هل تقضي الحرب الإيرانية الصهيونية على نظرية الأمن الإسرائيلي؟؟
صلاح السروى
الحوار المتمدن
-
العدد: 8379 - 2025 / 6 / 20 - 03:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قامت نظرية الأمن الإسرائيلي على ثلاثة ركائز أساسية، بحيث تضمن، ليس فقط الحفاظ على أمن الكيان، بل أيضا تضمن له القدرة على التوسع والسيطرة على كامل بلدان الشرق الأوسط.
وهذه الركائز تتمثل فيما يلي:
1- بناء قوة عسكرية فائقة، تربو على كل القوى المحيطة، مجتمعة، عن طريق دعم ومساندة القوى الاستعمارية العظمى في العالم. وهي المتمثلة في الحلف المعروف باسم حلف شمال الأطلسي. وذلك بأن يكون الكيان الصهيوني رأس حربة هذه القوى والحامي لمصالحها والمنفذ لمخططاتها. بما يؤدي الى تبنيها الكامل له وتلبية كامل احتياجاته.
2- التخلص من الفلسطينيين بالطرد والقتل، والتعامل مع الشعوب العربية المجاورة، على عدة مراحل تضمن هيمنته على كامل فلسطين أولا ثم قضم كل ما يمكنه من أراض، بحسب ما تتيحه الظروف والأحداث. ولذلك فالمطلوب عمله تجاه تلك الشعوب، هو اضعافها، وتجهيلها، وافقارها وامراضها، وإشاعة الفرقة والانقسام (ان لم يكن الاحتراب والاقتتال، بينها. وذلك باستخدام كل الطرق والوسائل.
3- الايهام بأن دولة الكيان انما وجدت لتبقى ولتتمدد، وأنها قوة لا يمكن قهرها، ولا يمكن النيل منها مهما كانت قوة الخصم العددية أو التسليحية، ارتكازا على استنادها الى أسطورة تفوق (العقل) اليهودي، والتمتع بالدعم الغربي الاستعماري اللا محدود. وأنها بالتالي، بمنأى عن المساءلة القانونية الدولية، بل انها كثيرا ما كانت تسخر من المؤسسات القانونية الدولية مثل محكمة العدل والمحكمة الجنائية الدولية، على النحو الذي رأيناه مؤخرا، بحسب العوى التي أقامتها جمهورية جنوب أفريقيا. (وهذا الادعاء باستحالة الهزيمة، يعد تكتيكا قديما استخدمته قوات المغول والتتار في اجتياحهم المتتالي للبلدان، كما استخدمته داعش في حربها الوحشية في كل من العراق وسوريا. بحيث تصورت دولة الكيان، بذلك، أنها قد ضمنت الإذعان المطلق والتسليم الكامل، حتى بدون أن تتطلق طلقة واحدة.
وانطلاقا من هذه الركائز، شنت القوات الصهيونية ولا تزال كل حروب الإبادة الوحشية التي عرفها تاريخ الصراع العربي معها. فارتكبت المجازر تلو المجازر، وأمعنت في اقتراف الجرائم وانتهاك كل الأعراف والقوانين، سواء في التعامل مع السجناء والمدنيين أو في عدم مراعاة حرمة الموت.. الخ. بل أكاد أقول أنها تعمدت نشر هذه الجرائم لتحقيق الأثر الذي ذكرته قبل قليل. وكانت دولة الكيان، دائما، هي البادئة بكل الحروب التي خاضتها معنا: من حرب 48، الى حرب 56، الى حرب 67. باستثناء حرب 73 التحريرية التي شنتها كل من مصر وسوريا.
ولقد زادت الغطرسة الإسرائيلية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة على العالم وقيام النظام الدولي الجديد "أحادي القطبية". وما تلى ذلك من انهيار الجيش العراقي، ثم توالت الانهيارات لتصل الى ليبيا واليمن وسوريا والسودان. كل ذلك ضاعف من إحساس العدو بتفوقه المطلق وهو ما جعله يمعن في ارتكاب كل البشائع التي تم ذكرها آنفا.
بيد أن هذا التصور الأمني الدموي وهذه الظروف العربية السلبية لم تدم كثيرا أمام عدد مهم من المتغيرات، أهمها:
- حرب أكتوبر المجيدة 1973، التي أثبتت أن هذا العدو يمكن هزيمته، ويمكن استرداد الأرض السليبة منه عنوة وبقوة السلاح. وأن الجندي المصري والسوري قادران على منازلة العدو وايقاع كل ألوان الهزائم بجنوده المذعورين. وذلك بصرف النظر عما لحق بهذه الحرب من إجراءات واتفاقات. فهذا ليس مجاله الآن.
- المقاومة الباسلة والصمود الأسطوري اللذين أبداهما الشعب الفلسطيني في كل من الضفة وغزة، حتى داخل الخط الأخضر بأراضي فلسطين المحتلة عام 48. فكانت أسطورة مخيمات جنين وقلقيلية وطوباس وغيرها، في الضفة تتضافر مع أسطورة مخيمات جباليا وبيت حانون والشجاعية.. وكل مدن وبلدات قطاع غزة. كما استطاعت مجموعات قليلة العدد والعدة من المقاومين الشراة الهجوم على العدو وأسر جنوده وايقاع الخسائر الفادحة به. وكان هجوم السابع من أكتوبر 2023 بمثابة زلزال عنيف أطاح بأوهام التفوق والهيمنة لدى العدو، كما فضح بوضعية الانبطاح والهرولة نحو التطبيع، التي انتهجتها بعض الحكومات العربية. وأثبتت من خلاله المقاومة أن العدو، حقا، نمر من ورق. وأن سلوك الخذلان هو الذي منحه هذه الهالة الكاذبة من القوة الساحقة. فها هم حفنة من المقاتلين الأباة قد تمكنوا من القاء كرامة العدو المتغطرس في الوحل، وتمريغ أنفه المغرور في التراب. ليس فقط باختراق أنظمته الأمنية وتدمير واغتنام معداته التي أنفق عليها مليارات الدولارات، لكن أيضا بأسر قادته وجنوده ومستوطنيه، والمقايضة عليهم بالأسرى من الشعب الفلسطيني. وبصرف النظر عن الجدال حول ما اذا كانت هذه الضربة محسوبة أم مغامرة هوجاء، (فهذا ليس مجال التقييم)، فان الحصيلة تقول أن فكرة العدو المحصن العاتي الذي لا يقهر، انما هي فكرة تنتمي الى الخيال بأكثر من انتمائها الى الواقع، وتحقق صدق الشاعر عندما قال.
وما ستعصى على قوم منال اذا الاقدام كان لهم ركابا
كل ذلك أدى الى تدمير جزء كبير من نظرية الأمن الإسرائيلي، بيد أن ما حدث في السابق شيء وما يحدث الآن شيء آخر تماما. فلم تعد القضية أن هذا العدو يمكن قهره أم لا. بل أضحت على النحو التالي:
هل المستوطن الإسرائيلي مازال موقنا بأن الدولة اليهودية بقدراتها العسكرية، ما تزال قادرة على تأمينه وحراسة سرقته لبيوت وأراضي ومقدرات الفلسطينيين؟؟ بحيث يمكنه البقاء في هذه الأرض أم أن عليه أن يرحل من حيث أتى؟؟ فغني عن القول أن هذا المستوطن لم يأت هذه البلاد مجاهدا أو مناضلا. بل جاء باحثا عن التملك والتنعم. وكثيرون على علم بالحال البائس والتعيس الذي كان عليه معظم المستوطنين الأوائل، عندما تم جلبهم لفلسطين قبل الحرب الثانية وبعدها. فلم يكونوا من الأغنياء أو ذوي المال في بلدانهم، بل كانت فلسطين بالنسبة لهم هي أرض اللبن والعسل.
وهذا المتغير الجديد هو الحرب الدائرة الآن بين إسرائيل وايران. حيث أسفرت ه1ه الحرب، حتى قبل أن تنتهي وأيا كانت النتائج التي ستنتهي اليها، أن نظرية الأمن الإسرائيلي قد تم تدميرها في العمق. حيث ثبت يقينيا وقطعيا لدى مستوطني هذا الكيان (الذي أصبح من الممكن الآن أن نطلق عليه صفة الكيان المؤقت)، وقد رأوا بأعينهم كل هذا الدمار والخراب والموت، أن دولتهم لا تستطيع تحقيق أي نوع من الحماية لهم. وأن فلسطين قد باتت مكانا غير آمن بالنسبة لهم، بل انه غير صالح لمواصلة العيش فيه. وأن من لم يقتل منهم بالصواريخ، ولم تهدم فوقه البيوت والأبراج والمنشآت، أو لم تصبه الشظايا وهو يسير في الطريق، حتى الآن، سيأتي دوره حتما، وسيفقد حياته أو جزءا من جسده خلال مواجهة ما، قادمة في يوم ما. فمع قوة القصف ودقة التصويب وخطورة الأهداف المدمرة، أيقن هؤلاء أن بقاء كيانهم انما هو مرهون ببعض الوقت، فقط. فهو كيان غير قابل لأن يكون وطنا دائما، لأنه ببساطة وطن مسروق وأصحابه الفعليون باقون ولا يكلون عن المطالبة بعودته اليهم وعودتهم اليه، مهما قدموا من تضحيات ومهما طال بهم الزمن. كما أن جيرانه، وبخاصة الشعوب وليس النخب والحكام، قد أصبحوا على وعي جازم بخطورة وجوده على مستقبلهم ومستقبل بلادهم، بعد أن فضحت أغراض العدو وأطماعه غطرسة القوة التي أصابت قادته بعد ما صنعوه من جرائم في حق شعب غزة. فصرحوا على كل وسائل الاعلام بأطماعهم التي كانت خفية ومسكوتا عنها. فظهرت الخرائط التوراتية على أذرعة الجنود، وجاءت تصريحات بن غفير بتسئليل لتقول علنا أنهم ينتوون ضم الأردن وسيناء وأجزاء من سوريا ولبنان، والحبل على الجرار كما يقولون فضلا عن التصريحات المستفذة بضرورة تهجير الفلسطينيين الى مصر والأردن،ة وكل ما شهدناه من استهانة واهانة بكل الأعراف والقوانين الدولية والقيم الإنسانية، على السواء.
بيد أن هذه العجرفة والغطرسة سرعان ما تهاوت عندما جاءت صواريخ ايران لتظهر كم أن هذا الكيان هش وضعيف، مهما ادعى من قوة ومهما تدفقت الأسلحة والأموال. فلقد بات واضحا أنه لا يقوى على مواجهة ولا قبل له بنزال الرجال ومبارزة الأبطال. فاذا به يتلقى اللطمات والضربات المميتة، بصواريخ تأتيه من على بعد آلاف الكيلومترات من بلد محاصر ومهمش دوليا منذ أربعين عاما، تأتي الصواريخ متجاوزة القواعد الأمريكية والغربية المدافعة عن الكيان، والمتناثرة في كل بلدان المنطقة الفاصلة بين ايران والكيان المؤقت، وتفلت الصواريخ لتتلقاها منظومات: (حيتس)، و(آرو)، و(ثاد)، وكلها منظومة تشكل دفاعا (طباقيا) بحسب المسافات والارتفاعات التي تتحرك عبرها الصواريخ، لتتعامل في المرحلة الأخيرة مع ما يعرف باسم (القبة الحديدية) وهي مخصصة للمسافات القريبة والارتفاعات المنخفضة، (وقد صنعت خصيصا للتعامل مع الصواريخ قصيرة المدى التي تطلقها المقاومة الفلسطينية في غزة). وهنا تحدث المعجزة، حيث تجتاز الصواريخ الإيرانية كل تلك الدفاعات والمسافات لتسقط على رأس هذا المستوطن الذي وفد الى فلسطين وظنها قد دانت له وطنا دون غيره من أصحابها الحقيقيين،
أفكر الآن بذهن ذلك المستوطن الذي جاء الى فلسطين باحثا عن المال الوفير والمسكن المجاني والعمل المجزي، والهدوء النفسي والاستقرار العائلي، وهو يرى بعيني رأسه أن كل شئ قد تبخر في لحظات، وأن هذا البلد الذي استباحه قد انفجر في وجهه أو انهار على رأسه، وان نجا اليوم بعضه فسينهار، غدا، أو في أي وقت آخر قادم، كله. خاصة، عندما يطالع هذا المستوطن مشاهد الدمار، والملاجئ، والهلع، والموت الذي يحيط به أنى توجه.
واذا كانت تلك نتائج المواجه مع عدو يبتعد عنه بآلاف الكيلومترات فكيف سيكون الحال عندا يصبح القتال وجها لوجه ومع جيوش مدججة.
لذلك نرى الآن المؤقتين وهم يتدافعون نحو مطار شرم الشيخ، بحثا عن مقعد الى احدى الدول الأوربي، كما يتدافعون بالزوارق هاربين الى قبرص.
لذلك فاني أتوقع أننا سنشاهد، بعد نهاية هذه الحرب واتاحة فرص السفر، أكبر عملية نزوح عكسية من داخل الكيان المؤقت لخارجه. وهنا سينهار الكيان ديموجرافيا، دون الحاجة الى اطلاق طلقة واحدة. وتصبح نظرية الأمن الإسرائيلي أثرا بعد عين.