تقسيمات: على قرع الطبول


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 3428 - 2011 / 7 / 16 - 14:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


الرسالة التي أودعها أدونيس في صندوق “المعارضة” بدت ظاهريا مختلفة عن رسالته للرئيس السوري، التي تلقّت سهام النقد وسياط الغضب. وكالعادة توقفت مليا عندها فنثر الشعراء له نكهة الشعر من حيث أنه تكثيف للمعنى، وصياغة فذّة لما نراه ونعجز عن وصفه. وإلا يكون الشعر لعبا بالكلمات أو هذيانا وإبهاما.. لهذا فإن نثر الشاعر أبلغ من الفكر، أو أوضع من السفسطة.
في البداية لفتني العنوان الذي سطره للرسالة “أبعد من النظام، وأوسع من السياسة” عنوان ذكي لتأكيد دور الثقافة في الحدث، مع أنه يخبئ بعضا من التعالي، ويوحي بأن النظام أقصر قامة من كلماته والسياسة أضيق منها. وهذا حق المثقف وإن بدا عجرفة. لكن هل يختلف النص عن سابقه ؟ الإجابة: لعم (لا ونعم)
في رسالته السابقة للرئيس لم يُبرز رفعة الثقافة وسموّها على السياسة ومشاعر العصبية. بل جعلها تتملق السياسة، وتخطب ودها، وكما أشار أحد المثقفين. فقد إستعذب الشاعر أجواء الآداب السلطانية وتقديم المشورة والنصح، كما لو أنه في زمن الماوردي والطرطوشي.. لذلك لم يجرؤ على قول ما يُغضب. أراد أن يحفظ المقام لأصحابه فتخلى عن دور المثقف في فعل النقد..وبدل أن يقصف أهدافا حقيقية محددة، ألقى حمولته على أرض خالية إلا من بقايا حزب “وهمي” رحل مع أصحابه. وعلى دين (حاضر غائب) يشقّ تعريفه وتحديد ماهيته ومكان تواجده.

هذه المرّة وجه رسالته لشخصية تجريدية إسمها “المعارضة” ومهما علا مقامها تظلّ غير مهيبة الجانب، ولا تستحق عبارة ”سادتي المحترمين” ومن السياق يستدرك القارئ أنها المعارضة السميرأميسية النخبوية، وقد يكون ذكرها في المتن تطويقا لما يثير غضب السلطة، أو تناغما مع رضاها وقبولها لتلك المعارضة، سيما أنها تضم عديدا ممن سبق وعرفتهم أو عتّقتهم في أقبيتها لسنين طويلة، كالمثقف اليساري ميشيل كيلو وآخرين (من أوزان مختلفة) وبكل الأحوال فإن الشباب الذين يخطّون كلمات الغد في أزقة سوريا ليسوا “المعارضة” التي قصدها برسالته، تماما كباقي المعارضات المريبة المتناثرة في أرجاء المعمورة؟

1ـ يفتتح آدون نصه بالسؤال عن سرّ فشل العرب في إنشاء دولة المواطنة وكيف أن السلطة هي “نظام” للغلبة والتسلط، وكيف أن التغيير هو صراع على غنيمة السلطة؟ وهنا يعثر على بيت الداء الذي يلخصه بمسألة إرتباط الحكم بالدين منذ أربعة عشر قرنا و “تطبيق الإسلام” الصحيح؟ بكل أزماته الجدالية “النقل والعقل وخلق القرآن وعدمه ..إلخ” وأن ما يحدث هو تنويع لهذه الأسئلة لذا فإن الثورة ستبقى صراعا على السلطة إن لم تضطلع ببناء مجتمع جديد على ركام الماضي.
في هذا الموجز المُخترل بقسوة تُطرح أسئلة كثيرة وفضفاضة وعابرة للعصور عن كينونة الدولة وعلاقتها بالدين. وتحديدا لمسار الموضوع وإيضاحا لهذه النقطة يمكن حسب رأيي تقسيم شكل الدولة التي سادت العالم إلى قديمة وحديثة:

الأولى عرفها العالم ولا تزال تعيش ليومنا وهي دولة السلالات بمفهومها الخلدوني التي ترتكز على الشوكة والعصبية. سلالات حكمت الشرق والغرب وكانت أحيانا عابرة للحدود نعرفها قبل سلالة المقدوني إلى العرب والترك السلاجقة المغول إلى العثمانيين إلى ..؟ وعادة ما تقوم السلالة الظافرة بعد توطيد حكمها بسيوف المحاربة، إلى فرض شرعية القوة وسك العملة وتَمَثّل (وأحيانا إعتناق) ثقافة المجتمع المغلوب عبر حلف مع الناطقين بلسان ثقافته الكليّة (الدين، والتقاليد) لذا فإن ربط الحاكمية بالإله لم يكن جوهرا بذاته، بل ضرب من السياسة البراغماتية، فكلّنا يعلم أن الحكام السلاطين من الأمويين إلى العثمانين إلى قابوس لم يكن يعنيهم “الدين” إلا لتثبيت أركان الدولة، وعندما يقتل السلطان العثماني أولاده وإخوته، فإنه لا يقتلهم بسبب خلاف حول خلق القرآن أو أي جدل متيافيزيقي آخر بل بسبب السلطة نفسها. إنها الجزء المهيمن على الإجتماع البشري منذ إختراع الملكية

الثانية، هي دولة المواطنة الحديثة: ولا شك بأنها ذات جذور أورو ـ مسيحية بدأت ملامحها بالتشكّل مع تطور الإقطاع ( نبلاء ـ كنيسة ـ قنانة) الذي جمع بين أفراد مقطوعي الجذور القبلية. وهنا إستميحكم العذر لإقتباس رأي سبق ونشرته:
تحضرني ملاحظة جديرة أوردها أمين معلوف في خاتمة كتابه: الحروب الصليبية، إذ ينقل شهادات من العصر الأيوبي تؤكّد أنّ الفرنجة (البرابرة) أنشؤوا في المشرق ممالك مستقرّة ذات مؤسّسات، تعاقد فيها الإكليروس والفرسان والنبلاء، حيث انتقلت فيها السلطة بيسر وسلاسة. ورغم تخلّفهم في الفقه القانونيّ إلا أنهم"عدلوا في توزيع الحقوق"، أمّا السلطنات الإسلامية "المتحضّرة نسبيا آنذاك"، فقد خضعت غالبا لنزوات السلطان وبطشه وعشوائيته، وكان رحيله نذير حروب أهلية

وقد يكون نظام العصبيات (قانون الدم) هو الأبلغ لوصف المشرق العرب ـ إسلامي، حيث كانت مدنه أسيرة أبديا لمحيط بدويّ يسيل لعابه عليها، فمعظم السلالات التي تناوبت على ركوبه (عرب، سلاجقة، مرابطون، كرد، ترك) كانت من أصول قبلية، بعكس أوروبا الوسيطة التي عاشت منذ سقوط روما وفق نظام جمع النبلاء والكنيسة والقنانة في إقطاعيات ربطتهم قسريا ووجوديا، لتكوّن فيما بعد بذرة وعي جمعيّ انبثقت منه فكرة التضامن والوطن والدولة الحديثة. أمّا في المشرق فقد ساهم مناخه الحارّ الجافّ في خلق أنماط معاشية تتيح للسكان الترحال بين حياة الوبر والمدر، وهذا ساهم في قلق المدينة (مركز الأرثودوكسية والكتابة) وقلق فكرة الوطن في الذات الجمعية، وما زالت صور هذا القلق تتجسد في لاوعي مشاعيّ (أرض الله واسعة) واستهتار بالمصالح العامّة وقيم التضامن واقتران مفهوم "الحكم" بالغنيمة أو السلطة الغاشمة، مع أنّ الجذور الدلالية للفظ "حَكَمَ " تدلّ على "العدل والحكمة" (إنتهى)

2ـ بالطبع كان وراء هذا الإقتباس المسهب (والغثيث) محاولة لزجّ تصوّرات تاريخ ـ أنتروبولوجية غرضها إبعاد الصورة المُبسطة التي تختصر صيرورة التاريخ في جملة منمقة، فالدولة والدين وما بينهما سياق من الجدل التاريخي عكسته بنى تحتية وظروف معيشة وإنتاج وديمغرافيا وحمولات رمزية متنوعة. وهي تراكم لطبقات شديدة التلاصق وأعقد بكثير من تبسيطها
لذلك كان لابد من التقاطع والتعارض مع أطروحة أدونيس الثانية (وهي تنويع على الأولى) وملخصها حسب كلماته:
“المجتمع العربي ـ الإسلامي مؤسس، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، على الدين في ارتباطه الوثيق ببنيته القبلية ـ الإتنية، وبالسلطة والصراع التاريخي، العنفي، وكل تغيّر في أي ميدان لا يمكن التعويل عليه، إذا لم يكن صادراً عن إعادة نظر جذرية (...،) في هذا الأساس ، والمعارضة،(..) إما أن تكون على مستوى التاريخ والمستقبل: عملاً لبناء مجتمع مدني إنساني جديد، وإما..“ (إنتهى) [وإما فلتذهب إلى الجحيم؟] وسبب التقاطع هو عمومية الطرح وما يتركه من إنطباع مريب يوحي بوضع العصي في عجلة “ربيع عربي” تكرم عليه مشكورا وقال بأنه: “ظاهرة فريدة، وعظيمة”
فلماذا نُغرق “المعارضة أيا كانت” بمقولات ضبابية، ونحمّلها أكثر من طاقتها ونشترط عليها مقدما تفصيل مجتمع ومنظومة قيم، تتناسب مع مزاج جالسي المقاهي الباريسية، ألا يكفي أن نستذكر قليلا طربوش فارس الخوري وشكري القوتلي وما شهدته سوريا قبيل الإستقلال وبعده؟ فما جرى في تلك الأيام لم يكن تنويعا على مسألة دينية، بل كان بعمومه قطافا يانعا لدولة دستورية ضمنت قسطا كبيرا من المواطنة والمدنية، التي أتاحت لأدونيس (ولكاتب السطور وكل مهمشي الأرياف) الطبابة والتعليم ودخول الجيش ووظائف الدولة، دون إنكار أنها كانت محكومة من أعيان المدن التجارية وعائلات من بقايا الإدارة العثمانية وصفوتها. لكنها على علاّتها وأمراضها قد مثّلت عصرا ذهبيا مقارنة بطاعون الفساد والتصحير والعسكرة الذي إبتلع سوريا..ألا يكفي إستذكار ذلك لمعرفة أن أية فرصة سلمية “للتغيير” هي بالمحصلة تقويم لإعوجاج وقسر وإكراه، أذلّ كثيرا من السوريين وسرق من عمرهم نصف قرن.

3ـ لكن وقبل الإستفاضة دعني أتوقف قليلا عند النقطة الرابعة التي يعلن فيها الشاعر عن تأييده للتحقيق في جرائم التحريض الطائفي أيا يكون مصدرها يقول: “ فلئن كانت جرائم القتل العادي ـ المادي «عمياء»، فإن جرائم التحريض الطائفي «بصيرة»، وهي إذاً، أشد هولاً وفتكا” هذه مقولة رائعة بحق، وترسم على محيا القارئ إبتسامة رضى.. السؤال ما هو السبيل لتحقيق ذلك في غياب دولة القانون؟ أجل إن الإتيان بأي “سلفي” ومحاكمته بتهمة التحريض الطائفي أسهل من شربة ماء. لكن من يستطيع مقاضاة “القاضي” إن حرّض على الطائفية؟ ومن سيحاكم زمنا يعوم فوق بحر من الإمتيازات والنهب والفساد؟ هل كان يقصد بأن المعارضة باتت قاب قوسين أو أدنى، وهي التي ستضطلع بالمهمة (متكأ على تصريحات السيدة كلينتون المتزامنة مع نصّه) أم أن السلطة نفسها هي التي ستقوم بذلك؟ بالتأكيد قصد الثانية، الأمر الذي يجعل من الإبتسامة أشد مكرا

وهكذا يستمر ويفتح سجلا لدولة مدنية تعددية، تشترط التدين الفردي وحق اللاتدين، والمساواة والحرية، ثم يُذكّر بإنتقاص مواطنية المسيحيين والأقليات الكردية والتركمانية والأرمنية والشركسية. وحرمانهم من حقوق قومية وإثنية. وهذه أمور حيوية ومهمة يجب طرحها بصوت مدو ودون هوادة. لكن الغريب هو تكرار الفكرة فالنص لا يقول جديدا كل ما فيه إيقاع واحد وتنويع على مسأله واحدة، تماما كقرع الطبول في السودان، يقول: “والمهم إذاً هو تغيير الأسباب والعوامل. فهذه بالنسبة إلى النظام السوري قائمة على ثقافة قروسطية، يلعب فيها الدين، مقترناً بالعصبية المذهبية ـ القبلية، الدور الحاسم الأول” بمعنى آخر تراه يقول يجب تغيير المجتمع فهو العلّة والمعلول،و كأن السلطة غير مسؤولة عن شيئ، فكما كنتم يُولى عليكم. وبعد أسطر قليلة يضيف: ”كيف يمكن إذاً أن تنشأ في سوريا «دولة ديموقراطية، مدنية، متعددة»، إذا كان مستحيلاً أن يُسنّ أي قانون أو تشريع لا يتفق مع «المفهوم الإسلامي الصحيح» وفقاً لعبارة الجامع الأزهر في وثيقته الأخيرة، أو «الرؤية الإسلامية الصحيحة»؟ (إنتهى)

إذا تجاوزنا الإطناب والتكرار والترادف في عموم الرسالة. يمكننا السؤال عن سرّ هذا الخلط الغريب بين الأشياء، فما شأن سوريا ودولتها الديمقراطية المتعددة الموعودة، بالأزهر ووثيقته ورؤيته الإسلامية سواء كانت صحيحة أو عوراء؟ ومن يقبض الأزهر؟ فالإسلام الصحيح يحتوي أيضا على فقه العبيد والإماء، وإقامة الحدود (قطع اليد والجلد وأحيانا الرجم.. وعقيدة الولاء والبراء.. وهناك من ينادي بالنقاب وفرض الجزية على الذميين وإرضاع الكبير وبول البعير. وتحريم الغناء والموسيقى والرسم وإنكار كروية الأرض.. إلخ)

إن هذا الإسلام “الصحيح” خرج ولم يعد؟ خرج منذ أعلن الدستور العثماني بُعيّد تنصيب عبدالحميد الثاني عام 1876م (علّقه السلطان ثم أعيد عام 1908) منذ ذلك الوقت لم يعد هنالك مكان للشريعة القروسطية. وللتذكير فقط فإن هذا الدستور أخذ بجوهره قيم الحداثة (وإستلهم معاييره من المُشرع البلجيكي) وأقرّ الحقوق العامة لرعايا الدولة ومساواتهم أمام القانون دون النظر إلى ديانتهم، وقرر أن الحرية الشخصية مصونة ولا تُنتهك، وكفل حرية العبادة لكل الملل. وتعيينهم في المناصب الحكومية بشرط توفر الكفاءة ومعرفة اللغة التركية، وشدد على تجريم انتهاك حرمة المساكن، ومنع رجال الحكومة باقتحامها إلا بمضبطة قانونية؟؟ وأقام مبدأ فصل السلطات (بين الصدر الأعظم، ومجلس الأعيان والمبعوثان، والمحاكم الشرعية والملّية)
فإذا كان مركز الخلافة، وقبل أكثر من قرن قد أخذ بجوهر التشريع “النابليوني” وأصبح مرجعية لمعظم الدساتير العربية الجمهورية، فما شأننا بالأزهر ورؤيته ولماذا نجفل من كل عاطس إذا عطس ونرتجف من عودة الشريعة بثوب قندهاري؟

4ـ يا لها من سذاجة؟ هكذا سيرد البعض فالنهر لا يُخاض مرتين، وعصرك الذهبي ودستوره وطرابيشه (ضعها في مؤخرتك) فكلّها دُفنت تحت قمامة الزمن اللاحق. أثناء غفوتك نبتت لحى الأصولية بفضل الصحوة ـ البترودلارية وولاية الفقيه وإستفحلت السلطة القبلية فتزوجت الثروة، ثم غرقت السفن: وهاهو لبنان من أمامك والعراق من ورائك فأين المفر؟

لا أبداً. الزمن لا يعود القهقرى، فالعمل بشريعة القرون الوسطى يستحيل لأنه يحتاج نفس البنى الثقافية والإجتماعية والإقتصادية للقرون الوسطى. وهذا مستحيل في زمن التوتير والفيسبوك ووجود جيل من الشباب “الملّوث” بالقيم الكونية. ثم أية شريعة “صحيحة” تفرض ظلّ الله على الأرض، تظلّ مسألة إفتراضية عويصة حتى في منابع ألتشريع الإسلامي نفسه. ولعل علي الوردي لخّصها بسخرية لاذعة عندما قال ما معناه: لم يتفق فقهاء الإسلام إلا على خمس: أجرة الحمّام، وأجرة الحلاق، وأجرة ناصب حباب الماء، وضرورة إلقاء الشيرج (شراب) عند سقوط الفأر فيه، والخامسة نسيتها. الأمر لا يعني البته غياب الدين فهو مشكّل لمخيال ووجدان جمعي تضبطه طقوس يومية صارمة، كما تضبط الجندي في ساحة تحية العلم. الدين موجود ويُمّلي على الناس بعض حمولته. كما يُمّلي أحلام جورج بوش بأجوج وماجوج، وكما يزخرف خرافة أرض الميعاد وبناء وطن لليهود. إلا أنه متحوّل مع صيرورة الحياة وشروطها وأسئلتها. وليس ثابتا أزليا. إنه كالنهر لا يمكن أن تخوض فيه مرتين