مقاربة نقدية لحديث (خير القرون قرني) (1-6)
عبدالحكيم الفيتوري
الحوار المتمدن
-
العدد: 2925 - 2010 / 2 / 23 - 23:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقاربة نقدية لحديث (خير القرون قرني) (1-6)
جاء عن عمران بن حصين عن رسول الله أنه قال:إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن. متفق عليه. وفي رواية مسلم:خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. قال الراوي لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة.(انظر الصحيحين)
قبل الدخول في تحليل هذا الحديث الذي يعد في الفكر الديني من الاحاديث الاستراتيجية التي تأسس عليها حزمة من المفاهيم كمفهوم عدالة الصحابة، ومفهوم الاجماع، ومفهوم سلطة السلف في الفهم والتنزيل. لا بد من التأكيد على أن هذه مقاربة ليست مقاربة تدنيسية ولا هي تقديسية، وإنما مقاربة موضوعية تسعى لتحليل النص من خلال تحكيم القرآن ، والعقل، والواقع، بغية تحرير قيم الوحي من أسار وقيود إكراهات التاريخ ليتمكن الفكر من الانطلاقة النهضوية والمشاركة الإيجابية في صناعة الحياة والحضارة والرقي القيمي والاخلاقي والمعرفي مع بني البشر كافة.
لذا فقد وزعت هذه المقاربة إلى أربعة نقاط أساسية، النقطة الأولى : المدرسة الكلاسيكية وفهم الحديث. النقطة الثانية: العقل يرفض منطوق الحديث. النقطة الثالثة: الوحي ينقض عصمة السلف. النقطة الرابعة: مقاربة تاريخية في الجانب الأخلاقي والسياسي للقرن الأول. ثم خلاصة المقاربة.
النقطة الأولى: المدرسة الكلاسيكية وفهم الحديث:
تناول هذا الحديث المنهج الكلاسيكي بطريقته المعهودة، من الاهتمام بسلسلة الرجال وتمجيد المتن والوقوف على ما يطلق عليها في المدونات الكلاسيكية باللطائف الفقهيه أو الحديثية، دون محاكمة متن الحديث عبر محاور النقد الثلاثة ، العقل والقرآن والتاريخ. فطفق المنهج الكلاسيكي في استخلاص اللطائف الأصولية والفقهية من ثنايا متن الحديث، فمنه من قال الأفضلية والخيرية حاصلة لافراد القرن وليست لمجموعهم، ومنه من ذهب إلى أن الأفضلية والخيرية لمجموع القرن، كما ذكر القاضي عياض عند تناوله لهذا الحديث فقال: ذهب أبو عمرو بن عبد البر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خيركم قرني على الخصوص معناه: خير الناس قرني. أى السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة، وهم المرادون بالحديث. وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وإن رآه وصحبه و لم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الآثار. (شرح صحيح مسلم للنووي)
ومنه من طفق يحصي بداية كل قرن ونهايته من الناحية الزمنية دون استنطاق للسياق التاريخي والمساق الثقافي والسياسي المنتج لهذا حديث، فقد ذهب ابن تيمية هذا المذهب العددي فقال: فإن الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين باحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدوله الأموية وأوائل الدولة العباسية...(انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية، المجلد العاشر)
ويبدو أن المنهج الكلاسيكي انتهى به المطاف إلى التسليم المطلق بمنطوق متن الحديث ومن ثم تأسيس سلطة استدلالية لأفعال وأقوال القرون الثلاثة بلغت مرتبة العصمة ومصاف النبوة كما صرح بها الألباني حين سأله سائل عن تعريف السلفية، فقال الالباني: الدعوة السلفية نسبة إلى ماذا ؟ السلفية نسبة إلى السلف، فيجب أن نعرف من هم السلف إذا أطلق عند علماء المسلمين (السلف)، وبالتالي تفهم هذه النسبة، وما وزنها في معناها وفي دلالتها، السلف هم أهل القرون الثلاثة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، في الحديث الصحيح المتواتر المخرّج في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. هؤلاء القرون الثلاثة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية. فالسلفية تنتمي إلى هذا السلف، والسلفيون ينتمون إلى هؤلاء السلف، إذا عرفنا معنى السلف والسلفية، حينئذٍ أقول أمرين اثنين : الأمر الأول: أن هذه النسبة ليست نسبة إلى شخص أو أشخاص كما هي نسب جماعات أخرى موجودة اليوم على الأرض الإسلامية، هذه ليست نسبة إلى شخص ولا إلى عشرات الأشخاص، بل هذه النسبة هي نسبة إلى العصمة، ذلك لأن السلف الصالح يستحيل أن يجمعوا على ضلالة، وبخلاف ذلك الخلف، الخلف لم يأت في الشرع ثناء عليهم، بل جاء الذم في جماهيرهم.
فإذن إذا عرفنا هذا المعنى للسلفية، وأنها تنتمي إلى جماعة السلف الصالح، وأنهم العصمة فيما إذا تمسك المسلم بما كان عليه هؤلاء السلف الصالح.ثم قال:...يستحيل عليه إلا أن يكون سلفيا، لأننا فهمنا أن الانتساب إلى السلفية يعني الانتساب إلى العصمة، من أين أخذنا هذه العصمة، نحن نأخذها من حديث يستدل به بعض الخلف على خلاف الحق، يستدلون به على الاحتجاج بالأخذ بالآخرية مما عليه جماهير الخلف، حينما يأتون بقوله عليه السلام : لا تجتمع أمتي على ضلالة. (انظر النص كاملا، موقع الألباني، ويمكنك مراجعة فتاوى اللجنة الدائمة المجلد الثاني في تعريف سلطة القرون الثلاثة)
وهكذا انتج العقل الكلاسيكي من هذا الحديث المنتج توظيفيا سلطة معصومة وهي سلطة السلف، فصار لا يستقيم فهم الكتاب إلا بفهم السلف، ولا يجوز أن يكن لك قولا ليس عندك فيه سلف، بل وصل الأمر إلى الإيمان بأنه: لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها... وهلم جرا من مقولات مستفضية ومشهورة عند الجميع، على الرغم من صحة وثبوت حزمة اسانيد وأحاديث في مدونات الحديث الكلاسيكية تنافي منطوق حديث( خير القرون قرني) وما ذهب إليه العقل الاحالي من عصمة القرون الثلاثة، ومن هذه الأحاديث حديث أنس عن النبي قال: ليردنّ عليَّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحاب، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك. وجاء في رواية أبي هريرة عند البخاري أنه قال صلى الله عليه وسلم: بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم فقلت: أين قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم ؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم. قلت: أين ؟ قال: إلى النار والله، قلت : ما شأنهم ؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقرى، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم. (= وهمل النعم: إلا بل الضالة وهو كناية عن نجاة القلة منهم) . وفي رواية ابن عباس قال: قال رسول الله: تحشرون حفاة عراة غرلاً ثم قرأ ( كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين )، فأول من يكسى إبراهيم ، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال، فأقول أصحابي: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقول كما قال العبد الصالح: عيسى ابن مريم ، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم .
وفي رواية سهل بن سعد يقول صلى الله عليه وسلم: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثم يحال بيني وبينهم .زاد أبو سعيد فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي. ) انظر مسند أحمد، المستدرك للحاكم، ومسند أبي يعلى) وجاء عن العلاء بن المسيب عن أبيه، قال: لقيت البراء بن عازب فقلت: طوبى لك صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وبايعته تحت الشجرة. فقال: يا بن أخ، إنك لا تدري ما أحدثنا بعده. (صحيح البخاري)
ولكن أبى المنهج التمجيدي إلا مزاحمة سلطة الوحي بسلطة بشرية، وسلطة العقل بعصمة تاريخية، لدرجة أعفى العقل وهو مناط التكليف ومنحه إجازة مفتوحة حتى لا يتفكر ويتدبر فيما يلقى إليه من نصوص دينية ملتبسة بنفوس بشرية، فاختلطت عليه القيمة بالذات والنص وحامله، والفهم وتطبيقه. وهذا يستوي فيه اتباع المذهب السني والمذهب الشيعي على حد سوى حيث أنهما يتقاطعان في ذات السمات من الإيمان بالإسلام المؤول، وخضوع لسلطة التاريخ. والغريب أن تلك السمات تشكل جزءا لا يتجزأ من ذاكرة وضمير المجتمع المتخلف الذي لا يهون عليه نقدها وتجديدها ناهيك عن هدمها والتمرد عليها، وكأن لسان حاله يرد (...إنا وجدنا أبائنا على أمة وإنا على أثارهم مهتدون...ومقتدون...) ولو كانت مقولات الاباء والاسلاف خارج نطاق اهتمامات وقضايا مجتمعه، وتزيد من معاناته وتخلفه وقد يكون فيها حتفه... أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون !!
النقطة الثانية: العقل يرفض منطوق الحديث .
تدور محاور المقاربة النقدية لنصوص الروايات والاتفاقات والاجماعات على عدة مرتكزات ومسارات منها، أن السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة هو البحث العلمي الحر بمناهجه ومكوناته المتعددة والمتنوعة، في إطار التحرر من الانطواء على الذات والتمرد على المنهج الكهنوتي التسليمي، والانفتاح على الغير بحوار عقلاني منفتح، لآن الحقيقة لا يملكها الفرد المنعزل ولا الحضارة المنطوية على ذاتها.
ايضا لن يستقيم انفتاح وحوار واستفادة دون تمييز لما هو خاضع للبحث العلمي من غيره، ودون تحديد للمفاهيم الاساسية التي يقوم عليها الفكر الديني ومصادر تكوينها؛ من إلهي وبشري، وقطعي الدلالة وظني الدلالة وذلك في إطار تحليلي لا تلقيني حشوي، لأن المنهج الاسلامي الكلاسيكي الحشوي يعاني من فقر معرفي في أساليب وأدوات البحث العلمي الحر. علما بأن تحديد ماهية المفاهيم الفكرية بصورة علمية تساعد على الاستفادة من المناهج العلمية وأدواتها للوصول إلى حقيقة الاشياء وتحرير معانيها. وبدون ذلك يصبح التعاطي مع البحث العلمي والحوار العقلاني مع منتاجات الغير بالمنهج الكلاسيكي مضيعة للوقت والجهد وضياع في غير سبيل الحقيقة.
ولا نذهب بعيدا فإن الفكر الاسلامي اليوم بألوانه المتعددة يعيش الماضي بمشاكله ويفتح جبهات في أرض الحاضر بقضايا الماضي والاسلاف ومرد ذلك إلى عدم تحرير المفاهيم والضبابية القاتمة في سماء تكوينها في إطار (التدافعية=الفرق، والمذاهب)، و(التحالفية= السيف، والقلم)، كمفهوم النصوص المؤسسة؛ النص الناجز والنص المنفتح، وكمفهوم عدالة الصحابي، وآئمة آل البيت، ودقة مدونات الرواية، وحجية الاجماع، وسلطة السلف، بل وسلطة النص ذاته. كل ذلك يتطلب تطبيق المنهج العلمي بصرامة تكشف عن كيفية انبثاق هذه المفاهيم من السياقات اللغوية والتاريخية المرافقة وربطها بظروف الزمان والمكان واستنطاقها وفهمها في سياقها ومساقها لتكون معاصرة لزمانها ومن ثمة قراءتها وإعادة تركيبها كنص تاريخي يخضع لتأثيرات عوامل شتى، ومراعاة حجم تلك التأثيرات في الدال والمدلول من مفردات تلك المفاهيم.
ويبدو أن خطورة عدم الاهتمام بدقة وتحرير ونقد المفاهيم المؤسسة للفكر الديني بالمنهج العلمي الحر، لا تنعكس على خطأ في الفهم والادراك فحسب، ولا ينعكس على صعوبة التجاوب بين الحاضر والماضي فحسب، ولكن خطورتها تمتد أيضا إلى السلوك، وإلى التصرف الذي يتبعه كل حسب المفهوم الذي ينتهي إليه. ومن ثمة استحالة ممارسة التجديد، والحوار العلمي، والاستفادة مما عند الغير، ولذا فقد تاه الفكر الديني في متاهات خطيرة انعكست على حياة اتباعه الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وخطر هذا الاضطراب وعدم نقد المفاهيم يتعدى ذلك إلى العلاقات البينية والعلاقات الكونية مما يعني عدم تحقيق الاستخلاف واستعمار الارض والمشاركة في الحضارة، بل يعني إعاقة عجلة الحضارة القائمة والمتحركة.
أننا أمام حزمة من المفاهيم قدمت في غلاف مقدس في إطار المثالية والنموذجية التاريخية بحاجة إلى فك وتركيب، وفرز وتمييز، وتهذيب وحذف، بأدوات ومناهج البحث العلمي الحر. وهذا ما لا يمكن القيام به من خلال أدوات ومنهج البحث الكلاسيكي الكهنوتي، لأنه مطالب إيمانيا بالتقيد الصارم بتلك المفاهيم الاستراتيجية وعدم الخروج عن تأويلية الاسلاف، إذ يظن أن تأويليتهم وتقعيدهم وتفسيراتهم لتلك المفاهيم تتمتع باستمرارية تواصلية عبر الجغرافية والتاريخ والاجيال وبالتالي فلها سطوتها عند محاولة إعادة قراءتها بمنهج البحث العلمي الحر في سياقها ومساقها. وهكذا يتم خلع القدسية على تلك المفاهيم والتأويلات البشرية والظرفية، وتوظيفها في تأبيد وهم التواصلية على الرغم من تباينها مع الحاضر والمستقبل باعتبار اختلاف ظرفية السياق والمساق والاجيال. وهنا تكمن أزمة البحث العلمي في الفكر الديني التقليدي الذي ظل مضطربا في مراحل تشكله ومتشبعا بالعمق العقائدي والتدافعي بين المذاهب والفرق.
قد يكون هذا التخلف في التفكير والبحث العلمي راسبة من رواسب التخلف الفكري، أو نتيجة لغياب الفكر العلمي مدة طويلة من الزمان لحساب الفكر الديني الكلاسيكي. وقد يكون ناتجا من عدم خلع ثوب القداسة عن تلك المفاهيم، أو عدم إيمان الفكر الديني بمبدأ النقد والحوار لخضوعه لسلطة الاسلاف التواصلية، وبالتالي يمتنع ويتمنع من إعادة النظر في تلك المفاهيم بالفك والتركيب والحذف، وتنقيتها مما ألصق بها في عهود الركود الفقهي، وتخلف الاجتماع السياسي. وبعبارة مؤجزة أن الفكر الاسلامي لم ينجح إلى اليوم في تحقيق القطيعة المعرفية ولذا فهو يعاني من تداخل الأزمنة المعرفية.
وهذا يطرح سؤال عميق معقد بقدر ما هو بسيط بدائي، وهو كيف نفكر في القضايا الاساسية التي يطرحها الحاضر ويرهن بها المستقبل؛ وذلك على مستوى المفاهيم، والفهم، والسلوك، والمشاركة في الحضارة الانسانية؟!!
بعبارة أخرى كيف نؤسس لمصالحة جادة مع الاسلام نفسه، وبالتالي مع خصومه، ومع منتجات الحداثة المعرفية والعلمية، لإعلان انهاء حالة الاغتراب المعرفي والنفسي التي تعانيها المفاهيم الاسلامية مع حالات الحاضر الذي لا يقر له قرار ولا يستقر له حال ولا يقنع بالجاهز من المقولات والمفاهيم ؟!
هذه أبرز محاور المقاربة والتي نسعى من خلالها قراءة تاريخ القرن الأول لكنها تعيش حاضرها بكل حيثياته،وتحترم صانعي التاريخ ورموزه بلا تقديس ولا تدنس ،وتقدر التراث كجهد اجتهادي تفاعل مع زمانه لكنها لا تصنمه، وتجعل من التاريخ والتراث مادة للدراسة له وعليه ولكنها لا تضمه إلى مصاف النص المقدس وترفعه إلى رتبة العصمة. وبالتالي يمكن لنا بهذه المقاربة أن نتجاوز القراءة التمجيدية؛ التي قرأت التاريخ وتراثه في زمانه وعاشت معه وخرجت من حاضرها، كذلك نتجاوز القراءة العدائية؛ التي تسعى لقطع الأمة عن تراثها وتاريخها وربطها واستلحاقها بتراث ومفاهيم غيرها. وأحسب أننا باستيعاب هذه المحاور نتمكن من مفارقة العقلية المتحفية، والقراءة التمجيدية، وأساليب الترديد والاستذكار، وصولا إلى الإلتزام بأدوات الاستفهام، وطرائق الاستكشاف، لتخفف من حمل التابوت التاريخي المملؤ بتقديس وتصنيم الذوات والأقوال والأفعال التي تتحكم في مجريات حاضرنا وجزئيات حياتنا ومستقبلنا، كحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم المحمل بعقيدة حتمة التدهور التاريخي.
النقطة الثالثة: الوحي ينقض عصمة السلف:
جاء في القرآن الكريم نصوص عدة تضع مواصفات محددة للخيرية والافضلية أغلبها تدور في فلك القيم الاخلاقية كالتقوى والاتباع بالاحسان بمعزل عن الاطار الزمني والمكاني، فقد جاء في قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله اتقاكم. وقوله: والسابقون الأولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه. وجاءت آيات متضافرة في ذم اتباع سيرة الاباء والاسلاف والأولين المخالفة لمنطق العقل،كقوله تعالى: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون... ومقتدون. كذلك جاءت نصوص عدة تنتقد أخلاقيات بعض أهل القرن الأول زمن التنزيل كقوله: ومن الناس من يقولوا آمنا بالله وما هم بمؤمنين. ويقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فررا. وإذا جاءكم فاسق بنبأ فاتبينوا . أيضا جاءت نصوص الوحي بأحكام وعقوبات تنزلت وتم تطبيق أحكامه على الصحابة من التنزيل، كآيات الملاعنة، وآيات الحدود، بل من الجيل الأول من كان ينوي الزواج بعائشة بعد موت النبي أذية له يقال أنه طلحة، حيث نزلت الآية تندد بهذا التصرف غير اللأئق، فقال تعالى: ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا نساءه من بعده. قال ابن حجر في ترجمة: طلحة بن عبيد الله بن مسافع ...يقال هو الذي نزل فيه قوله تعالى: وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله...الآية.(الاصابة في معرفة الصحابة)
ويبدو واضحا أن النص المؤسس لم يعر أي اهتمام لأفضلية التحقيب الزماني، والتعاقب الانساني، وإنما كان جل اهتمامه منصب على الجوانب الاخلاقية والقيم الانسانية المتجاوزة لحدود الجغرافية والتاريخ؛ كالآمانة والعفة والعدل واحترام الانسان وإكرامه،( ولقد كرمنا بني آدم ).
يتبع (1-6)