رجل لا يخشي التاريخ
فؤاد قنديل
الحوار المتمدن
-
العدد: 4532 - 2014 / 8 / 3 - 10:19
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
نشرت جريدة " الأهرام " منذ أيام خبرا مفاده أن أحد المواطنين أهدى وزارة الآثار ميدالية تذكارية فريدة مصنوعة من البرونز خاصة بمحمد على حاكم مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، وكان المواطن الذي لم تذكر الجريدة اسمه قد ورث الميدالية عن جده ، وعلى أحد وجوهها نقش بارز يظهر فيه محمد على باشا بالزى الألباني قابضا على سيفه إلى جوار تاريخ ميلاده ووفاته ( 1769-1849) وعلى الوجه الآخر نقش بارز لأهم إنجازاته ممثلا في سفن حربية ومدافع ونبات القطن والقناطر الخيرية ، وتحتها كتبت عبارته " لن أخشي حكم التاريخ"
وهذه العبارة بالذات ما دعتنا لتحرير هذه المقالة فليس ثمة شك أن محمد على هو المؤسس الأول لمصر الحديثة ، وصاحب بصمات نهضوية مميزة تتجلى في ربوع شتى من الوطن مع أنه ليس ابنا من أبنائه. ويمكننا دون مبالغة أو شبهة من جور أن نقول إن محمد على سعى لتطوير الحياة في مصر رغم أنفه لأنه كان يسعى بكل همة لتحقيق أهدافه وأحلامه متأثرا بنابليون الذي اعترف بإعجابه الشديد به في مناسبات عدة. ولم يكن بقادر على اقتفاء آثار القائد الفرنسي لو كان محروما من الخيال والإرادة وتحجر القلب ، فلم يخضع لأية عاطفة حتى تجاه أولاده. ولم تكن أمانيهم هى أمانيه ولكنه المجد والإمبراطورية ولاشيء مطلقا سواهما ، وقد بدأت أحلامه الصغيرة في البزوغ بعد فشل الفرنسيين في تنفيذ مخططهم الذي استهدف حكم مصر بوصفها مركز العالم وتكوين إمبراطورية تحقق لهم الهيمنة الكاملة على القارات الثلاث وعلى البحرين الأبيض والأحمر والمحيط الهندي وكل الطرق البرية.
قدم محمد على إلى مصر مع الفرقة الألبانية المشاركة في الحملة العثمانية الموجهة - بتحريض من الانجليز - لطرد الفرنسيين من مصر ، ولما تحقق الهدف العثماني وغادر الجميع المنطقة آثر الألباني البقاء عازما على التقدم نحو صدارة المشهد السياسي فمضي يتقرب من القوي الشعبية صاحبة الرأي والقرار وفي مقدمتهم رجال الدين وفي الوقت ذاته داهن المماليك ، وسعى لاسترضاء السلطان العثماني حتى ظفر بتولى حكم مصرعام 1805 ، وسرعان ما تخلص من أبرز الوجوه المصرية ومنهم العلماء، ثم أجهز على المماليك عام 1811 في مذبحة القلعة التاريخية ليبدأ رسميا وعمليا مشروعه الإمبراطوري الذي وهبه كل تركيزه ودهاءه وكل نقطة دم في عروق المصريين وكل سحتوت من أموالهم التي أخذ ينزحها يوما بعد يوم دون توقف حتى رحيله .
لم يكن الباشا يسمع أو يري أو يحلم أويحس إلا بالإمبراطورية التى يجب أن ترث الدولة العثمانية التى تتبعها خمس عشرة دولة شرق أوسطية، ولم يكن للمصريين أي وجود في جنته أو في ذهنه إلا كمصدر دائم للتمويل كى يجهز الجيوش الضخمة ليغزو السعودية والسودان واليونان وسوريا وبقية الدول ، وكان بحاجة للمال لشراء الأخشاب الأوروبية لبناء السفن ، وبحاجة للمال كي يحظى بمباركة السلطان ، و بحاجة للمال كي يدفع بسخاء للخبراء الفرنسيين الذين استعان بهم في كافة القطاعات ، ولم يكن بحاجة للمال لحفر الترع فالمصريون يتم جمعهم من القري بالضرب حيث يتم حشدهم في المراكب ليحفروا الترع ويقيموا الجسور ويحملوا الأثقال تحت لهيب الشمس والسياط وأمطار الشتاء والعراء مع كسرة خبز جافة لا تكفى دجاجة.
وقد حقق الباشا لنفسه ولجيوشه الجرارة نهضة صناعية وتعليمية لأن الغزوات تقتضى تجهيز هذه الجيوش بما يلزم من الخبز إلى المدافع ومن الأزياء إلى المدارس الحربية والطبية والهندسية ، ومن القطن إلى الحديد والنحاس ، كما تطلب الأمر تأسيس المصانع المتخصصة ، ولم يسمح للفلاحين ببيع محصول أراضيهم ولابد من تسليمه كاملا لرجال الباشا حتى يغذى الجنود والخيول ، وأنشأ المستشفيات حتى تعالج الجرحى والمرضي من العسكر ، وأنفق الأموال على استيراد كل ما يحتاجه المشروع الإمبراطوري ، وكان كل من يتولون المناصب القيادية من الأتراك والألبان بل واليهود ، أما نصيب المصريين فكان العمل علي إنتاج زيت السمسم فقط .. في مذكراته التى ترجمت إلى العربية يقول بوريس دافن الخبير الفرنسي الذي عمل قريبا من محمد على واشتهر باسم "إدريس أفندي".. :
" سألت الباشا في لحظة صفاء عن السر في سوء معاملته للمصريين ، فقال : أنا لا أسيء معاملتهم . كل ما هنالك أن المصريين بالنسبة لي هم السمسم ، ولابد من طحن السمسم كي تحصل على أكبر قدر من الزيت اللازم لإدارة أي شيء". وقال شامبليون عالم الآثار الشهير وقد زار مصر عام 1828 : تدهشنى إلى درجة الاستفزاز معاملة الوالى للمصريين أصحاب البلد ، في الوقت الذي يُعامل فيه العبيد في كثير من الدول بصورة أفضل ".
عمل الباشا الكبير نحو خمسة وأربعين عاما على بناء مشروعه الذي تحطم مرتين ، الأولى عام 1827 بعد موقعة نفارين حيث حشدت انجلترا وفرنسا وروسيا كل أساطيلها لكسر شوكة الأسطول المصري الذي تحطمت جميع سفنه التسعين بالقرب من شواطئ اليونان ، وجاءت الضربة القاصمة تنفيذا لاتفاقية لندن عام 1840التى أرغمت الباشا على ألا يتجاوز حدود مصر لأي سبب.
وبعد ، فهل يحق للباشا أن يقول : أنا لا أخشي التاريخ ، مطمئنا إلى أنه غيّر وجه الحياة في مصر ؟.. ومن دواعى الأسف أن يتجاهل بعض المؤرخين حق الشعب المصري الذي عومل بقسوة لا نظير لها وانشغلوا بالمنجز العملى الذي سالت له دماء وعرق الفلاحين على مدى نصف قرن ، وكانت النظرة الموضوعية تحتم أن يكون حق الشعوب في العيش الكريم هو الأولى بالاعتبار و المعيار الأساس لتقييم كل حاكم .