أدونيس: في حضرة تاتانوس
نادر قريط
الحوار المتمدن
-
العدد: 3404 - 2011 / 6 / 22 - 11:40
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أدونيس شاعر كبير بلغ الثمانين، ولم يسأم تكاليف الحياة. هو شاعرٌ، قد لا تستعذب مهياره الدمشقي وثابته ومتحوّله، لكنه كبيرٌ، بإسمه الذي يطوف على الألسن، كذا هي الدنيا تحجب أسرارها فتمحو حدود العبقرية بين رسوم بيكاسو، وشخبطات الأطفال.. كذلك هو الشعر، فعادة ما أستنشق ياسمين شعر القباني، حتى وإن تجشأ سياسةً. وقلما أتذكر أدونيس حتى وإن رسم أفروديت على شطآنه. لا أدري لماذا؟ ربما أكون كبعض الدهماء جاهلا أحمقا! وما المشكلة! فلولا الجهل لما كان العلم ولولا أكتاف الحمقى لشقّ طريق الصعود.
المهم أن إسم الشاعر الكبير جذبني لقراءة رسالته إلى الرئيس السوري (السفير 14ـ6 ـ2011). وإذ لا سبيل سوى للإقتباس الحرفي، فأعتذر مقدما لهذه العادة القبيحة التي يستغلها البعض لتبعيض المحتوى وإجتزائه. عليه سأحاول رؤية النص بعين ثالثة، علّها ترى ما لم تره الأعين.
يخبرنا أدونيس في مطلع رسالته، بأن طريق الديمقراطية شاقٌ طويلٌ ويتوجب السير فيه حالا، وإلا فالمصير هو الهاوية، والديمقراطية التي لم يعرفها العرب حاضرا وماضيا تشترط كما يقول:
“الخروج بالمجتمع، ثقافيّاً وسياسيّاً من «زمن السماء، الجمعي والإلهيّ»، إلى «زمن الأرض، الفرديّ والإنسانيّ»“ أي “الفصل الكامل بين ما هو دينيّ وما هو سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ (..) ويضيف: لا ديموقراطية أساساً في الدين (...) دون مساواة، لا حقوق. لا اعتراف بالآخر. لا ديموقراطية” (إنتهى)
في الحقيقة لو أن ما قيل أعلاه أتى في محاضرة عامة، لربما صفقت مجاملة (رغم صفاقة الموضوع) لكنه أتى ضمن رسالة معنّونة لرئيس دولة وقائد عام، يتنقّل بآلة القمع الحديدية بين بلدات ومدن ناشرا فيها الرعب والدم. فما معنى أن أطالب ببدء الدمقرطة حالا.. وكيف؟ بإشتراط فصل السماء عن الأرض؟
أولم يكن من النافل أن أطالب وبدون فأفأة، بفصل جنازير الدبابات عن أجساد المدن والقرى، وفصل أحذية الميليشيات عن ظهور الناس العُزّل، قبل أن أفكر بالسماء والأرض وما بينهما. فكيف يمكن الحديث عن دمقرطة دون ضمان “حق الحياة والكرامة الآدمية” ومن ثم “حق الكلام“!
فزجّ الجيش بوجه الناس ليس تهديدا له وحسب بل لفكرة الوطن، إنه تجريف مسبق لأية ديمقراطية افتراضية..هذه الخاطرة لم تُلحّ على الشاعر الكبير، بل أتت عبر مقولة شعرية بيداغوجية مفادها:“لا يمكن لأية قوة عسكرية مهما كانت مدججة أن تتغلّب على شعب، مهما يكن أعزل” مع أن التجارب التاريخية تشي بأمثلة كثيرة تفنّد هذه المقولة..
ولكي لا نمّلي أو نصادر رؤية الشاعر ومساره، من الأجدى أن نعاين ما علق على شبكة دلالاته.. وهنا سأكتفي بثلاث نقاط تقع ضمن المساحة الرمادية والقاتمة، فوظيفة النقد ليس كيّل المدائح ولا الشتائم بل إستنطاق الصامت في النص والمسكوت عنه..
فعندما يعتبر أدونيس العَلمانية (فصل الدين عن الدنيا) فرض عين على الديمقراطية (آلية حكم الشعب) وشرطا لها. يكون قد سقط بتشويش ذهني، وخطأ صادم. فكلاهما (العلمانية والديمقراطية) وإن إقترنا في عصر الحداثة الليبرالية الحالي، وإشتبكا عمليا ومفاهيميا، لكنهما يظلّان من ثوبين مختلفين، فالأولى هي ثقافة ومنظور لرؤية العالم، والثانية (الديمقراطية) هي آلية للحكم عرفتها أثينة الآلهة القديمة وتركيا أردوغان، وماليزيا والهند واليابان، ولم تقتصر على الثقافة الأوروبية.
ومن حيث المبدأ فإن إشتراط العَلمنة ليس ضمانا لتحقيق حكم الشعب (أو حكم قواه المنتجة) فالمعلوم للقاصي والداني أن أعتى الفاشيات الدموية في التاريخ المعاصر كانت علمانية بإمتياز. فلماذا يسهو الشاعر عن هكذا بديهية؟! ألا يكفي العودة إلى الرسائل الفيدرالية لآباء الإستقلال الأمريكي أمثال جيفرسون وواشنطن وتوماس بن لنكتشف باليقين أن أمريكا (الديمقراطية) قامت على سلفية بروتستانتية (وإستعادة فكرة الشعب المختار) وأن تلك الرسائل أجابت على سؤال “ماذا نريد أن نكون؟” بشكل حاسم وقالت: “نريد أن نكون مملكة الرب”
أما لماذا إشترط أدونيس على الديمقراطية السورية المُفترضة، مسارا قسريا لائيكيا؟ الإجابة لاشك تكمن في شعوره القلق وخشيته من خطر يَعتقد أنه داهم ويتهدد مصير الأقليات في سوريا، مأخوذا بفداحة تجربة صناديق الإقتراع العراقية، التي أثمرت عن قروسطية يتحكم بها ساسة الطوائف وباعة (المسابح والخواتم وكواتم الصوت) وهنا أيضا يتعذر فهم الشاعر، الذي طالما تأفف من المقدس الإسلامي وتأويله الأرثودكسي، بينما ظلّ وفيا لثورة الإمام الخميني، ومتمثلا للروح الفوكوية المناصرة لحكم الشعب؟!
لكن السؤال المركب: هل بإمكان أفكار (أو هلوسات وأمنيات) تغيير الواقع وشبكة علاقاته المادية والرمزية (قوى الإنتاج، رأسمال، الطبقات،الشرائح مجتمعية. نظام الحكم..الدولة ) وهل يمكن توليد واقع جديد من خلال إصدار فرمانات ودساتير؟ وبكلمات مكررة: هل يمكن تخفيف حرارة الصيف بإلغاء شهر يوليو (تموز) من الروزنامة؟ وهل تتغيّر قبيلة من عراة غابات بوتسوانا الأفريقية، من خلال تلقينها دروسا في الفيزياء وحضورها مسرحيات غوغول، وسماع موسيقى باخ؟ أم أن لأولئك لغة ومفاهيم ورموز ترتبط عميقا ببيئتهم وظروف الإنتاج والمعاش التي عاشوها ويعيشونها..
المعذرة لم أقصد بهذا المثال الفج، العودة لما قبل الحضارة، فدأب الشاعر أن يتغنى بسوريا موطن الأبجدية، وإله الجمال والخصب „آدون” لكن هذه السورية المُتخيّلة إنقرضت (ابستمولوجيا) وما نراه أمام بصرنا وبصيرتنا مزيج من العصبيات والتوحش والتعذيب القروسطي ونزوع مضطرد نحو “الحيونة” وسحق إمكانية بلوغ “الأنسنة”.
ومن المؤسف أن يصمت الشاعر على هذا العنف الدموي العاري والإعتقال والتعذيب .. ومن الحيف أن يلجأ للتحذير من العنف “التهييجي” لطيف من المحتجين، فهاته المساواة الأدونيسية تفتقد أساسا للعدل من حيث عدم تكافؤ الفعل بين قوة الطرفين (السلطة وخصومها). ومن حيث أن العنف المقاوم ليس إلا صدى وإنفعال لعنف وترهيب مارسته وتمارسه أجهزة السلطة الغليظة، إضافة إلى أن كلّ العنف التهييجي المضاد يعود لموروث قانون العصبيات، الذي يحتجّ على الدم بالدم، لهذا أتعجب كيف أن أدونيس لم يرَ في سطوره ثقل الإنتفاضة السلمية ذات الطابع القرباني المسياني التحرري، وكيف جفّ قلمه ورفع صحفه دون أن ينحاز لها بكلمات صريحة، وكيف غفل عن أنها إنتفاضة لسواد من الناس، أوصدت أمامهم أبواب الحرية والحياة الآدمية الكريمة.
إن ما يجعل نافل الكلام محض لغو، يعود إلى لغة التمويه التي فرضها الشاعر وألقى بحمولتها، فإطنابه في موضوعة حزب البعث، جعلت من خطابه أشبه بسفينة شحن، مُستأجرة لتهريب كيس طحين.. فعندما يقول للرئيس: “يبدو أنّ قدرَك هو أن تفتدي أخطاء هذه التجربة. أن تعيد الكلمة والقرار إلى الشعب” لا ينسى أن يضيف: „ ولا بدّ، بوصفك خصوصاً رئيساً منتَخَباً من أن تمهّد لتداول السلطة بموجب اقتراع حرّ بلا شروط مسبقة..” (إنتهى الإقتباس) ما هذا؟ فإذا كان الأمر كذلك، لمَ كان علينا تحمل وزر هذه اللطمية والمناحة، ولأي سبب دوّخنا أدونيس بكلامه عن الديمقراطية وشروطها السماوية والأرضية؟ ألا تنسف هذه المقولة كل ما ساقه من ذم وقذف بحق المغفور له “حزب البعث العربي الإشتراكي” .. أم أن أدونيس مستشرق قرأ تاريخ سوريا عبر ترجمات رديئة؟؟ ألم يتناهى إلى سمعه بأن حزب البعث لم يكن قط حركة فكرية أو طبقية ولم يؤسس لنظام شمولي مؤدلج (على طريقة الشيوعية التي إخترقت النسيج الثقافي للمجتمعات) بل كان أشبه بمنتدى شعائري (لإحياء الموتى) أسسه بضعة أدباء وخطباء من الدرجة الثانية، ثم ما لبث أن تمزق منتصف الستينيات، على طاولة القيادة القطرية، حيث المسدسات المحشوّة لقادة عشائر الجند (أمين الحافظ، صلاح جديد حافظ الأسد.. وفي العراق صالح عماش وحردان التكريتي وأحمد حسن البكر وو) فهل صحيح يا ترى أن نعلّق ما يجري على مشجب حزب متوفّي لم تكن شعارته إلا فرقعات صوتية؟ وحتى لو سلّمنا بأن للحزب أرضا وأفكارا وقف عليها..فما علاقته يا ترى بكل ما يجري من توحش وترويع.
الحقيقة أن أدونيس حاول بفهلوة وتذاكي تفادي صلب المسألة، وهي أن نظام الحكم (كما في عراق صدام ومصر وليبيا واليمن) قد قتل مبكرا مبادئ الجمهورية ودخل في نظام “السلالة الحاكمة” التي يحميها “قادة الجند” تلك هي المسألة وذلكم هو الرافع الحقيقي لشعار: الشعب يريد إسقاط النظام..
النقطة الثالثة التي تسترعي إنتباه الملاحظ هي موقف أدونيس المحيّر من الغرب وبالخصوص الأمريكي وتكراره لنفس المحتوى في مقطعين، يقول حرفيا في أحدهما: „لكنه (يقصد الغرب) «موفَّقٌ» في «الحجّة» التي تقدمها له سوريا، وفي «التسويغ» الذي يتيح له أن يقنّع استعماره الجديد بالدفاع عن الإنسان وحقوقه. هارباً من المعركة الحقيقية: معركة الإنسان وحقوقه في فلسطين” (إنتهى)
هنا بالذات يبدو لي أن الشاعر لم ينسَ رفع “قميص عثمان” على المنبر، أقول هذا رغم أن إسرائيل دولة أبارتهايد عدوانية قامت على عذاب شعب وتشريده، وبالتأكيد فإن وراء صورة فلسطين يتلطى دراكولا السياسة الغربية.. فما قاله أدونيس حق.. أراد به دغدغة وتكرار ما يُطرب أهل الحي. فمعركة الإنسان الحقيقية ليست (كما يزعم) بإسترداد حقوقه في فلسطين, بل في كل موقعة أخرى تُنتهك فيه كرامة الإنسان وحقه في الحياة والعدالة. ولعل السؤال الذي يلوح بالذهن: هل سيجازف الشاعر بتكرار تلك العبارة يوم 28 أغسطس 2011 تحت قبة كنيسة القديس بولس، حيث ستقام مراسم تقليده جائزة غوته الرفيعة، التي تقدمها مدينة فرانكفورت لآلهة الأدب؟ بكل حال وكي أخسر الرهان بجدارة، أتمنى أن يعيد مقولته تلك حرفا حرفا
ختاما.. وبعد أن وصلت سفينة أدونيس موانئ السياسة (محمّلة بكيس طحين) سأكتفي، تاركا لمن يريد إضاءة ما تبقى. والخلاصة فإن رسالته لا تُسمن ولا تغني ولا تزيد من فقه ولا جهل، لكنها تظلّ دعوة مفتوحة لإستئناف الصمت
ملاحظة: كُتب النص بتاريخ 18ـ 6ـ 2011