شرذمة الإصلاحات الإسلامية ما مصيرها؟ (٣٣)
جمال البنا
الحوار المتمدن
-
العدد: 3820 - 2012 / 8 / 15 - 11:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اطمأن جمال البنا أنه بلور الإنسانية الإسلامية بناءً على خلافة الإنسان لله تعالى على الأرض، وكان عليه أن يثبت بعد ذلك قضيتين:
الأولى: توفر الحرية.
الثانية: توفر المعرفة والعقلانية فى الإنسانية الإسلامية.
ولم يكن هناك صعوبة فى إثبات ذلك، رغم أن الفقهاء فى العهد المتخلف استبعدوا ذلك، وقاوموا فكرة الحرية والعقلانية، على عكس ما ذهب إليه الفقهاء فى عصور الاجتهاد الأولى إلى أن الإسلام يتقبل الحرية ويعتمد على العقل إلى درجة قال فيها الجاحظ والعنبرى من أئمة المعتزلة: «أنه لا إثم على المجتهد مطلقاً، وإنما الإثم على المعاند فقط، وهو الذى يعرف الحق ولا يؤمن به عنادًا واستكبارًا، فالمجتهد المخطئ عند هذا الفريق غير آثم، ولو أداه اجتهاده إلى الكفر الصريح، لأن تكليفه عندهم بنقيض اجتهاده تكليف بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق ممتنع شرعًا وعقلاً».
وكان من العجيب أن مقاومة حرية الفكر والعقلانية كان موضوع بعض الهيئات الإسلامية لأسباب خارجة عن المسار مثل حزب التحرير الذى قال: إن الإنسان المسلم ليس حرًا فى أكله، ومشربه، وملبسه، وفيما يمضى وقته، وينفق ماله، وهو فى هذه كلها محكوم بضوابط إسلامية.
وقال أبوالأعلى المودودى: إن الإنسان عبد ليس له من حرية إلا طاعة سيده، ومحاولة الحصول على رضاه، وهذا الكلام ليس بعيداً عن كلام الشهيد سيد قطب.
الحقيقة أن الفكر الإسلامى فى العصور المتخلفة كان يستبعد تمامًا السماح بالحرية أو الاعتماد على العقلانية، وعندما كنت أكتب (مبحث تعليل الأحكام) وجدت أن معظم الفقهاء يستبعدون التعليل (أى البحث عن علة إنزال الحكم)، وبعضهم مثل الشيخ الشعراوى يرى أن الحكمة هى الأمر، فعندما يقول الله صوموا فإن علينا أن نصوم تلبية لأمره وليس لأن الصيام مفيد أو لأن الصيام يشعرنا بالجوع والعطش.. إلخ.
الحكمة هنا هو أن الله أمر، والله تعالى أعلم من كل واحد، وهل يعلم المريض سر الدواء الذى يعطيه له الطبيب أو يناقشه فيه؟
وانتهيت إلى نتيجة مهمة.. هى أن البعد عن الحرية والعقلانية تعود إلى أن الفقه الإسلامى لا يؤمن بقدرة الإنسان بعقله المجرد معرفة الحسن والقبيح، والخير والشر، إذ بديهيًا مادام الإنسان يجهل السر فإنه أعجز أن يحكم على علة أو حكمة الأحكام، ومعروف أن معظم الفقهاء الإسلاميين يميلون إلى هذا، وأن المعتزلة هم وحدهم الذين اختلفوا وقالوا بقدرة الإنسان على التحسين والتقبيح العقليين، وكان ذلك من أسباب استبعاد الفقه الإسلامى ورميهم بمختلف الصفات.
علمًا بأننا استبدعنا من مجال التفكر والتعليل ما جاء فى العقيدة مثل طبيعة الله، ومثل اليوم الآخر، لأن هذه من الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.
وكان جمال البنا يستطيع أن يكسح كل هذا الغثاء وذلك بالعودة إلى طبيعة الإسلام الذى يقيم الحياة الآخرة، ويحاكم كل واحد على عمله، فمن أحسن فإلى الجنة، ومن أساء فإلى النار، إن الإسلام لا يمكن وهو يقوم على هذا أن يقيد الحرية الإنسانية لأنه إذا قيدها فإنه لا يحاسب على ذلك ولا يعتد بما يصدر من أحكام تحت الضغط أو التعذيب.. إلخ.
لابد أن يكون الإنسان الإسلامى حرًا فى تصرفاته، له القدرة على الاختيار والتفضيل، والتقدير والتمييز ليتفهم الإسلام ويتبعه ويتجنب الشرك ويبعد عنه، فالحرية هى فى جذورها هى قضية الإرادة الإنسانية، وفى جذر قضية الإرادة الإنسانية قضية الحساب والعقاب التى قام عليها اليوم الآخر.
وبالتالى فلا يمكن أن يقيد ثم يحاسب، والمفروض أن يكون حرًا، فتصح عليه الأحكام والأفعال.
وبهذا المقياس يمكن أيضًا إثبات العقلانية، فإذا افترضنا أن الإنسان لا يملك بعقله المجرد معرفة الحسن من القبيح، فعلى أى أساس نطالبه بالإيمان بالإسلام وتفهم قواعده وأداء واجباته، فهذا هو ما يمكن للإنسان الذى يميز الحق من الباطل والحسن من القبيح، وأى تجاهل لهذا أن يقوم به، وأى كلام غير هذا يخالف طبائع الأشياء، فإذا لم يكن فيما سقناه من كلام فإننا سنستخرج من القرآن الكريم ما يثبت أن الإنسان حر يحاسب على أساس حريته.. عاقل يعامل على أساس ذلك، وإذا كان أبلها ولا يستطيع أن يميز.
وبعد هذا.. أو قل قبل هذا علينا أن نعود إلى القرآن الكريم وما قرره فى مجال الحرية التى تبعث على التفكر، وكلام الفقهاء الذين يقررون أن العقل شرطاً لتكليف، وأن من لا يعقل لا يحاسب، وكان يجب أن يفهموا أن المسلمين جميعًا عقلاء حتى يجوز عليهم التكليف.
والآيات القرآنية عديدة ومنها:
«وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف:٢٩).
«لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىّ» (البقرة:٢٥٦).
وذكر القرآن الكريم الردة فلم يفرض عليهم عقابًا دنيويًا وإنما أرجأ حسابهم إلى يوم القيامة:
«وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة:٢١٧).
وأين هم من الآيات التى تأمر بالفكر.. والتدبر.. والسير فى الأرض.. وابتغاء الحكمة؟:
«وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ» (الملك:١٠).
فهل يعقل أن يخاطبهم الله هذا الخطاب الرشيد لو أن ملكة العمل أو آلية الفكر قد تعطلت، وأن الإنسان لا يميز بنفسه بين الخير والشر، وليس له الحرية فى أن يفعل كما يشاء؟
وهكذا نرى أنه قد توفرت للإنسانية الإسلامية مقومًا العقلانية والحرية، وأصبح الفرد المسلم على يمينه الحرية، وعلى يساره العقلانية.
■ ■ ■
قد يقولون لقد سبقتكم أوروبا، ففى أوروبا الإنسان حر طليق، وهو يتمتع بالحرية والعقلانية، ومن أجل هذا تفتحت أمامه آفاق النظر.
فنقول لا يمكن أن تكون «سبقتنا» أوروبا لأنه عندما نزل القرآن كانت أوروبا تتخبط تحت ضغط الخرافة ولم تتقدم إلا خلال القرون الخمسة الأخيرة، ومع أن حرية الإنسان فى المجتمع الأوروبى مطلقة، فإن هذا ليس ميزة مطلقة وهو السبب الذى أدى بأوروبا إلى الشطط والمبالغة والسير دون قيد أو شرط وراء الأهواء، أما فى المجتمع الإسلامى فإن الإنسان مؤتمن على رسالة من أعظم الرسالات، ولهذا لا يمكن أن تقوم فيه صور الشطط والمبالغة ولا الظلم الذى اشتهرت به أوروبا، ولا الحروب التى دمرت العالم.. حربان فى حقبة واحدة.
إن التصور الإسلامى أفضل من التصور الغربى، ولكنه لم يُفعّل، وكان السبب الأعظم فى هذا هو سوء نظم الحكم.