انتفاضة يناير درة العقد فى مدرسة الاحتجاج المصرية
صلاح السروى
الحوار المتمدن
-
العدد: 4341 - 2014 / 1 / 21 - 08:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
د. صلاح السروى
انتفاضة 18 و19 يناير درة العقد فى مدرسة الاحتجاج المصرية
كان الجو باردا جدا فى صباح يوم الثامن عشر من يناير عام 1977عندما وصلت الى كلية دار العلوم فى المنيرة (قبل نقلها الى حرم جامعة القاهرة بعد ذلك بثلاثة أعوام). وكنت أشعر, باستثناء البرد, بصداع عنيف فى رأسى نظرا لأنى لم أنم الا ساعات قليلة فى الليلة الماضية بعد أن سمعت أنباء قرار زيادة أسعار بعض السلع الغذائية الذى اتخذه وزير التموين القيسونى. وقلت لزميلى فى أسرة "طه حسين" بالكلية, سليمان ووجيه : ان لم يثر هذا الشعب اليوم فعليه ألا يلوم بعد ذلك الا نفسه وألا يصرخ بالشكوى أبدا. عندها قال لى سليمان: أنا قادم من باب اللوق والعمال يتجمعون أمام محطة مترو حلوان والغضب يطل من أعينهم, عند الضحى فى حوالى الحادية عشرة جاءتنا أنباء من جامعة القاهرة بأن الطلاب يتجمعون لمسيرة كبرى, وبعدها بقليل جاءت نفس الأخبار من جامعة عين شمس. وعند الساعة الثانية تقريبا كنا قد انتهينا وباقى الطلاب فى الكلية من مناقشاتنا وحزمنا أمرنا على القيام بمظاهرة تتوجه الى ميدان التحرير القريب, ولم نكد ننتهى الى هذا القرار حتى تناهت الى أسماعنا أصوات هادرة قادمة من ناحية شارع قصر العينى, وعندها لم نلتفت الى بعضنا بل وجدنا أرجلنا تطير بنا الى خارج الكلية والهتافات تشق عنان السماء. وصولا الى ميدان التحرير, حيث وجدنا جنود الأمن المركزى يغلقونه وبدأت المناوشات بحجارة الأرصفة, ثم تسللنا عبر حى جاردن سيتى الى الميدان من الناحية الأخرى حيث التقينا مع مظاهرة قادمة من معهد الخدمة الاجتماعية, وكانت الفاتحة, حيث تراجع جنود الأمن واستولى المتظاهرون الذين جاؤا من كل المداخل على الميدان.
وفى تمام الساعة السادسة جاءت تعزيزات من الجنود والقوات وهاجمت الميدان من ناحية مجلس الشعب وبعدها بقليل وجدت الجنود يعتلون الكوبرى العلوى الذى كان يلف نواحى الميدان وقتها. وكانت موقعة كبرى فررنا بعدها الى الشوارع الجانبية. ولحسن الحظ عثرت على رفاقى فى شارع باب اللوق حيث ركبنا الترام متوجهين نحو الدراسة حيث سكن زميلى سليمان. فى الصباح انطلقنا سيرا على الأقدام للذهاب الى المدينة الجامعية حيث سكنى وعدد من الزملاء, وكانت رحلة عبر المظاهرات المتنوعة حسب طبيعة الأحياء التى مررنا بها, وكان أبرزها مظاهرة بولاق التى كانت تقودها سيدة سمينة فى العقد الرابع من العمر وهى تهتف : "حط الرز على المحشى والسادات ما ينفعشى". وعندها هاجمتنا الشرطة بالقرب من شارع الصحافة, حيث أصابت صدرى دفعة من رش الخرطوش ولم أشعر الا وخيط من البرودة يلسع جسدى أسفل البلوفر, ونبهنى أحدهم الى أن الدماء تنزف وتلوث ثيابى, وعند تفرقنا الى الحوارى المقابلة أخذنى بعضهم الى أحد المنازل وجعلو ينضون ثيابى ويعالجون الجروح التى كانت سطحية بالميكروكروم. وسرعان ما انطلقنا الى الزمالك حيث التحقنا بالمظاهرة القادمة من امبابة. فى آخر اليوم وصلت الى المدينة الجامعية وأنا فى غاية الاعياء.
فى اليوم التالى حاولنا الخروج من المدينة لمواصلة التظاهر ولكن كان التراجع عن زيادات الأسعار قد أذيع وكان الجيش يحتل الشوارع فتفرق الشباب وهدأت النفوس قليلا.
انها سبعة وثلاثون عاما تفصل بيننا وهذه الانتفاضة الكبرى التى خرج فيها ما يربو على الخمسة ملايين انسان فى كل ربوع مصر, والتى لا تزال ذكرياتها ماثلة فى ذاكرتى كأنها حدثت بالأمس. وقد سماها بعضهم "انتفاضة الخبز", وسماها السادات وأبواقه الاعلامية "انتفاضة الحرامية". وأرى أنها كانت انتفاضة "العدالة الاجتماعية", قامت ضد خطة الانقضاض على خط ثورة يوليو السياسى والاجتماعى, فلم يكن اندلاعها احتجاجا على مجرد غلاء بعض السلع الغذائية كما يحلو للبعض أن يختزلها, بل قامت فى مواجهة نهج الانفتاح الاقتصادى الذى بدأ رسميا مع صدور قانون الاستثمار والمناطق الحرة عام 1974, والذى أفضى تلقائيا الى ولادة طبقة جديدة لقيطة من أغنياء الصدفة وأصحاب الثروات المفاجئة التى حققوها دون جهد يذكر ودون تحقيق أية قيمة مضافة للاقتصاد الوطنى. تلكم هى الطبقة التى اصطلح على تسميتها بالطبقة الرأسمالية الطفيلية التى تكونت فى غالبيتها من أصحاب الصفقات المشبوهة والمهربين والمتاجرين بأقوات الشعب. مما خلق وضعا اجتماعيا ظالما لأغلبية الشعب الذى ربط الأحزمة وعانى راضيا شظف العيش ومرارة الحرمان طوال فترة ما بعد هزيمة السابع والستين وحرب الاستنزاف حتى نصر اكتوبر. وقد ظن المصريون أنه بنهاية هذه الحرب سوف تتحسن أوضاعهم المعيشية وتنطلق كل المشروعات التنموية التى تم تأجيلها بفعل الحرب. وكان لهذا التحول المجافى لكل الوعود والتوقعات دور هائل فى اشاعة نوع من الاحساس بالخديعة وخيبة الأمل لدى قطاعات عريضة من الشرائح الاجتماعية الوسطى وما دونها.
وما فاقم من هذا الاحساس الممض أن هذا التوجه قد انطلق مصحوبا بهجوم شرس على منجزات الحقبة الناصرية ومنطلقاتها الوطنية والقومية والاجتماعية, وتصويرها فى كل وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بأنها كانت تمثل اشتراكية الفقر والقمع ... الخ. وتم التضخيم من تجاوزات وأخطاء المرحلة, بالتوازى مع التسخيف الشامل واهالة التراب على كل انجازاتها فى كافة المجالات, حتى المشروعات الاستراتيجية العملاقة (مثل السد العالى والمصانع الاستراتيجية) لم تسلم من هذا الهجوم. وبالطبع صاحب ذلك التخلى الكامل عن المشروع الوطنى التنموى المنحاز للغالبية العظمى من الشعب من الكادحين والفقراء, لصالح مشروع الانفتاح الرأسمالى والتبعية الكاملة للولايات المتحدة الأمريكية, حيث اشتهر وقتها ماعرف ب"الخيار الأمريكى", مع مشتملات ذلك من تقارب مع العدو الصهيونى وقد بدأت ارهاصاته فى الظهور منذ اتفاقيتى فض الاشتباك ومباحثات الكيلو 101.
يزدوج مع ذلك الموقف الشعبى الرافض والمستهجن للسلوكيات الترفية المستفزة التى كان يأتى بها الرئيس السادات نفسه, فقد أخذ الرجل الذى كان يحكم شعبا يمثل فقراؤه ومن هم دون خط الفقر منه أغلبيته الكاسحة, ويدير بلدا خربا مديونا خارجا لتوه من حرب طاحنة استمرت لست سنوات, أخذ يغالى فى احاطة نفسه بمظاهر الأبهة والفخامة فى مظهره وسلوكه, حيث صنفته بعض الدوائر بأنه يعد واحدا من أشيك الرجال فى العالم, وأخذ يبنى القصور الباذخة المسماة بالاستراحات الرئاسية, ويرتدى ملابس مراسيمية أشبه بملابس الملوك والشاهنشاهات.
انها تلك التوجهات السياسية والاقتصادية التى التقطها واكتشفها مبكرا طلاب الجامعات منذ عام 1972, وقدموا فى مواجهتها أكبر حركة احتجاج كانت بمثابة المهاد الذى نضجت فيه آليات الحركة التى كانت الزاد المحرك لتلك الانتفاضة المزلزلة. فكانوا بحق ضمير الشعب وروحه الملهمة.
لكل ذلك فاننى أعتبر أن انتفاضة يناير 77 تتجاوز فى محيطها الاحتجاجى مجرد رفض زيادة الأسعار (التى كانت تفاهة قيمتها - التى لم تتجاوز القرش صاغ - تدل بجلاء على مدى ماكان يعانيه المواطن المصرى من تدن فى مستوى المعيشة وشيوع الفقر بين مختلف طبقاته الوسطى والدنيا). بل تتجاوز ذلك الى رفض النهج الانفتاحى الرأسمالى التابع بكامله, والذى بدأت نتائجه الكارثية تترى فى الظهور, مخيبة لكل الآمال وفاجعة فى الدلالة والمعنى. بل ورفض المظاهر الاستهلاكية الترفية المستفزة التى ظهرت فى سلوك هذه الطبقة الجديدة وفى اعلانات التليفزيون, وظهرت فى سلوك الرئيس نفسه.
ومن هنا جاءت شعارات الانتفاضة معبرة بقوة دامغة عن هذا الرفض, فكان شعار: "سيد بيه ياسيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه", فى اشارة الى سيد مرعى. وكان شعار: "هو بيلبس حسب الموضة واحنا بنسكن سبعة فى أوضة", اشارة الى السلوك الاستفزازى لمظهر الرئيس السادات قياسا بمعاناة باقى أفراد الشعب. ومثله كان شعار: "الشعب يعانى آهات وآهات وهو يشيد فى استراحات". وكان هذا الحنين الى توجهات الحقبة الناصرية التى حاول السادات القضاء عليها, فكان شعار : "عبد الناصر ياما قال خلوا بالكم من العمال". و"جاب لك ايه يا صبية عبدالناصر لما مات .. جاب لى --- من المنوفية اسمه أنور السادات". .. الخ.
وقد كان لهذه الانتفاضة منحاها السياسى الايديولوجى الاشتراكى المرتبط على نحو ما بالتجربة الناصرية والاحزاب والمنظمات اليسارية التى تلتقى معها فى البعد الاجتماعى, فكان الشعار الذى يحدد الحلف الطبقى القائد لهذه الانتفاضة : "احنا الطلبة مع العمال ضد حكومة رأس المال". وأظن أن هذا الشعار يعد من أكثر الشعارات دلالة على الطبيعة السياسية الاجتماعية لهذه الانتفاضة. فاذا كان الطلاب (وبخاصة الجامعيين, وكانوا هم راس الحربة فى هذا الحراك) ينتمون فى أغلبهم الى مختلف شرائح الطبقة الوسطى , بينما يمثل العمال الطبقات الكادحة والدنيا فى السلم الاجتماعى, فانه يحق لنا اعتبار هذه الانتفاضة ارهاصا بثورة طبقية اجتماعية شاملة كان من الممكن أن تندلع فى البلاد فيما بعد ذلك, لاسيما أن سياسات الافقار والتبعية الكاملة لتعليمات صندوق النقد الدولى قد تواصلت فى الاتجاه المضاد مباشرة لمصالح الطبقات الوسطى والكادحة من المجتمع, لولا ما قام به السادات ومن بعده مبارك من ألاعيب سياسية كانت مهمتها الوحيدة تدمير أية قوة سياسية يمكنها أن تقوم بدور القيادة الطليعية لهذه المطالب الشعبية فى الحرية والعدل.
فتم الافراج عن قيادات الاخوان المسلمين من السجون, وتم تبنى الجماعات الاسلامية التى كانت قد أخذت فى التكون التدريجى بدء من عام 1972 عندما أخذ السادات يتوجس خيفة من الحراك الطلابى الناصرى – اليسارى. حيث تمكن من اضعاف, ولا أقول وأد, هذا الحراك تحت سنابك الفاشية الدينية البازغة والمطلة برأسها الكئيب, المكفرة لكل نشاط طلابى ومجتمعى والمتربصة باغيارها من المسلمين والمسيحيين على السواء تكفيرا واعتداء وصل الى حد القتل واستحلال الأموال, فكانت الفتن الطائفية المتجددة وقتل المفكرين والأدباء .. حتى وصل الأمر الى قتل السادات نفسه. ودخلت مصر فى حقبة من التراجع المؤلم يقوده الطرفان المجرمان فى المعادلة السياسية : المتأسلمون ونظام الاستبداد والفساد المباركى الذى لم يقرأ رسالة مقتل السادات ولم يقرأ أية رسالة فى الحقيقة, فجاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير لتعصف بنظامه ثم لم تتوقف الا بعد أن تعصف بصنائعه وصنائع سلفه من الاخوان وحلفائهم من الفاشيين الارهابيين فى ثورة الثلاثين من يونيو.