جناية العقل الفقهي على العلم (2)
عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن
-
العدد: 3004 - 2010 / 5 / 14 - 19:54
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جناية العقل الفقهي على العلم (2)
النموذج الثاني العالم ابن رشد: ولد عام (520ه) وتوفي سنة(595ه) =(1126-1198م) يقال أنه أخر فلاسفة الاسلام وانتهت الفلسفة بوفاته، واسمه باللاتينية (أفرويس). وقد وصفه أرنست رينان ( المتوفى 1892م) المؤرخ الفرنسي والداعي لنقد المصادر الدينية، بقوله: أخر ممثل لحضارة تنهار. وفي المقابل يصدق وصف توما الاكويني (1225 – 1274م) صاحب التأثير الواسع في نهضة أوروبا، بأنه الممثل الحقيقي لحضارة تنهض، ومعلوم أن الاكويني ممن استفاد من كتب ابن رشد وشروحاته على الفلسفة اليونانية،وقد نقل عن ابن رشد الكثير الكثير في نظرية الأخلاق والقانون الطبيعي.
ترجم الحافظ الذهبي لابن رشد بقوله: العلامة فيلسوف الوقت، أبو الوليد بن رشد القرطبي. أخذ عن ابي مروان وجماعة، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن ابن حزبول، ثم أقبل على علوم الأوائل وبلاياهم حتى صار يضرب به المثل في ذلك. قال شيخ الشيوخ ابن حمويه: لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد، لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا بداره بمراكش. وقال الذهبي: لا ينبغي أن يروى عنه.(سير إعلام النبلاء مجلد الواحد والعشرون)
ويبدو أن أبا يوسف يعقوب المنصور(الخليفة) رفعت إليه فتاوى من قبل فقهاء الدولة آنذاك بكفر ابن رشد وضلاله ومروقه من ربقة الاسلام، فقام الخليفة استجابة لخطاب العقل الفقهي بإبعاد ابن رشد إلى بلدة اليهود (إليسانه)، واصدر قراره بحرق جميع كتب ابن رشد الفلسفية، وقد بلغت مؤلفات ابن رشد ما يقرب من المائة، وقد شملت شتى العلوم والمعارف من منطق، وميتافيزقيا، وفلسفة، وطب، ورياضيات، ومناهج الادلة، والنفس، والاخلاق، والطبيعيات، والإلهيات، والتوفيق بين الفلسفة والوحي كما في كتابه المشهور؛ فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ومعلوم أن ابن رشد كان يؤمن بكروية الارض منذ ذآك الزمان.
والمفارقة الغريبة والعجيبة أن تحرق كتب ابن رشد ويكفر ويطرد من بلاده بينما في الطرف الآخر من بحر المتوسط تنتشر كتبه وتعد سلاحا من الاسلحة الاستراتيجية لدول أوروبا الناهضة، فقد أمر فريدريك الثاني في ايطاليا بتدريس كتب ارسطو بشرح ابن رشد في جامعة نابولي عام (1224)، كذلك فعل ملك فرنسا لويس الحادي عشر بإصلاح التعليم (عام 1473) فكانت كتب ابن رشد في مقدمة الكتب المختارة والمقررة.
أما في مسقط رأسه وبين أهله ومجالس الفقهاء في دار الإسلام! فالأمر مختلف تماما، فقد روى الأنصاري أنه لما قرئت (فلسفة ابن رشد) بالمجلس وتُدُولت أغراضها ومعانيها وقواعدها ومبانيها خرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج... وأمر الخليفة طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأن ابن رشد مرق من الدين وأنه استوجب لعنة الضالين..
ويبدو أن اعتداء العقل الفقهي على ابن رشد قد تجاوز حدود التكفير إلى مقتضياته من حرق الكتب والتهجير من الأوطان، إلى الطعن في الانساب بغية التشفي والانتقام لتحقيق الانتصار للذات، والحفاظ على مكانته الاجتماعية، والمصالح الذاتية، ومن ثم تخويف الناس من مغبة استعمال عقولهم والخروج على سلطان الفقهاء، وإمكانية تحريض وتثوير الناس على ذوي العقول والمفكرين، فقد ذكر الانصاري أنه، أُمر أبو الوليد (ابن رشد بعد المحاكمة الجائرة من قبل فقهاء السلطة) بسكنى اليسانة ( بلدة صغيرة يقطنها اليهود) لقول من قال، إنّه ينسب في بني إسرائيل وأنه لا يعرف له نسبة في قبائل الأندلس..
بل وصل الأمر بالعقل الفقهي إلى منع ابن رشد ومن على شاكلته من أرتياد إماكن العبادة، فقد روى الأنصاري عن أبي الحسن بن قطرال عن ابن رشد أنه قال: أعظم ما طرأ عليَّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه. (انظر:المنشور الذي نشره الخليفة في الأندلس والمغرب لمنع الفلسفة)
واللافت للنظر أن عمليات حرق كتب المفكرين وإفساد مصادر المخالفين للخطاب الديني الكلاسكي كانت من المسالك المؤدلجة لدى فقهاء المغرب والمشرق على حد سواء، فهذا الحافظ ابن تيمية يذكر أنه أمر بإفساد كتب خطيب أحد جوامع زمانه كان من قراء كتب الحكمة والكيمياء، فقد ذكر في مجموع الفتاوى: ثم أنه مات هذا الرجل وكان خطيبا بجامع، فلم يشهد جنازته من جيرانه وغيرهم من المسلمين إلا أقل من عشرة، وكان يعاني السحر والسيميا، وكان يشتري كتبا كثيرة من كتب العلم، فشهدت بيع كتبه لذلك، فقام المنادي ينادي على ( كتب الصنعة) وكانت كثيرة يعني كتب الكيمياء؛ فانهم يقولون: هي علم الحجر المكرم، وهي علم الحكمة، ويعرفونها بانواع من العبارات، وكان المتولى لذلك من أهل السيف والديوان شهودا، فقلت لولي الأمر لا يحل بيع هذه الكتب؛ فإن الناس يشترونها فيعملون بما فيها، فيقولون: هؤلاء زغلية(= الزغلية تعني الذين يزيفون العملة) فيقطعون أيديهم، وإذا بعتم هذه الكتب تكونون قد مكنتموهم من ذلك، وأمرت المنادي فالقاها ببركة كانت هناك، فألقيت حتى أفسدها الماء، ولم يبق يعرف ما فيها. (مجموع الفتاوى لابن تيمة29/378)
وتتجلى عبقرية العقل الفقهي في كونه استطاع أن يدرج علم الكيميا والجبر والفلك ضمن دهاليز السحر والشعوذة والتنجيم، بل بأقناع السواد الاعظم من الناس بأن تعلم الكيميا، والتعاطي مع الجبر، واعتماد الفلك، تعد أكبر جرما وإثما عند الله من الربا؛ أخذا وعطاء، وهذا ما أكده ابن تيمية وهو بصدد حديثه عن الكيمياء، فقال: ولم يكن في أهل الكيمياء أحد من الأنبياء، ولا من علماء الدين، ولا من مشايخ المسلمين، ولا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بأحسان. واقدم من رأينا، ويحكى عنه شيء في الكيمياء خالد بن يزيد ابن معاوية وليس هو ممن يقتدي به المسلمون في دينهم، ولا يرجعون إلى رأيه، فإن ثبت النقل عنه فقد دلس عليه. كما دلس على غيره. وأما جابر بن حيان صاحب المصنفات المشهورة عند الكيماوية، فمجهول لا يعرف، وليس له ذكر بين أهل العلم، ولا بين أهل الدين.
إلى أن قال: والكيمياء أشد تحريما من الربا، قال القاضي أبو يوسف، من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غرائب الحديث كذب. ويروى هذا الكلام عن مالك، والشافعي رضي الله عنهم أجمعين. (المجموع الفتاوى لابن تيمية: 29/373-374)
ومعلوم أن جابر بن حيان الكوفي ( 737-813م تقريبا) المجهول عند ابن تيمية، والذي ليس له ذكر بين أهل العلم والدين، هو من قال فيه مارسلن برتلو (1828م) العالم الفرنسي: أن لجابر في الكيمياء ما لارسطو طاليس قبله في المنطق(تاريخ العلوم عند العرب، لعمر فروح). كما لا تخفى منجزات جابر بن حيان العلمية لدى العقلاء، فهو مكتشف الصودا الكاوية، وحمض النتريك، وحمض الهيدرو كلوريك، وحمض الكبريتيك، والسموم، وغيرها، كذلك اعتماده على العمل المخبري والتجارب وعدم الاكتفاء بالفرضيات النظرية في علم الكيمياء كالتبخير والتقطير وغير ذلك، ويكفي أن اشهر مواد الدراسة تحمل اسمه؛ وهي مادة ( الجبر) والتي تدرس بكل اللغات في العالم.
وبعد كل ذلك يبقى جابر بن حيان عند العقل الفقهي نكرة ومجهول، ومجالس تدريس علومه لا تحفها الملائكة ولا تتنزل عليها الرحمة. نعود إلى ضيفنا في هذا المقال الفليسوف ابن رشد وجناية العقل الفقهي على علومه المتقدمة في إطار الزمان والمكان، وبالتالي جنايته على الأمة والبشرية جمعاء، من حيث حرمانها من الاستفادة المبكرة من أدوات مناهج البحث العلمي الحر، ومن إنتاج المعرفة ومنظومات الفكر الانساني والعقل الابداعي والاختراعات والصناعات المتطورة في كل مناشط الحياة.
ولعل نظرة خاطفة إلى أسلوب ابن تيمية في نقده لفكر وطرح ابن رشد، تكفي لوضع النقاط على الحروف في مدى جناية العقل الفقهي على العلم والابداع والتفكير الحر، ودوره في تخلف الأمة. فإذا كان كلام ابن تيمية على الكيمياء والكيميائيين كخالد ابن يزيد وعالم الجبر؛ جابر ابن حيان بتلك الطريقة سالفة الذكر، فإن كلامه على ابن رشد كان أشد وأنكى، حيث أنه كان يقدمه للناس على أساس أنه ملحد باطني، بل اليهود والنصارى خير منه، وتكفي هذه الديباجة لرفض فكره وكتبه، وهذا نص كلامه في نقده لابن رشد في مناهج الادلة عن صفة الارادة، فقال: ولما كان ابن رشد هذا يعتقد في الباطن ما يعتقده من مقالات المتفلسفة كانت غايته فيما أثبته من كلام الله، هو من جنس الإعلام العام، الذي يشترك فيه نوع الانسان. ولهذا كانت اليهود والنصارى أعظم إيمانا بالله وأنبيائه ودينه وبالآخرة من الفلاسفة، لكن في اليهود والنصارى من يسلك مسلك هؤلاء المتفلسفة فيجتمع فيه الضلالان.
إلى أن قال: لكن اولئك آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض، وهؤلاء المتفلسفة قد يقرون بجميع الانبياء والكتب، لكن هم في إيمانهم بجنس الأنبياء والكتب، يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، فخيارهم يؤمنون بدرجة من درجات إعلام الله وإيحائه إلى عباده، كما ذكر ابن سينا وابن رشد وأمثالهما، ولا يؤمنون بما فوق ذلك. ولهذا قد يكون اليهود والنصارى خيرا منهم، وقد يكون خيارهم أقرب إلى الإسلام من اليهود والنصارى من بعض الوجوه، ويكونون من هذا الوجه خيرا من اليهود والنصارى. ومعلوم أن المنافقين الداخلين في الإسلام فيهم من هو شر من اليهود والنصارى، وفيهم من يكون نفاقه أخف من كفر اليهود والنصارى. إلى أن قال: هذا كله على أصله إخوانه الفلاسفة كما تقدم....... وهذا مما يبين ضلاله. (درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية : 5/314-315-319)
وبعد وصفه بتلك الأوصاف صرح ابن تيمية بأن ابن رشد ملحد من الملاحدة، فقال وهو بصدد رده على ابن رشد عن صفة الكلام: ثم يقال له: بتقدير تسليم ما قدمته، قولك في القرآن باطل، وذلك لأنه لا يمكنك أن تقول فيه ما قلته في تكليم موسى، فإن موسى كلمه الله تكليما، فزعمت أنت وأمثالك من الملاحدة أن معنى ذلك خلق كلام مسموع في مسامع موسى، كما زعم المعتزلة- الذين هم خير منكم- أن ذلك كلام مسموع خلقه في جسم من الاجسام فسمعه موسى...(المرجع السابق: 5/ 320)
وقال في موضع أخر: هذا الرجل – يقصد ابن رشد !- يرى رأي ابن سينا ونحوه من المتفلسفة والباطنية، الذين يقولون إن الرسل أظهرت للناس في الايمان بالله واليوم الآخر خلاف ما هو الأمر عليه في نفسه، لينتفع الجمهور بذلك...(المرجع السابق:5/347) إلى أن قال: وهذا منتهى هؤلاء المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من المتصوفة؛ أهل الوحدة والحلول والاتحاد، ومن ضاهاهم من أصناف أهل الالحاد.(المرجع السابق: 5/354)
وقريب من هذه الاوصاف جاء ذكرها في مجموع الفتاوى، حيث قال: ولهذا اضطرب متأخروهم، فابو البركات صاحب المعتبر أبطل هذا القول ورده غاية الرد، وابن رشد الحفيد زعم أن الفلك بما فيه صادر عن الأول، والطوسي وزير الملاحدة يقرب من هذا.... ، وهم مشتركون في الضلال وهو إثبات جواهر قائمة بنفسها أزلية مع الرب لم تزل ولا تزال معه، لم تكن مسبوقة بعدم، وجعل الفلك أيضا أزليا، وهذا وحده فيه من مخالفة صريح المعقول والكفر بما جاءت به الرسل ما فيه كفاية ، فكيف إذا ضم إليه غير ذلك من أقاويلهم المخالفة للعقل والنقل؟! (مجموع الفتاوى لابن تيمية:17/288-289)
ويبدو أن سلاح العقل الفقهي في معركته مع العلماء يدور على ثلاثة محاور، المحور الأول: توظيف نصوص الدين ضد خصومهم من العقلاء، والمحور الثاني: تحريض العوام وتثويرهم ضد من يستعمل عقله، والمحور الثالث: الاستعانة بسيف السلطة لقطع دابر المفكرين أو من تسول له نفسه أن يفكر. فقد مر معنا اساليب توظيف نصوص الدين، وتحريض العوام، والآن يقدم لنا الحافظ ابن الصلاح الاسلوب الثالث في إدارة المعركة مع العلماء وأصحاب الفكر والنظر، وذلك من خلال الاستعانة بسيف السلطان، فقد ذكر ابن الصلاح المتوفى (643 ه) وهو بصدد حديثه عن المنطق والفلسفة، فقال: وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين وسائر من يقتدي به من أعلام الأئمة وسادتها وأركان الأمة وقادتها، وقد برأ الله الجميع من مغرة ذلك وأدناسه وطهرهم من أوضاره
وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية والحمد الله؛ فالافتقار إلى المنطق أصلا وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها بالطريق الأقوم والسبيل الأسلم الأطهر لكل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، لقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحر الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة. ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها، فقد خدعه الشيطان ومكر به. فالواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم عن المدارس، ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام لتخمد نارهم وتمحى آثارها وآثارهم، يسر الله ذلك وعجله.
ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها، ثم سجنه وإلزامه منزله ومن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم فإن حاله يكذبه والطريق في قلع الشر قلع أصوله وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملة والله تبارك وتعالى ولي التوفيق والعصمة وهو أعلم. ( فتاوى ابن الصلاح،المجلد الأول، للحافظ عثمان بن عبد الرحمن المعروف بابن الصلاح).
وهكذا يصر العقل الفقهي ويثابر على قلع الفكر والمفكرين أمثال ابن رشد وغيره من المدارس ومراكز التوجيه في أرض الاسلام، والغريب أن يجد الفكر المضطهد في بلاده وبين أهله أعوانا وانصارا واتباعا في غير أرضه وأهله ودينه ( وحقيقة أن المعرفة لا تعرف جهة ولا لونا ولا دينا)، وهذا الذي حصل تماما مع فكر ابن رشد، حيث انتقل فكره إلى الطرف الأخر من حوض البحر الابيض المتوسط وانتشر بين أناس يحترمون العلم والفكر والنقد ومنطق العقل. وقد ساهم ابن رشد في نهضة أوروبا بصورة من الصور، بينما يرتكس الطرف الأخر الذي سيطر عليه الخطاب الكلاسيكي، ورضي بتسليم زمام أمره إلى العقل الفقهي الذي يؤمن بالحفظ والاستذكار، والتسليم وعدم النقد والاستقصاء، والعفوية والارتجال.
وقد أصاب الجاحظ (ت 255ه) حين ربط بين انتاج الثقافات الواعية ومدى اعتماد البحث العلمي عند الأمم، فوصف تشكل الثقافة الفارسية واليونانية بأنها تشكلت بالقراءة والنقد واستفادة اللاحق من السابق، والانفتاح على تجارب الغير، بينما وصف المنتج الثقافي للعرب بأنه يعتمد الارتجال والعفوية وعدم القراءة والنقد منهجا، فقال: وجملة القول أنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس، فأما الهند فإنما لهم معان مدونة، وكتب مخلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة، وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة.
ولليونانيين فلسفة وصناعة ومنطق ..... وإلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد رأي، وطول خلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم.
وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام؛ أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب؛ وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدا من ولده.....(البيان والتبيين لابي عثمان عمرو الجاحظ، المجلد الثاني: 3/17-18)
وببركة العفوية والارتجالية وسيطرة العقل الفقهي على زمام الأمور تم حرمان البشرية من الاستفادة من أفكار أمثال هؤلاء العلماء واختراعاتهم وابداعاتهم المبكرة. فهل آن الأوان للتمرد على سلطة رجل الدين، والتخلص من الخطاب الارتجالي والعفوية الذي يتبناه العقل الفقهي، والمضي قدما في اكتشاف سنن الكون ونواميس الحياة، والمشاركة الفاعلة والايجابية في النهضة الانسانية، فضلا عن حفظ المتون، وفك رموزها، واستذكارها؟!!