موقع الشريعة الإسلامية فى الدستور الجديد (٢ ٢)
جمال البنا
الحوار المتمدن
-
العدد: 3715 - 2012 / 5 / 2 - 08:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بين الحكم بالقانون والحكم بالأصوات
فى سنة ١٩٥٥ احتفل البنك الأهلى المصرى بعيده الخمسينى، ودعا الكاتب السياسى «ف. أ. هايك» الذى كان قد رزق شهرة كبيرة فى العالم الأوروبى بعد نشره كتابه «طريق العبودية» لإلقاء محاضرة فى هذه المناسبة، فاختار موضوع «المثال السياسى لحكم القانون».
وأجرى مقارنة بينه وبين الديمقراطية، فقال: إن حكم القانون كان هو المثال لكل الفلاسفة والمفكرين، وكان فى أثينا يطلق عليه إسنوميا «isnomia» وهى كلمة أنسيت بعد ذلك، وتقهقرت أمام كلمة «الديمقراطية»، وعندما ظهرت فى قواميس القرن السادس عشر ترجمت إلى «المساواة أمام القانون» أو «حكومة القانون» أو «سيادة القانون».
وقال هايك «استخدم أفلاطون الكلمة كمضاد صريح للديمقراطية وليس كمرادف لها، كما تعد الفقرات التى جاءت فى السياسة لأرسطو، خلال مناقشته أنواع الديمقراطية، دفاعًا عن حكم القانون، وليس عن الديمقراطية، الأمر الذى يدل عليه قوله: «من الأفضل أن يحكم القانون عن أن يحكم المواطنون»، و«أن يعين الأشخاص الذين يتقلدون المناصب العليا كحماة وخدمًا للقانون»، وكذلك إدانته الحكومة التى «يحكم فيها الشعب وليس القانون، وحيث يحدد كل شىء بأغلبية الأصوات وليس بالقانون»، ومثل هذه الحكومة لا تعد فى نظره حكومة دولة حرة، لأنه «حيث لا تكون الحكومة فى يد القوانين فليس هناك دولة حرة، لأن القانون يجب أن يكون أسمى من كل الأشياء الأخرى»، بل إنه ذهب إلى أن تركيز القوى فى أصوات الشعب لا يمكن أن يسمى ديمقراطية، لأن مدى قراراتها لا تكون عامة، وفى كتاب «البلاغة» قال «إنه لمن أعظم الأمور أهمية أن تحدد القوانين السليمة نفسها كل النقط، ولا تدع إلا أقل ما يمكن للقضاة».
من هذا الكلام يتضح أن فكرة الحكم بالقانون تفضل فكرة الحكم بالأصوات التى هى المضمون الحقيقى والعملى للديمقراطية، وأن الذى جعل أوروبا تفشل فى تطبيق هذا المثال هو عجزها عن الوصول إلى القانون الموضوعى - القانون الذى يكون قاضيًا، وليس القانون الذاتى الذى يكون محاميًا لمصالح الفئة التى وضعته، وهو ما يوضحه المبدأ الرومانى الذى كان يجعل كل الطرق تؤدى إلى روما، وقانون نابليون الذى جسّم مصالح البورجوازية الصاعدة، والقانون السوفيتى الذى جعل قيادة الحزب مرجعية التحليل والتحريم، وهذا العجز منتف بالنسبة للإسلام، لأن القرآن يقدم القانون المنشود بالفهم الذى قدمناه والضمانات التى أوردناها.
ضمانات إسلامية لحماية «مدنية الدولة»:
لمّا كانت إقامة دولة لا تعد جزءاً لا يتجزأ من العقيدة ولكن من الشريعة، ولمّا كان الإسلام دعوة هداية، فإن ما جاءت به الشريعة من توجيهات يمكن - إذا أخذت من القرآن ومن عهد خلافة الشيخين - أن يُعد ضمانات لمدنية الدولة، لأنها لا تستهدف «الحكم الإسلامى»، ولكن هو ما يقيم الحكم الرشيد، ولهذا تضمن الكثير مما يحقق مدنية الدولة بصورة تجاوز ما توصلت إليه أكثر الدول حداثة.
من ذلك:
أنها دولة «المواطنة» بمقتضى وثيقة المدينة التى وضعها الرسول غداة وصوله المدينة، وقررت أن الأنصار (وهم السكان الأصليون للمدينة)، والمهاجرين (وهم سكان مكة المسلمين الذين التجأوا إلى المدينة)، واليهود (الذين تحالفوا مع الأنصار) أمة واحدة، للمسلمين دينهم ولليهود دينهم، وهم يدافعون عن المدينة... إلخ.فهذه الوثيقة جعلت من هذه الفئات الثلاث «أمة واحدة» - أى أن المهاجر يصبح عضوًا فى هذه الأمة، وكذلك اليهودى، وليس لهذا من معنى إلا المواطنة.
تقرير حرية الفكر والاعتقاد : لقد قرر القرآن فى أكثر من مائة آية حرية الاعتقاد «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، «لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ»، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»، كما لم يجعل القرآن الكريم للرسول سلطة على المؤمنين فليس هو مهيمناً، ولا مسيطرًا، ولا حتى وكيلاً عن المؤمنين، إنه بشير.. ونذير.. ومبلغ عن الله، ولا أدل على تقبل الإسلام لحرية الاعتقاد من أن القرآن الكريم ذكر الردة مرارًا وتكرارًا دون أن يُقرنها بعقوبة دنيوية، وإنما وكل أمرها إلى الله - تعالى - يوم القيامة.
أما ما يدعيه الفقهاء من نسخ أو تفسير، فلا يؤخذ به، لأنه ليس إلا تعبيرًا عن فهم هؤلاء للقرآن، فى ظل ظروف وثقافة معينة وتحت حكم استبدادى سلطوى، أما الحديث الذى رواه عكرمة - وهو مولى ابن عباس: «من بدل دينه فاقتلوه» فلا يؤخذ به، وقد استبعده الإمام مسلم قبلنا فلم يدخل فى صحيحه، كما أن المستحيل أن يأتى حديث يناقض القرآن.
مبدأ تعددية الأديان : من التوجيهات، بل القواعد التى أكدها القرآن (الإيمان بكل الرسل) ما ذكروا بالاسم وما لم يذكره القرآن، بل وعدم التفريق بينهم. فالإسلام هو الدين الوحيد الذى يوجب على المؤمنين الإيمان بكل الرسل وعدم التفرقة بينهم، إن سورة «الكافرون» قد قررت وأبَّدت التعددية فى الأديان لأنها تقرر :
( أ ) أن غير المسلمين (الكفار) لن يتخلوا عن دينهم.
(ب) أن المسلمين لن يدخلوا فى ديانة الكفار.
(حـ) ومن ثم فلا يبق إلا الاعتراف بهذا التعدد «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ».
وأى نص أدعى للتعدد من «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»؟ (العنكبوت : ٤٦).
■ ■ ■
قد تكون لفتة حسنة تربط حاضر الأمة بماضيها المجيد أن يذكر نص الخطبة التى أدلى بها أبوبكر غداة انتخابه وجاء فيها: «وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم»؛ لأنه على اختصاره يبلور حق الشعب فى معارضة الحاكم إذا أساء، وواجب الشعب الطاعة إذا أحسن، وأنه يحكم بقانون أو دستور وليس من تلقاء نفسه، فإذا أخل به فليست له طاعة، إن هذه الخطبة بسطورها الخمسة أجملت عناصر الديمقراطية أفضل إجمال، وقد يمكن إيرادها فى الدستور عند ذكر العلاقة بين الحاكم والمحكوم.