مقاربة نقدية لحديث خير القرون قرني (3)
عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن
-
العدد: 2944 - 2010 / 3 / 14 - 14:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقاربة نقدية لحديث خير القرون قرني (3)
ثانيا: مقاربة في الجانب السياسي:
لا يخفى أن المقاربة الفكرية هي في حقيقتها قراءة لأحداث ونصوص تقع خارج إطار الذات الانسانية، وبالتالي فإن المقاربة محاولة فهم حقيقة تلك الاحداث باستنطاق سياقات ومساقات الاحداث والنصوص بغية فهم كنهها ودوافع شخوصها، لآن القرب والدنو (=المقاربة) من النصوص والاحداث لا تعني بحال نقل تلك الاحداث والنصوص بما لها وعليها(= قراءة استذكارية تمجيدية)، وإنما مقاربة تجعل الاحداث والنصوص الساكنة في دلالتها ومعانيها إلى نصوص حية متحركة باستنطاق سياقها التاريخي ومساقها الثقافي والاجتماعي والسياسي ( = قراءة استكشافية نقدية). وفي سياق هذه المقاربة الاستكشافية والتي يتفاعل فيها القارىء والمقروء تفاعلا ايجابيا بحيث لا يمكن وصف استنتاج المقاربة الاستكشافية بأنها استنتاجات خاطئة ما دامت النصوص في سياقها ومساقها تحتمل صحة تلك الاستنتاجات.
نحاول التقرب والدنو من الاحداث السياسية التي وقعت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها قراءة استكشافية وليست استذكارية تمجيدية؛ بغية فهمها أولا، والتخفيف من سطوتها على حاضرنا ثانيا. ومن تلك الاحداث التي نحاول مقاربتها في هذه الدراسة؛ حادثة سقيفة بني ساعدة، وحروب الردة، ومقتل عثمان بن عفان، ومعركة الجمل، ومعركة صفين، وما تلا ذلك من استباحة المدينة، وحرق الكعبة، ومقتل الحسين. وسبب اختيار هذه الاحداث دون غيرها لأنها لازالت تداعياتها وظلالها تحكم حاضرنا، وتشكل مستقلبنا، وتزرع بذور الطائفية والمذهبية فينا، وفي الآن ذاته كانت هذه الاحداث وراء تشويه قيم الوحي المعيارية كقيم العدل والشورى وإكرام الانسان والأخوة الإيمانية.
1-المؤتمر السياسي الأول المنعقد في سقيفة بني ساعدة (سنة 11ه).
نقف برهة عند طريقة تداول السلطة بين المهاجرين والانصار في سقيفة بنى ساعدة، والتي كانت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه، حيث تذكر النصوص أن الانصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة دون النظر إلى حضور المهاجرين أو استشارتهم أو إعلامهم، حيث انعقد اجماع الانصار في هذا المؤتمر على ضرورة اختيار خليفة يخلف رسول الله في إدارة الدولة، وكان الخليفة المنتخب والمتفق عليه من قبل الانصار هو سعد ابن عبادة أحد النقباء الانثى عشر الذين بايعوا رسول الله يوم العقبة، وعندما علم المهاجرون بتلك البيعة تركوا رسول الله مسجيا وهرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لإقاف بيعة سعد بالخلافة، وإلغاء انفراد الانصار بهذا الحق. فقال عمر عندما داخل وبعد مساجلات كلامية بينه وبين قيادات الانصار: هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن واحد، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، وولي أمورهم منها، ولنا على من آمن الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مول بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة؟!
فقام الحباب بن المنذر وهو أحد قيادات الانصار، وقال: يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه- يقصد عمر والمهاجرين- فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم فإنهم بأسيافكم دان لهذا الدين من لم يك يدين به. أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب. أما والله لو شئتم لنعيدنها جذعة.
ويبدو أن الخليفة (سعد ابن عبادة) المرشح من قبل الانصار كان طريح الفرش، فبعد المشادة الكلامية الساخنة بين عمر والحباب تدافع القوم فيما بينهم، حتى قال أناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطأوه. فرد عمر عليهم قائلا: اقتلوه قتله الله. ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك. فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر فقال: والله لو حصصت منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة. فقال أبو بكر: مهلا يا عمر الرفق ها هنا أبلغ. فأعرض عنه عمر. وقال سعد: أما والله لو أن بي قوة أقوى بها على النهوض لأسمعت من في أقطارها وسككها زئيرا يحجرك وأصحابك، أما والله إذا لألفينك بقوم كنت فيهم تابعا غير متبوع احملوني من هذا المكان فحملوه فأدخلوه في داره. ( انظر: تاريخ الطبري، والبخاري كتاب فضائل الصحابة)
وبالتالي امتنع سعد خليفة الانصار المقال من بيعة خليفة المهاجرين أبي بكر، بل واصل رفضه وامتناعه حتى لبيعة عمر الخليفة الثاني، ذكر ابن سعد في طبقاته عن محمد بن عمر قال حدثني محمد بن صالح عن الزبير بن المنذر بن أبي أسيد الساعدي أن أبا بكر بعث إلى سعد بن عبادة أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك فقال لا والله لا أبايع حتى أراميكم بما في كنانتي وأقاتلكم بمن تبعني من قومي وعشيرتي فلما جاء الخبر إلى أبي بكر قال بشير بن سعد يا خليفة رسول الله إنه قد أبى ولج وليس بمبايعكم أو يقتل ولن يقتل حتى يقتل معه ولده وعشيرته ولن يقتلوا حتى تقتل الخزرج ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس فلا تحركوه فقد استقام لكم الأمر فإنه ليس بضاركم إنما هو رجل وحده ما ترك فقبل أبو بكر نصيحة بشير فترك سعدا. فلما ولي عمر لقيه ذات يوم في طريق المدينة فقال إيه يا سعد فقال سعد إيه يا عمر فقال عمر أنت صاحب ما أنت صاحبه فقال سعد نعم أنا ذاك وقد أفضى إليك هذا الأمر كان والله صاحبك أحب إلينا منك وقد والله أصبحت كارها لجوارك فقال عمر إنه من كره جوار جاره تحول عنه فقال سعد أما أني غير مستنسىء بذلك وأنا متحول إلى جوار من هو خير منك قال فلم يلبث إلا قليلا حتى خرج مهاجرا إلى الشام في أول خلافة عمر بن الخطاب، فمات بحوران أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا يحيى بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة عن أبيه قال توفي سعد بن عبادة بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف من خلافة عمر.
ويبدو أن نهاية الخليفة المقال سعد ابن عبادة كانت تصفية جسدية، يقال أنه أغتيل بواسطة الجن؛ وما أدراك ما الجن وما يعلم جنود ربك إلا هو. فقد ذكر الحاكم في مستدركه، والطبراني في الكبير، والذهبي في إعلامه، وابن سعد في طبقاته، أن سعدا قام يبول، ثم رجع فقال: إني لأجد في ظهري شيئا، فلم يلبث أن مات، فناحته الجن، فقالوا: قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة بسهمين فلم نخطىء فؤاده. وأكد ابن عبد البر في الاستيعاب على مقتل الخليفة المقال بقوله: ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده.
وبعد أن استقرت الاوضاع وبايع الناس أبا بكر وتولى عمر بعده الخلافة ووصف عمر ما جرى من طريقة تداول السلطة يوم السقيفة بأنها فلتة وقى الله شرها المسلمين، ذكر البخاري مقولة عمر في صحيحه فقال: قال عمر بن الخطاب: إنما كانت بيعة أبي بكر فَلْتَة وتمَّت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرَّها... من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرَّة أن يُقتَلا.(صحيح البخاري،ومسند بن حنبل) لكن هل صحيح أن الله وقى شر هذه البيعة المسلمين، نحاول مقاربة هذه المقولة العمرية المشهورة باستنطاق سياقها ومساقها، ومآلاتها في انساق حروب الردة.
2- اسباب حروب الردة ...محاولة للفهم (11-13ه):
يبدو من استنطاق نصوص بيعة السقيفة والكيفية التي تمت من خلالها بيعة أبي بكر بالخلافة، ومن ثم تقرير مشروعية وشرعية النخبة القرشية، وحسم شرعية خلافة النخبة الانصارية بإقناعها بأحقية قريش بهذا الأمر، وبالتالي قبول أهل المدينة بشرعية المشروع النخبوي القرشي، بيد أن هذه الشرعية بالنسبة لمناطق الأطراف لم تكن مقبولة ولا مقنعة، لذلك عبر سكان الاطراف بأشكال مختلفة عن رفضهم لهذا المشروع القرشي والشرعية السياسية بالتمرد والعصيان على السلطة السياسية المركزية على الرغم من بقاء أغلبهم في دائرة الإيمان بالرسول والرسالة جملة.
ويمكن فهم بداية رفض سكان الاطراف لمشروع النخبة القرشية السلطة المركزية في المحاورة التي درات بين أبي بكر الخليفة ونائبه عمر بن الخطاب، حيث اصر الأول الخليفة أبو بكر بقتل هؤلاء الممتنعين عن أداء الطاعة بدفع قسطا ماليا لدولة العاصمة، بينما اصر الثاني عمر ابن الخطاب على مبدأ عدم قتالهم لأنهم يشهدون شهادة الاسلام ويقيمون الصلاة عد بعض الناس الذين أمنوا بمسيلمة أو العنسي أو سجاح ، فكان رد الخليفة على عمر حاسما فقال له: أخوار في الجاهلية جبان في الإسلام. ولعل هذه المقولة اصبحت فيما بعد الارضية التي تنطلق منها فكرة إعلامية الشورى وليس إلزاميتها للسلطان كما هو مقرر في الاحكام السلطانية، علما بأن عمر عندما ألت إليه الخلافة فك أسرى القبائل الممتنعة وأخلى سبيلهم كما ذكر الشوكاني في نيل الاوطار.
المهم أن قرر الخليفة بقتل سكان الاطراف الممتنعين أخذ مجاله للتنفيذ مباشرة وعلى أراضى تلك القبائل، حيث تم إعلان الحرب رسميا على هؤلاء تحت اسم (المرتدين) رغم شهادتهم شهادة الاسلام وإقامة الصلاة كما يفهم من نص الحوار الذي دار بين عمر أبي بكر، فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، فقال عمر : فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.(صحيح مسلم)
ولابد من تقرير حقيقة مفادها بأن هذه الحروب دارت رحاها بين جمهرة من الصحابة؛ الصحابة الذين كان بيدهم زمام السلطة والصحابة المتأولين لآية الزكاة أو المتمردين على السلطة المركزية أو المنكفين إلى فكرة القبيلة، وقد راح ضحية هذه الحروب الطاحنة آلأف من المسلمين منهم عدد غفير من الصحابة الذين شهدوا بدرا وبيعة الرضوان وغيرها من المشاهد، ويبدو أن القاتل يقاتل باسم الله والمقتول يردد أطعنا رسول الله مادام وسطنا...فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر. وهذا يشير إلى أن القتال كان قتالا سياسيا لإخضاع قبائل الاطراف كقبائل اليمن والبحرين، أو القريبة من دولة العاصمة كبني عبس، وذبيان، وأسد، وبكر، وغطفان، وطيء، وسليم، وهوازن، وتميم وغيرها.
ويبدو أن تلك القبائل كان وراء أمتناعها عن بيعة أبي بكر بالخلافة هو أقصائها من حق الشورى والمشورة في تعين الخليفة بعد رسول الله فلم تشهد مداولة السقيفة ولم تدع إلى ذلك ناهيك عن أخذ رأيها في الترشيح. وبهذه الاقصائية المبكرة في الفكر السياسي فتح الباب على مصراعيه في إراقة دماء المعارضين لسياسات حكومة العاصمة، فثمة روايات في كتب التاريخ تشير إلى أن عدد قتل حروب المسمى بالردة تجاوز الآلاف من الصحابة وكبار التابعين وحملة القرآن الكريم، بل ثمة روايات تتحدث عن المثلة بين الصحابة كما فعل الصحابي خالد بن الوليد مع الصحابي مالك بن النويرة الذي كلفه رسول الله أخذ زكاة قومه وتوزيعه على فقراءهم، فقد ذكر ابن كثير تحت عنوان (فصل في خبر مالك بن نويرة التميمي) وبعد ما سرد قصة اعتقاله قال: فقال خالد.... يا ضرار إضرب عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرا (= أي جعله من إثافي القدور) فأكل منها خالد تلك الليلة ليرهب بذلك الاعراب من المرتدة وغيرهم. ويقال إن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج لحم القدر، ولم تفرغ الشعر لكثرته. ( البداية والنهاية لابن كثير)
واللافت للنظر أن مفسر القرآن لم يجد حرجا في إقحام آي القرآن في هكذا أفعال مستهجنة عقلا وشرعا وذلك من أجل تزيين وتحسين أفعال الجيل الأول المخالفة للعقل والوحي، وهذا ما فعله القرطبي عند تفسيره لقوله تعالى في سورة التوبة ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين.. الآية)، فقال:... يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت بالنهي عن المثلة. ومع هذا فيجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة، وبالرمي من رؤس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق بعموم الآية....( تفسير القرطبي)
يبدو أن عمليات الاحراق بالنار، والقتل بالحجارة، والرمي من رؤس الجبال، والتنكيس في الآبار التي وقعت بين المسلمين في عهد أبي بكر الممثل للسلطة المركزية ومعارضيه من سكان الاطراف تجعل المقولة المنسوبة لعمر ( تلك بيعة وقى الله شرها المسلمين) محل نظر وإشكال من حيث وقاية الله سبحانه المسلمين شر بيعة السقيفة، بل لعل هذه الوقائع والاحداث من تلك البيعة (=الفلتة) هي التي جرت على المسلمين عبر التاريخ كل الويلات والشرور التي مارستها السلطة السياسية ضد معارضيها من مقتل عثمان وما تلاها من معارك ضارية بين معاوية وعلي وعائشة في معركة الجمل وصفين والتي راح ضحيتها عشرات الآلأف من المسلمين، كذلك قتل وتشريد المعارضين والرافضين لفكرة التوريت عبر تاريخ الدولة الأموية والعباسية باسم التحالف( السيف والقلم).
وهكذا تبدو المقاربة أو القراءة الاستكشافية ليست فعلا فيزيكليا (=مجرد اصوات) وإنما نشاط معرفي ذهني يعمل على استنطاق النص في سياقاته ومساقاته لفرز قيمة نصوص الوحي مما تلبس بها من صراعات النفوس، لتميز القيمة من الذات، والنص وحامله، والفهم وتطبيقه.
يتبع