصر الانسان، النظام العبودي، ومرحلة السيادة على عنصر الارض، النظام الاقطاعي، ومرحلة السيادة على عنصر الالة، النظام الراسمالي.
وهذه المراحل الثلاثة هي ما اكتشفه لينين في كتابه "الامبريالية اعلى مراحل الراسمالية" لان استيلاء الراسمالية على العنصر الثالث، عنصر الالة هو اخر العناصر الثلاثة. ولم يعد ثمة عنصر اخر يمكن الاستيلاء عليه لتطوير مجتمع اخرغير المجتمع الراسمالي الامبريالي. فالامبريالية اعلى مراحل الراسمالية.
لكن تطور الانتاج الاجتماعي لا يمكن ان يتوقف واصبح النظام الراسمالي الامبريالي عائقا امام تطور الانتاج. وقد اكتشف كارل ماركس ان الطريق الحتمي لتطور الانتاج بعد النظام الراسمالي هو تحول الانتاج الاجتماعي من انتاج تستولي عليه طبقة سائدة ضد الطبقات الاخرى من المجتمع الى انتاج تحوزه وتمتلكه القوى الانتاجية ذاتها ولا تسمح لاية طبقة اخرى بالاستيلاء عليه. واكتشف كارل ماركس ان هذا التحول لا يمكن تحقيقه بصورة سلمية لان الطبقة الراسمالية السائدة لا يمكن ان تتنازل سلميا عن سيطرتها واستيلائها على فائض الانتاج فوجد ان التحول ينبغي ويجب ان يجري بصورة ثورة عنفية لاسقاط الطبقة الراسمالية ولتكوين مجتمع اشتراكي فكان شعاره ياعمال العالم اتحدوا والثورة البروليتارية لاسقاط النظام الراسمالي. فكانت الاممية الاولى تهدف الى تحقيق هذا الهدف.
السؤال هو هل كانت ثورة تموز ثورة حقيقية ام كانت انقلابا عسكريا مجردا؟ ليس كل انقلاب عسكري ثورة. كانت في العراق عدة انقلابات عسكرية لم تكن ثورات لانها كانت مجرد تنافس على المناصب ولا تغير النظام الطبقي. وكان الانقلاب الذي اطاح بحكومة عبد الكريم قاسم هو الاخر مجرد انقلاب عسكري لانه لم يكن عملية طبقية.
كانت ثورة تموز ثورة حقيقية لانها اسقطت النظام الطبقي الاقطاعي الخاضع للامبريالية القائم وانشات نظاما طبقيا جديدا هو النظام الراسمالي. وهل كانت ثورة تموز ثورة وطنية ام كانت ثورة وطنية ديمقراطية؟ كانت السنتان الاوليان من حكومة عبد الكريم قاسم اعظم ديمقراطية عاشها الشعب العراقي في تاريخه. اعتقد ان الاخ صباح يقصد في تحويلها الى ثورة وطنية ديمقراطية انشاء مجلس نيابي عنوان الديمقراطية.
بعد ثورة تموز اطلق سراح المساجين من الغرف الانفرادية وكان قد بقي من السجناء اليهود اربعة فقط. وقد لاحظنا ان بعض السجناء الذين عشنا وناضلنا معهم كل هذه السنوات يتحاشون من الجلوس مع فرقة طعام بها يهودي. وطلبنا عقد اجتماع مع قيادة السجن فاعترفوا ان الحزب يمارس سياسة منعزلة عن اليهود وانهم ليسوا كذلك. وحين اقترحت ساخرا "اذا شئتم نلبس عمائم ونذهب الى النجف لكي نكون شيوعيين، اجابني هادي هاشم رئيس الجلسة "انذاك لا نقبلكم في الحزب".
كنت الى يوم الثورة المثقف الاول للمنظمة السجنية ولذلك جاء قادة السجناء لاستشارتي حول موقفهم بعد تحريرهم. اتذكر ان هادي هاشم الذي كان قائد المنظمة السجنية جاء لاستشارتي وانا اعلم ان دوره الرئيسي سيكون في النقابات فنصحته بقولي "لا تحتكروا العمل النقابي لان احتكار العمل النقابي يؤدي الى تدمير الحركة النقابية".
فكانت سياسة الحزب تجاه الحركة النقابية اشد انواع الاحتكار اذ عين الحزب احد كوادره ليكون رئيسا لاحدى النقابات رغم انه كان غريبا وبعيدا عن النقابة فاصبح الحزب القائد الوحيد لكل النقابات واصبح اتحاد النقابات مؤسسة حزبية استاجر كل كادر حزبي غرفة وكتب عليها اسم النقابة التي اصبح رئيسها. وكأن النقابات تؤسس من اعلى بواسطة الرئيس وليس من قبل العمال الذين ينتخبون رئيسهم من بين اشد العمال نشاطا واخلاصا للنقابة. وقد قرات في مقال للاخ ارا خاجادور انه يفخر بانه هو الذي اسس نقابة عمال النفط وهو كان في السجن المؤبد واطلق سراحه بعد الثورة وهذا مثال رائع عن العقلية التي سادت في الحزب حول الحركة النقابية. وكانت نقابة عمال ميناء البصرة مهزلة مروعة لان الحزب لم يجد كادرا حزبيا مؤهلا لرئاستها فعين شخصا كان في السجن لا يعرف غير تقليد لطم نساء البصرة اذ كان لهن طريقة خاصة في اللطم. فكانت نقابة عمال الميناء مهزلة كبرى. واصبح اتحاد النقابات مؤسسة حزبية خالصة اطلاقا. واتذكر ان عمال السكائر كونوا جماعة خاصة مستقلة للانتخابات فعمل الحزب على استعمال نفوذه لدعوة اعضاء هذه الجماعة الى وزارة الدفاع يوم الانتخابات لكي لا يستطيعوا ممارسة الانتخاب. ما ادى فعلا الى تدمير الحركة النقابية رغم ان عبد الكريم قاسم جاء الى مؤتمر اتحاد النقابات والقى فيه خطابا. فبعد ايام اعتقلوا جميع اعضاء الاتحاد ولم يقم العمال حتى باجراء مسيرة احتجاج على اعتقالهم.
وجاء عزيز الحاج لاستشارتي وانا اعرف ان دوره سيكون سياسيا وكانت قضية الانضمام الى دولة مصر وسوريا فنصحته بان لا يوافق على الانضمام الى هذه الدولة لان الاوضاع القائمة تؤدي حتما الى تحويل الانضمام الى هذه الدولة الى استعمار. "النفط في جيب والبلح في جيب" كما اعلن جمال عبد الناصر بعد ذلك.
اطلق سراحي وسراح يعقوب مصري في نفس اليوم. وكان يعقوب مصري قد اعلن اسلامه في الساعة الخامسة بعد الظهر فاصبح مسلما في مفهوم الحزب وبقي يهوديا في العرف الحكومي فتطلب اطلاق سراحه كفيلا فارسل الحزب كفيلا له. واطلق سراحي وانا يهودي في جميع المفاهيم فلم يرسل الحزب من يكفلني وبقيت في السجن الى ان وافق احد اليهود ان يكفلني.
بعد اطلاق سراحي بيومين ارسلت اول رسالة الى اللجنة المركزية للحزب تضمن نصف الرسالة وضعي كيهودي وسلوك الحزب تجاهي بسبب ذلك حين كان علي ان اتوسل الى الله المسلم واعبده لكي يؤهلني ويسمح لي بان اكون شيوعيا. والنصف الاساسي من الرسالة هو ماذا ينبغي على الحزب ان يعمله بعد الثورة. فانا اعلم ان التغير الطبقي في الثورة يحتم اخذ التحول بنظر الاعتبار واتخاذ السياسة الحتمية نتيجة لنجاح الثورة. فكان اقتراحي في الرسالة ان يستغل الحزب الظروف العلنية التي نشات بعد الثورة لعقد مؤتمر يحقق مهمتين ضروريتين الاولى هي تحديد الشعار الاستراتيجي الذي ينبغي تحديده بعد الثورة لان الشعار الاستراتيجي للحزب الشيوعي الحقيقي يجب ان يتغير بعد ثورة ناجحة والثاني دراسة الاخطاء السابقة وكيفية اصلاحها ومحاسبة المسؤولين عنها. ولكن الحزب لم يهتم برسالة يهودي او حتى يكلف نفسه الاجابة على الرسالة. لذلك بقي الحزب حتى القضاء على الثورة بدون هدف استراتيجي. وقد اتيحت لي فرصة مناقشة ذلك مع حسين ابو العيس فلم يستطع انكار ذلك بل اجابني هل للحزب الان مجال لتحديد شعار استراتيجي. وحين سالته ماذا يفعل الحزب اذا حدث انقلاب عسكري بعثي فاجابني هل ترى ان الظروف الان تسمح بانقلاب بعثي؟ وكان ذلك قبل ايام فقط من انقلاب الشواف في الموصل الذي ادى الى جرائم فظيعة من طرفي النضال. فقد استقبل عبد الكريم قاسم مهدي حميد استقبال الابطال واعاد تعيينه في الجيش العراقي كما كان قبل سجنه. وحين انكشفت المجازر التي مارسها الجانب الحزبي في الانقلاب حكم على مهدي حميد بالاعدام ولكن الحكم لم ينفذ في زمن حكومة عبد الكريم قاسم بل بعد سقوطها.
ليلة المظاهرة العمالية المليونية في اول ايار ١٩٥٩ كنت مع صديق حبيب هو اسحاق زلخة الذي ما زال حيا هنا في لندن من المتفرجين على الرصيف. ان المظاهرة لم تكن مظاهرة او مسيرة عادية بل كانت مهرجانا عظيما بمختلف الفعاليات الرائعة.
في هذه الاثناء التقيت بشخص اعلم انه قريب من قيادة الحزب الشيوعي. واخذ هذا الشخص يتحدث بحماس عن شعار الحزب الشيوعي بالحكم وانه في حالة عدم استجابة عبد الكريم قاسم لهذا الشعار فان الحزب سيسقطه ويستولي على الحكم. فقلت له سلملي على الجماعة وقل لهم "الينطح راسه بصخرة ﮔرونه تطير". وهذا ما تحقق فعلا نتيجة للشعار.
وكان الحزب هو الذي جعل من عبد الكريم قاسم صخرة لا يمكن نطحها بسياسته الخاطئة منذ اليوم الاول للثورة ورفع اسم عبد الكريم قاسم الى السماء ورأى صورته في القمر.
كتبت هنا في لندن كتابا خاصا عن ثورة ١٤ تموز ناقشت فيه كل سياسات الحزب الخاطئة بعد الثورة من الاول الى الاخر. لم يؤخذ هذا الكتاب من قبل الحزب الشيوعي بنظر الاعتبار بل ان الكتاب قوطع تقريبا.